تصدُّع قابلٌ للتفاقُم: تداعيات أزمة التغييرات الدستورية على الجيش الإسرائيلي

ميركافا اسرائيلية

أسهم إقرار قانون الحد من المعقولية في الكنيست الإسرائيلي في 24 يوليو 2023، في تفاقم الأزمة الداخلية في الجيش الإسرائيلي، فقد تحولت التهديدات برفض الالتزام بالخدمة الطوعية إلى أفعال، والتي بدأت تتوسع بعد تشريع القانون. وما فاقم هذه الأزمة أكثر تصريحاتُ رئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن الحكومة مُصمِّمة على تعديل لجنة تعيين القضاة، وبعدها سوف تتوقف التغييرات الدستورية. إذ عكس هذا التصريح الاعتقاد بأن الحكومة لا تُبالي بالاحتجاجات ضمن قوات الاحتياط في الجيش، وأنها ماضية في مشروعها، وتشريع أهم عنصر في التغييرات الدستورية.

تدحرج كرة الثلج: بوادر أزمة عميقة في الجيش الإسرائيلي

أعلن الآلاف من قوات الاحتياط الطوعية تعليق خدمتهم في الجيش بسبب التغييرات الدستورية، وزادت الأعداد بعد تشريع قانون المعقولية، وشمل وحدات مختلفة مثل السايبر، والاستخبارات العسكرية، والهندسة، وسلاحي البحرية والجو، والقوات الخاصة. اعتقد هؤلاء الضباط والأفراد أن احتجاجهم سوف يوقف التشريعات القضائية كما حدث في مارس الماضي، لكن الحكومة صممت هذه المرة على تشريع قانون المعقولية، مما زاد من خيبة أملهم، وزاد معها عدد الرافضين للالتزام بالخدمة.

اقرأ أيضاً: الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سورية: تثبيت معادلة الردع في بيئة استراتيجية متغيرة

تبدو الصورة الداخلية في الجيش أسوأ مما يظهر أمام الرأي العام، ويرفض الجيش الإسرائيلي تزويد أي معلومات حول عدد رافضي الخدمة الطوعية في الجيش، حتى لا يقدم أي معلومات لأعداء إسرائيل، وحتى لا يمس بمعنويات الوحدات القتالية، وللحفاظ على علاقات مستقرة مع الحكومة. ولكنْ هناك مؤشرات تدل على تعمق الأزمة داخل الجيش، ومنها أن الجيش طلب من ضباط فيه أن يمددوا فترة خدمتهم لسد النقص في بعض الوحدات. 

ويرفض رئيس الحكومة انعقاد المجلس الوزاري المصغر لنقاش الأوضاع في الجيش، على الرغم من توجيه رؤساء الأجهزة الأمنية بذلك، فحتى الآن لم ينعقد أي اجتماع للمجلس الوزاري المصغر أو للحكومة من أجل الحديث عن هذه الظاهرة، ويكتفي نتنياهو بحصر الحديث حول الموضوع بينه وبين وزير الدفاع يوآف غالانت، ورئيس هيئة الأركان هرتسي هليفي.

وقد أجبر أعضاء كنيست من المعارضة رئيسَ لجنة الخارجية والأمن على عقد اجتماع خاص للجنة في 31 يوليو الماضي، لبحث موضوع جهوزية الجيش بمشاركة وزير الدفاع غالانت. وقال وزير الدفاع في الجلسة إن الجيش لديه القدرة والجهوزية في الوقت الحالي، ولكن تداعيات الأحداث الأخيرة ستظهر على المدى البعيد، وأضاف وزير الدفاع أيضاً أنه بالرغم من جهوزية الجيش فهناك تآكل في تماسكه الداخلي، وأن هذا الأمر من شأنه المسّ بالأمن القومي. حاول غالانت أن يخفف من وطأة رفض الخدمة الطوعية على جهوزية الجيش، بيد أن أعضاء كنيست شاركوا في الجلسة صرّحوا في أعقابها أن وضع الجيش مقلق من حيث الجهوزية، ومن حيث انتظام عمل الوحدات المختلفة فيه بالذات فيما يتعلق بالتدريبات، وبخاصة في سلاح الطيران. وفي الوقت نفسه، حذَّرت شخصيات عسكرية مطلعة على الوضع في الجيش من تعمق الأزمة في المؤسسة الأمنية، ووجهوا نقداً إلى قادة الأجهزة الأمنية، وتحديداً رئيس هيئة الأركان ورئيس الشاباك ورئيس الموساد ومفتش الشرطة، على وقوفهم جانباً دون اتخاذ أي موقف من ظاهرة رفض الخدمة العسكرية. 

وقد تبنى الجيش في المرحلة الأولى من رفض الخدمة الطوعية مبدأ “الاحتواء” للرافضين، من خلال فتح حوار معهم، ومنع انتشار الظاهرة في وحدات الجيش وضباطه. أما في هذه المرحلة فيتبنى الجيش سياسة مختلفة تتمثل في التستر على حجم الظاهرة لأسباب أمنية وسياسية، ومحاولة التعامل مع النقص الحاصل في ضباط الاحتياط، لاسيّما في الوحدات الحيوية، من خلال تمديد خدمة ضباط احتياط آخرين، أو دمج ضباط من الجيش النظامي في الوحدات التي حصل فيها نقص، وأيضاً إدانة ظاهرة رفض الخدمة، فقد قال رئيس هيئة الأركان هليفي: “لا يوجد لأي شخص الحق القول بأنه لن يخدم، وليس له الحق أن يعصي الأوامر أو يرفض الاستدعاء”.

التداعيات القصيرة والبعيدة الأمد على الجيش

يشير تمير هايمن، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، ومدير معهد دراسات الأمن القومي حالياً، إلى تداعيات التغييرات الدستورية على الجيش، على المدى القصير والمتوسط والبعيد. فعلى المدى القصير، سيتأثر تماسك الجيش وتكتله الداخلي، فقد أُدخِلَ الجيش إلى الساحة السياسية، وبما أن الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي تحول إلى كراهية، فإن هذه القيم قد تغلغلت إلى صفوف الجيش أيضاً، ويخلق ذلك وضعاً لا يمكن للجيش أن يمارس مهماته في أعقابه. وعلى المدى المتوسط، ستؤثر التغييرات الدستورية في جهوزية الجيش وقدراته، فكلما ازداد عدد الضباط الذين لا يلتزمون بالاحتياط وطالت مدة ذلك، فإن الجيش يخسر من قدراته، ويعتقد هايمن أن هذا الأمر لا يمكن تقديره الآن، فجهوزية الجيش الحالية لن تتأثر كثيراً، ولكن على المدى المتوسط فإنها ستتراجع بشكل كبير. أما على المدى البعيد، فستتراجع الدافعية للتجنُّد للجيش، وهو أمر حيوي وخطر لجودة الجيش وهويته. وبرأيه، فإن الوضع سيكون أخطر إذا شُرِّعَ قانون تجنيد المتدينين، وقانون تعليم التوراة. ويصل هايمن إلى نتيجة أن الضربة التي تلقاها الجيش الإسرائيلي تحتاج إلى سنوات لترميمها، حتى لو توقفت التغييرات الدستورية. أما إذا استمرت التغييرات فإن تداعياتها على الجيش سوف تتفاقم، وبحسب تعبيره “سيتغير الجيش الإسرائيلي أمام أعيننا للأبد”.

ويتفق العقيد احتياط أرييل هايمن مع الرأي الذي يعتقد بأن تداعيات التغييرات الدستورية على الجيش لن تكون على المدى القصير بل على المدى البعيد، وسيكون وقعها “أضعاف” مما يشهده الجيش حالياً. ويوضح هايمن أنه إذا استمر الوضع في رفض الخدمة الطوعية فإن الجيش سوف يفقد محوراً مهماً من قوته، وهو “جودة الأفراد”.

وبناء على ذلك، من الممكن تقسيم تداعيات التغييرات الدستورية على الجيش إلى مجالين: مكانة الجيش في المجتمع الإسرائيلي، والتداعيات على جهوزية الجيش من الناحية العسكرية.

1. مكانة الجيش

يحظى الجيش الإسرائيلي، بشكل ثابت ودائم، بأعلى مستوى من الثقة لدى الجمهور الإسرائيلي، إذ يصل مستوى ثقة الجمهوري اليهودي بالجيش إلى نحو 88% (وتأتي بعده مؤسسة رئاسة الدولة بنسبة 67%). ويحظى الجيش بهذه الثقة لأهمية الأمن في المجتمع الإسرائيلي من جهة، وتعريف الجيش بأنه “جيش الشعب” من جهة أخرى، حيث تتلاشى فيه الفروقات الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية باعتباره مؤسسة “مقدسة”، تمنح الجميع التقدم في صفوفه بحسب الكفاءة الشخصية وليس بحسب الانتماء الطبقي أو الأيديولوجي. 

ويُعد قطاع الاحتياط الطوعي ركناً مهماً في الجيش الإسرائيلي، واعتماد الجيش بشكل كبير عليه نابع من الثقة المتبادلة بين الجيش والشعب، التي تدفع الضباط إلى الخدمة في الجيش بشكل طوعي، وبخاصة في الوحدات المرموقة والحيوية التي يعتمد فيها الجيش على ضباط وجنود الاحتياط الطوعي. فعلى عكس وحدات الاحتياط البرية العادية (مثل سلاح الدبابات)، التي يُستدعى أفرادها للتدريب مرة في السنة، فإن الوحدات الخاصة والنخبوية (مثل سلاح الجو، والوحدات التكنولوجية، والوحدات الخاصة وغيرها) يُستدعى أفرادها عدة مرات في الشهر، وفي سلاح الجو يُستدعون للتدرب مرة في الأسبوع للحفاظ على مستواهم العسكري. وعليه، فإن الثمن الشخصي الذي يقدمه هؤلاء كبير، حيث يضطرون لمغادرة منازلهم وعملهم كل أسبوع للتطوع في الجيش. 

 يشير أستاذ الحقوق الإسرائيلي، عميحاي كوهن، والذي له العديد من الكتب حول القضاء والأمن القومي، إلى أن الجيش الذي يعتمد في وحداته القتالية على الخدمة الطوعية يحتاج إلى منظومة قيم مشتركة تعمل على تكتل الجيش، والإخلال بهذه القيم يهدّد الجيش بالانقسام الداخلي. ونجح الجيش فيما مضى في ترك الخلاف في المجتمع الإسرائيلي، فيما يتعلق بعلاقة المتدينين والعلمانيين ومستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وغيرها من القضايا السجالية، خارج أطر الجيش، أما في الأزمة الحالية فإن الجيش غير قادر على ذلك، لأنها أصبحت تتعلق بتهديد القيم التي على أساسها تطوع الجنود والضباط للجيش، كما تتعلق بالنظام السياسي في إسرائيل.

أسهمت التغييرات الدستورية في تآكل القوة الاجتماعية للجيش، والتي يتفق معظم الخبراء الإسرائيليين على أنها ستُرافق الجيش على المدى البعيد، فقد يحتاج الجيش إلى سنوات حتى يستطيع ترميم ما كسرته التغييرات الدستورية. فقد دخل الخلاف السياسي إلى الجيش بين الأفراد والوحدات، وبين النظاميين والاحتياط، وبين الوحدات المرموقة والوحدات الأخرى. وكل طرف من طرفي الأزمة، كان يدفع بالجيش إلى اتخاذ موقف إلى جانبه، فداعمو التغييرات الدستورية ضغطوا على الجيش لأخذ موقف حازم ضد رفض الخدمة العسكرية الطوعية، مُطالبين الجيش بعدم إصدار أي بيان أو موقف متفهم أو مؤيد للاحتجاجات داخله، وقد وبَّخ نتنياهو في محادثات داخلية رئيس هيئة الأركان، قائلاً له إن الدولة تنفق على الجيش 70 مليار شيكل ليس من أجل أن يُضرب أفراده عن العمل. أما معارضو التغييرات الدستورية فأرادوا من الجيش تفهُّم رفض الخدمة، وتأكيد تداعيات التغييرات على الأمن القومي ونقلها إلى الجمهور. 

سيزداد تآكل مكانة الجيش إذا استمرت الحكومة في التغييرات الدستورية، وهذا يعني أنها لا تُبالي برفض الخدمة الطوعية، وهو أكثر سلاح تأثيراً يمكن أن يستخدمه معارضو التغييرات الدستورية في ظل وجود حكومة يمينية متطرفة غير مبالية بالاحتجاج المدني المتواصل ولا تعير له أي اهتمام. بيد أن الأمر لن يتوقف عند التغييرات الدستورية، فالأزمة سوف تتفاقم إذا نفّذت الحكومة وعودها للأحزاب الدينية الحريدية بتشريع قانون الخدمة العسكرية للمتدينين وقانون تعليم التوراة. وقد أمهلت الأحزاب الدينية نتنياهو حتى دورة الكنيست الشتوية المقبلة لتشريع قانون الخدمة العسكرية على الأقل. وينص القانون على إعفاء الطلبة المتدينين (الحريديم) من الخدمة العسكرية من جيل 23 عاماً، بينما ينص القانون الثاني، الذي تطالب الأحزاب الدينية بأن يكون قانون أساس (أي دستوري)، على مساواة امتيازات الطلبة المتدينين بمن يخدمون في الجيش.

ستُثير هذه القوانين الغضب في الشارع غير المتدين الإسرائيلي، وسوف تدفع إلى المزيد من رفض الخدمة العسكرية، ما سيُفاقم الأزمة في الجيش الإسرائيلي، وقد تهدد جودة الأفراد داخل الجيش، فلن يقبل الضباط الذين أعلنوا عن معارضتهم للتغييرات الدستورية أن تقرر أحزاب لم يخدم قادتها ولا ناخبوها في الجيش مصيرَ المؤسسة العسكرية وامتيازات أفرادها، وسيسهم ذلك في تآكل الجيش من الداخل أكثر وأكثر.

2. الجهوزية العسكرية

وقّع أكثر من ألف فرد من سلاح الطيران، ونحو عشرة آلاف من قوات الاحتياط من وحدات عسكرية مختلفة على عرائض أعلنوا فيها عن تعليق خدمتهم الطوعية في منظومة الاحتياط. ونفّذ المئات منهم قرارهم بعد تشريع قانون المعقولية. أقلق هذا الأمر قادة الجيش، من حيث تأثيره في مستوى جهوزيته العسكرية في الوحدات الفاعلة، فضلاً عن قلقهم من تأثيره في وحدة الجيش الداخلية.

تُعد الخدمة الطوعية ركيزة أساسية في القوة القتالية وجهوزية الجيش الإسرائيلي، فنظام الخدمة العسكرية وقوة الجيش يعتمدان على القوة الطوعية، وصحيح أنه وفق قانون الخدمة العسكرية فإن كل شاب/شابة مُلزم/ملزمة بالالتحاق بالجيش، ولكن بحسب معطيات الجيش الإسرائيلي، فقد تجنَّد للجيش في العام 2022 69% من الرجال اليهود، و56% من النساء اليهوديات، لذلك فالجيش بحاجة إلى المتطوعين في الوحدات النخبوية، ومتطوعين للاشتراك في دورات تأهيل الضباط؛ فحتى نظام الاحتياط هو في جوهره خدمة طوعية، فنسب قليلة فقط تخدم في الاحتياط بصورة متواصلة وجدية. وبناءً على ذلك فإن الضباط الذي يخدمون طواعية هم الذين يشكلون العمود الفقري للقوة العسكرية للجيش.

وقد أشارت مصادر مقربة من الجيش إلى أن وحدة 8200 التكنولوجية المشهورة التابعة للاستخبارات العسكرية، قد وصل بها الحال إلى حد أن عدد الذين يعملون فيها تراجع بشكل كبير جداً، وأن قلة من يشغلون مهماتهم في الوحدة. وقد أخبر أعضاء الوحدة، الذين هم في أغلبهم من قوات الاحتياط الطوعية، المسؤولين عنهم بأنهم لن يخدموا في الوحدة، وفسروا ذلك بذرائع مختلفة، ولكن الجميع يعلم أنها بسبب التغييرات الدستورية.

وقد حذَّرت مصادر أمنية من أن جهوزية سلاح الجو الإسرائيلي سوف تتراجع بشكل كبير خلال أسابيع قليلة، مما قد يضطر قائد سلاح الجو تومر بار، إلى إعادة تنظيم السلاح بشكل مختلف، وتقييم ما إذا كان سلاح الجو جاهزاً لحرب في جبهات عدة. وقد اعتبر عضو الكنيست متان كهانا، الذي كان طياراً في سلاح الجو، أن الوضع فيه مُقلق بأضعاف مما وصفه وزير الدفاع غالانت في اجتماع لجنة الخارجية والأمن، وبخاصة في الكلية العسكرية للطيران، والشعبة التنفيذية.

تتمثل المشكلة الآنية في سلاح الجو في غياب ضباط التدريب في الكلية العسكرية للطيران، حيث تراجع عدد التدريبات في الأسابيع الأخيرة بشكل كبير جداً، إذ تعتمد الكلية العسكرية على ضباط الاحتياط المتمرسين الذين لديهم خبرة كبيرة في هذا المجال. وتكمن مشكلة الجيش أنه مع استمرار امتناع ضباط الاحتياط عن الانخراط في التدريب، تعلماً وممارسة، فإن قائد سلاح الجو سوف يضطر إلى إعادة تعريف سقف الجهوزية المطلوب وتخفيضه، مما يشكل خطورة على قدرة سلاح الجو على تنفيذ مهماته القتالية. وصرّح قائد سلاح الجو الإسرائيلي، تومر بار، خلال لقائه بضباط في الاحتياط، أن سلاح الجو يملك الجهوزية في الوقت الحالي، و”لكن الأزمة بداخله آخذة بالتعمُّق”.

وامتدت الأزمة داخل الجيش إلى سلاح البحرية أيضاً، فمؤخراً أعلن ضابطان، هما العقيد عوفر دورون والعقيد إيال سيغف وهما اثنان من ضباط الاحتياط الخمسة الذين يعملون مسؤولين عن منظومة القتال ونواباً لقائد سلاح البحرية في أوقات الحرب والطوارئ، عن تعليق خدمتهم الطوعية. وانضم هذان الضابطان إلى العشرات من ضباط الاحتياط الذين علقوا خدمتهم الطوعية في الأقسام التنفيذية والتدريبية في سلاح البحرية، وبخاصة في الوحدة الخاصة 13. 

استنتاجات وتوقعات

يمر الجيش الإسرائيلي بأصعب الأزمات منذ تأسيسه عام 1948. وتهدد هذه الأزمة مصادر قوته الأساسية، الاجتماعية والعسكرية. ولا تنبع قوة الجيش من حرفيته المهنية فقط، بل من مكانته الاجتماعية في مجتمع مهاجرين منقسم على ذاته في جميع المجالات تقريباً. ودخول الخلاف السياسي، الأكثر حدة في تاريخ المجتمع الإسرائيلي، إلى الجيش يُضعفه من الداخل، فقوة الجيش كانت تعتمد على كونه محل إجماع وبعيداً عن أي خلاف داخل المجتمع الإسرائيلي، وبقي هو المؤسسة الوحيدة تقريباً (المؤسسة الأمنية عموماً) خارج تأثيرات الصراعات السياسية والأيديولوجية.

يُعد الجيش الإسرائيلي مؤسسة قوية، والأزمة الحالية لن تمنعه من خوض مواجهات أو تنفيذ مهمات عسكرية، فضلاً عن أن قوات الاحتياط الطوعية لن تقف جانباً في حال دخلت إسرائيل حالة طوارئ عسكرية. ولكن المشكلة لدى الجيش ستكمن في الجهوزية على المدى القصير، وفي وضع الجيش نفسه على المدى البعيد. 

فعلى المدى القصير، سيتراجع مستوى جاهزية الوحدات العسكرية، فضلاً عن تراجع مستوى كفاءة الأفراد، بغياب التدريب المنتظم، والتأهيل عالي المستوى الذي كان ضباط الاحتياط يشرفون عليه. وعلى المدى البعيد، فإن الدافعية للتجند سوف تتراجع، وبخاصة من الشرائح الاجتماعية العلمانية القوية التي تملأ الوحدات المرموقة في الجيش الإسرائيلي، وليس من المستبعد أنه مع استمرار التغييرات الدستورية وتشريع القوانين الدينية سوف يهاجر الكثير من أفراد تلك الوحدات إلى خارج البلاد، وهو ما ينعكس على قدرات الجيش على المدى البعيد. 

علاوة على ذلك، فإن انتقال الخلاف السياسي إلى داخل الجيش كسر الخطوط الحمر الموجودة، ولن يكون الجيش منيعاً في المستقبل من تفاقم أزمة تماسكه الداخلي جراء الصراعات السياسية والأيديولوجية في المجتمع الإسرائيلي. ومثلما أن اليمين الإسرائيلي يحارب المؤسسات الأكاديمية والقضائية والإعلامية وغيرها من أجل تغييرها، فسيكون الجيش محوراً مهماً له في المرحلة المقبلة، وبخاصة في الوحدات النخبوية، وقد بدأت أصوات الآن داخل اليمين تهاجم الجيش بشكل غير مسبوق، وهذا الأمر سيمثل خطراً حقيقياً على الجيش الإسرائيلي على المدى البعيد.

السابق
كهرباء لبنان: للمرة الأولى منذ سنوات موازنة المؤسسة بدون عجز مالي
التالي
من التشدُّد إلى التراخي: كيف تعمل أسعار النفط على رسم ملامح السلوك الأمريكي تجاه إيران؟