وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الفيدرالية وموانعها المبطِلة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.


ينطلق أصحاب مشروع الفيدرالية في لبنان من مسوغين أساسيين: فشل النظام السياسي الحالي في حفظ التوازن الطائفي، وفي منع الاقتتال الطائفي على مر الزمن، إضافة إلى عجزه عن توفير ضمانات كافية للحد من غلبة مكون على آخر، أو من سوء استعماله للسلطة.  ثانيهما، راهن سياسي يتمثل في فائض قوة حزب الله، التي لم تعد مجرد قوة ممانعة خارجية، بل بمثابة وصاية شبه كاملة على مؤسسات الدولة، فضلا عن الارتهان المبطن للنظام الإيراني.  هو راهن لا يبدو في الافق من مخرج منه، سوى اعتماد الفيدرالية، التي تعزل حزب الله داخل مكونه الطائفي، وتُصيِّرَهُ مشكلة بين الشيعة في منطقة حكمهم الخاص، بدلاً من أن يكون مشكلة لبنانية أو وطنية، تتحمل أوزاره وأعباءه المكونات الطائفية الاخرى.

قد يحمل مشروع الفيدرالية مسوغات موضوعية، لكنه طرح لا يحل المشكلة اللبنانية، بل يزيدها تعقيداً وصعوبة، ويمثل خطوة إلى الوراء في بنى الدولة وأشكال النظام السياسي، إضافة إلى صعوبة تحقيق هذا المشروع وربما استحالته، من دون أن يسبقه انهيارات وصراعات وتطهير طائفي في العديد من المناطق.  إذا لدينا موانع عملية وموانع نظرية.

الموانع العملية، فتتمثل في التداخل السكاني بين الطوائف في جميع المناطق اللبنانية

أما الموانع العملية، فتتمثل في التداخل السكاني بين الطوائف في جميع المناطق اللبنانية، وهو تداخل يصعب معه رسم حدود جغرافية دقيقة، بين الكانتونات الطائفية المتعددة. ومع التباين الديني والثقافي بين المكونات اللبنانية المتعددة، فإن السير بالفيدرالية، سيؤدي إلى تهجير وترحيل طوعي وقسري لكثير من اللبنانيين من قراهم ومدنهم، بل ربما يؤدي إلى تطهير الأقليات الطائفية التي تحكمها أكثرية طائفية أخرى، بحكم رغبة كل مكون، على تحقيق تجانس طائفي كامل، فوق الأراضي التي يشكل أفراده فيها أكثرية عددية.

التباين الحاد بين المكونات المتعددة حول هوية لبنان وتموضعاته الدولية إضافة إلى التفاوت في الإمكانات العسكرية والقدرات الإقتصادية بينها سيحُول دون التفاهم على سلطة فيدرالية

كذلك، فإن التباين الحاد بين المكونات المتعددة حول هوية لبنان وتموضعاته الدولية، إضافة إلى التفاوت في الإمكانات العسكرية والقدرات الإقتصادية بينها، سيحُول دون التفاهم على سلطة فيدرالية، تتولى شؤون المال والسياسة الخارجية وأمور الدفاع.  فالأزمة السياسية الراهنة في لبنان، لم تكن يوماً حول إمكانية تعايش مكوناته، أو بناء مشتركات ثقافية وتجارب حياتية جامعة، وإنما حول كليات النظام الأساسية، من سيادة وسياسة مالية وعلاقات دولية.  وهي أزمة ستستمر في النظام الفيدرالي، وستتسبب بتعطيل الحكومة الفيدرالية نفسها، التي يتطلب فعاليتها تناغما وتوافقا وإجماعاً بين جميع المكونات.

الهوية الوطنية، تتأسس على رابطة مدنية ذات طابع حقوقي وتعاقدي أي طوعي

هذا يعني أن فكرة الفيدرالية لن تحل المشكلة الراهنة، وسيستمر الخلاف على سير عمل الحكومة الفيدرالية، ما سيؤدي إلى شلل مؤسساتها. ومع إصرار كل مكون على إدارة شؤونه المحلية والدولية والدفاعية، بنحو مستقل عن المكونات الأخرى، فإن الذهاب بمشروع الفيدرالية حتى النهاية، سيتحول إلى  مشروع تقسيم للوطن، ونهاية للكيان اللبناني نفسه.

أما الموانع النظرية، فتتعلق بمفهوم الدولة الحديثة، التي تقوم على الفصل بين المجال الديني والمجال السياسي، ما يجعلها مفهوما عقلياً مستنداً إلى قواعد عقلية لا قواعد ومبادىء دينيتين.  كما إن الهوية الوطنية، تتأسس على رابطة مدنية ذات طابع حقوقي وتعاقدي أي طوعي، لا على رابطة دينية التي هي رابطة غير طوعية، يولد معها الإنسان من دون اختيار منه، ما يجعلها هوية عضوية.

الفيدرالية على أساس طائفي، يعني التطابق التام بين الهوية الدينية والهوية السياسية أو الوطنية، ومع غياب أو ضعف الروابط المدنية المستقلة عن الدين، ومع هشاشة الثقافة الديمقراطية عموماً في وعي اللبنانيين، فإن الفيدرالية ستتخذ مساراً ارتكاسياً، باتجاه توليد كانتونات دينية، تتسبب بتأكل مساحة الحياة السياسية المستقلة عن الدين، وتتكثف في داخلها الولاءات على أساس ديني. هذا الامر سيعزز نفوذ المؤسسات الدينية في الحياة السياسية، وتتأسس مشروعية السلطة تدريجيا على الاعتبار الديني. بالتالي يتقوض مفهوم الدولة الحديث، وتبدأ الديمقراطية بالتآكل إلى حد التلاشي، بحكم أن مدار الشعبية، هو التنافس على حماية الخصوصية، ورعاية الثوابت الدينية والتقيد بها.

أما الاستشهاد بتجربة الفيدرالية السويسرية أو الأمريكية فهو في غير محله. إذ بالإضافة إلى الاختلاف العميق في سياق التجربة السياسية بين المجال الغربي والمجال العربي، فإن هذه الفيدراليات قائمة على ثقافة ديمقراطية راسخة وعريقة داخل مجتمعاتها امتدت لقرون، وعلى كيانات سياسي تأسست على أرضية علمانية خالصة، أي تستمد مبادئها من قيم الليبرالية والديمقراطية. صحيح أن الفصل بين الديني والسياسي في سويسرا ليس بنفس حدة اللائكية الفرنسية، ورغم نفوذ بعض الكنائس المسيحية داخل الحياة السياسية فيها، إلا أن مرجع السلطة ومشروعيتها، لا يستندان إلى الدين أو إلى ثوابته اللاهوتية، ما يجعل العلاقة بين المجالين علاقة تكامل وتعاون، لا علاقة إقصاء متبادل، أو علاقة تبعية السياسي للديني أو تبعية الديني للسياسي.  

الموانع العملية والنظرية لقيام الفيدرالية في لبنان، تعني أنه إضافة إلى عدم قدرة الفيدرالية، على نزع فتيل الأزمات القائمة والصراعات المحتملة بين المكونات المتعددة، وإلى عدم إمكانية تحققها، فإن المضي بها هو خطوة ارتكاسية إلى الوراء، تتسبب بتقويض الديمقراطية التي أساسها الحرية المطلقة، في الاعتقاد والتعبير والنشاط السياسي من جهة، وتدفع باتجاه قيام كيانات ذات طبيعة عصبوية، أساسها إلزامية الرابط الديني، ومرجعية القول الديني في مسائل التشريع والشرعية السياسية من جهة أخرى.  

مشكلة لبنان ليست في التباعد والتباين الثقافي بين اللبنانيين، فهذا ادعاء واهم بل كاذب

صحيح أن الفيدرالية استجابة لمشكلة قائمة، وتستند إلى مسوغات حقيقة وموضوعية، لكنها لا تحمل مؤونة حل هذه المشكلة، ما يجعل طرح الفيدرالية هروباً من المشكلة، وليست معالجة لها، إرجاء لأزمات قائمة وليس تفكيكها، قفزة باتجاه مستقبل مجهول. بل هي في بعض أدبياتها، إثارة لمشكلات وهمية، وصرف النظر عن مكامن العطب الجوهرية للنظام اللبناني. فمشكلة لبنان ليست في التباعد والتباين الثقافي بين اللبنانيين، فهذا ادعاء واهم بل كاذب.  كما أن مسألة السيادة ومعضلة السلاح خارج الشرعية ليست معضلة شيعية أو مذهبية، بل هي معضلة وطنية تتصل بمعنى الدولة، وحقيقة الكيان اللبناني.  والهروب من الفضاء التعددي إلى دائرة التجانس المذهبي أو الديني، هو ليس فقط خروج من التاريخ، بل دخول في طور اللادولة، الذي هو طور البداوة بتعبير هيغل.   

الفيدرالية، مثلها مثل المبادرات الأخرى، تتجنب الكشف عن المشكلات الحقيقية، التي تتسبب بتعطيل مؤسسات الدولة وبالإنهيارات المتلاحقة.  هي مبادرات تتضمن خوفاً وحذرا من التغيير الجذري، وتفتقد شجاعة البحث الجدي، في شروط إمكان قيام الدولة الحديثة، وفي تحويل الديمقراطية من احتفالية شكلية وأعراس بيعة وولاء، إلى مشهد حرية فعلية وحقيقية.      

السابق
خاص «جنوبية»: خطة امنية بعد التحذيرات الخليجية على طاولة «الامن المركزي» غدا
التالي
«أنت برّي» وما بِحلا «عالرصّ».. رئيس المجلس يستغرب وينتقد!