عن الجوهر السوري في التصعيد الأخير بجنوب لبنان

توتر حدودي في الجولان

يعيش جنوب لبنان أجواء تصعيد في الأيام والأسابيع الأخيرة إثر قيام إسرائيل بتحديث التحصينات الأمنيّة وبناء سور عازل، حول الجزء اللبناني المحرر من قرية الغجر، وعملياً ضمّه إلى الجانب السوري المحتل منذ عام 1967، بينما قام حزب الله المهيمن والمتحكّم تماماً بالبلاد بإقامة خيمتين في مزارع شبعا السورية المحتلة أيضاً، ثم عمد إلى تفكيك إحداهما وإبقاء الأخرى طالباً وعلى غير عادته من الحكومة اللبنانية التصدي للممارسات الإسرائيلية بالغجر والمنطقة الحدودية بشكل عام، في موقف غريب كونه يتصرف وينفذ السياسات والممارسات وفق مصالحه الفئوية والطائفية بمعزل عن الحكومة الشرعية أو للدقة شبه الشرعية – وغير الميثاقية بالتأكيد – محلياً وخارجياً وفق المقولة الشهيرة لمسؤوله” نكون حيث يجب أن نكون” بخدمة السياسات الإيرانية التوسعية بالمنطقة.

يمكن بل يجب تقديم قراءة سورية في مقاربة التصعيد الأخير بالجنوب اللبناني حيث كان الجوهر السوري ولا يزال حاضراً في خلفيات وحيثيات التصعيد، كما المشهد بمنطقة الجنوب والمثلث الحدودي بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة.

اقرأ أيضاً: الثورات.. تقدّم أم تراجع؟

بداية، لا بد من التذكير أن مزارع شبعا وتلال كفر شوبا وقرية الغجر تم احتلالها مع هضبة الجولان في حرب حزيران/ يونيو 1967، وهي خاضعة لقرار مجلس الأمن رقم 242 باعتبارها أراضي سورية محتلة، والحديث عن لبنانيتها كان فقط لتسويغ وشرعنة سلاح حزب الله وهيمنته على البلاد بعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من لبنان صيف العام 2000، والذي تحقق ضمن عوامل وأسباب أخرى نتيجة صمود المقاومة الفلسطينية واللبنانية المستمر لعقود حتى قبل تأسيس الحزب وتحوّله إلى حشد شعبي وذراع إقليمي مركزي لإمبراطورية الدم والوهم الفارسية.

عندما تم اختراع واختلاق قصة شبعا حسب التعبير الشهير والبليغ للسياسي الوطني وليد جنبلاط طلبت الحكومة في بيروت من النظام السوري الإقرار بلبنانية المزارع والتلال والغجر وترسيم الحدود بشكل عام، وإرسال الوثائق اللازمة والمفيدة بذلك إلى الأمم المتحدة، غير أن النظام رفض كونها أرضي سورية حتى مع الملكية المشتركة للسوريين واللبنانيين فيها ضمن حرية التملك والحركة زمن الدولة العثمانية قبل الاستعمار الفرنسي، وهو أي النظام يساوم عليها كما عادته ضمن إدارته العلاقة لا الصراع مع إسرائيل وفق قاعدة رامي مخلوف الشهيرة أمن النظام من أمن إسرائيل.

كان الأمر يقتضي بالطبع ترسيم الحدود بشكل عام جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً “الحدود البحرية”، وهو ما رفضه ويرفضه نظام آل الأسد الجشع والراغب في استمرار عمليات التهريب والاقتصاد الموازي، والهيمنة على الأراضي والثروات اللبنانية واستغلالها مع أذرعه وعملائه المحليين في نشاطات مضرة بأمن واقتصاد البلدين بعيداً عن حرية التملك والحركة للمواطنين والبضائع في دول وأنظمة مدنيّة ديموقراطية لكل مواطنيها.

يبدو لافتاً أيضاً في قصة المزارع أن إسرائيل لم تضمها رسمياً إليها كما فعلت مع الجولان والقدس – احتلت عام 1967 – وتستغلها فقط للمساومة ومقابل رفض الانسحاب من الهضبة كلها فقد أبدت الاستعداد للتنازل عن المزارع وبلدة الغجر عديمة الأهمية والإستراتيجية والجغرافية عكس هضبة الجولان.

في السياق السوري-اللبناني، وبعد إجبار ثورة 14 آذار الشعبية نظام الأسد على الانسحاب وإنهاء الوصاية الأمنيّة والعسكرية على بلاد الأرز، جرى تسمين وتضخيم حزب الله وتحويله إلى جيش كامل الأوصاف للعب دور النظام المدحور، وهنا تم استغلال شبعا والغجر كذريعة للتمسك بالسلاح بحجة تحريرها، رغم أنه لا مسوغات ووثائق شرعية أو قانونية ثنائية مع النظام أو جماعية مع الأمم المتحدة والشرعية الدولية التي تعترف بها كأرضٍ سورية تندرج تحت القرار 242 مع هضبة الجولان، وكانت ضمن مفاوضات نظام آل الأسد مع إسرائيل بعد مؤتمر مدريد -1991-بينما فاوض لبنان وفق قرار 425 المعني بالأراضي المحتلة بالجنوب إثر اجتياح الليطاني عام 1978 الذي أصدر بعده مجلس الأمن قراره الأممي الشهير ومثّل مكوناً مركزياً في خطاب وسياسات الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ ذلك الحين، كما في اتفاق 17 أيار1983 مع الاحتلال الإسرائيلي بعد اجتياح 1982.

إذن، بذريعة “فبركة” شبعا والغجر جرى استغلال السلاح والمقاومة ليس فقط للهيمنة على لبنان وتحويله إلى دولة فاشلة ومنهارة، وهدم الأسس المدنيّة الديموقراطية العصرية التي قامت عليها البلاد منذ الاستقلال، وإنما للدفاع عن نظام الأسد “الساقط” بوجه ثورة الشعب السوري، ثم للتحول إلى ذراع مركزي للسياسات الاستعمارية الفارسية في العراق واليمن وهي الدول التي تتبجح طهران باحتلالها وتجنّد الحزب فيها وفق مقولة أو للدقة إقرار مسؤوله “نكون يجب أن نكون”.

إضافة إلى شبعا والغجر جرت التغطية والتمويه على السياسات الداخلية والخارجية بالقضية الفلسطينية رغم الصمت المدوّي والمخزي خلال 16 جولة قتال بفلسطين بما فيها الأخيرة التي دمرت فيها إسرائيل مخيم جنين دون أن يحرّك حزب السلاح ساكناً.

وبالعودة إلى التصعيد الأخير في الجنوب اللبناني والمستمر حتى كتابة هذه السطور، فقد جاء مختصراً المعطيات التاريخية كلها مع تحديثات ما والطلب من الدولة اللبنانية التحرك بدل من المواجهة وفق نهج الحزب التقليدي رغم إطلاق صواريخ صوتية وعبثية باتجاه فلسطين وإقامة خيمتين ثم تفكيك إحداهما في الأراضي السورية المحتلة.

  يحدث كل ذلك ليس بغرض المقاومة ولا تحرير فلسطين، بعدما صمت الحزب أثناء التصعيد الأخير كما جولات قتال عديدة بغزة وجنين والقدس حيث لا عتبات مقدسة طائفية مختلقة ومصطنعة حسب الخطاب الطائفي للحزب وإيران وأذرعها، وإنما بغرض الاستقواء على الداخل اللبناني ومحاولة تحسين شعبيته وتبييض صورته، والأهم فرض رؤيته لانتخاب الرئيس القادم سليمان الصغير – فرنجية – بالقوة، كما قال علناً أحد قياداته في مقابلة مع إحدى قنوات الحشد الشعبي الإعلامي الإيراني الناطق بالعربية، وأمام فشل محاولات فرض فرنجية الصغير “صديق الأسد” رئيساً يبدو الحزب مستعداً للتصعيد وذاهباً لحرب وللدقة جولة قتال قصيرة مع إسرائيل.

 حصل التصعيد الأخير كذلك أثناء وجود عاموس هوشستين بالمنطقة، وهنا ثمة رواية يجب أن تروى، فعاموس يهودي إسرائيلي أمريكي خدم كضابط في جيش الاحتلال، ويعمل كمبعوث ووسيط أمريكي بين إسرائيل وحزب الله، وكان عرّاب ترسيم الحدود البحرية الذي تنازل فيه الحزب عن حقوق وثروات البلاد، بينما رفض أمين الجميل فعل ذلك في اتفاق 17 أيار، مقابل إقرار هيمنته على البلد ومنع الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية اللبنانية من أن تفيض على الجوار إضافة إلى مكاسب لراعيته إيران والإفراج عن جزء من أرصدتها وأموالها المحتجزة وقبول حكومة من أدواتها ومرتزقتها في العراق رغم خسارتهم الانتخابات البرلمانية ضمن خطوط وقواعد الاحتلال الأمريكي الكبير بلاد الرافدين.

 وعليه لا يمكن استبعاد فكرة السعي لترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل بدلاً من الخط الأزرق المؤقت وغير النهائي المعمول به حالياً وفق نفس الذهنية السابقة -مع الإتيان بسليمان الصغير رئيساً – بينما يفترض أن تكون الحدود البحرية انعكاساً لنظيرتها البرية وفق المنطق الطبيعي وقانون البحار، ولكن جرى وضع العربة قبل الحصان لاحتياجات إسرائيلية أمريكية مقابل بعض الفتات للحزب ورعاته في طهران المهيمنين بقوة على البلد.

 أخيراً وفيما يخص مآلات التصعيد الراهن فعلى الأغلب لا حرب كبيرة أو تصعيد واسعاً بالأفق وفي أسوأ الأحوال ربما تندلع جولة قتالية قصيرة لأيام ثم يتدخل الوسيط الأمريكي الإسرائيلي “عاموس” للعودة إلى التهدئة المستمرة منذ حرب “لو كنت أعلم” 2006، وطوال الـ 16 سنة الماضية ازدهر الجانب الإسرائيلي من الحدود بينما غرق لبنان في الفوضى والاضطراب والانهيار والفشل والإفلاس، كما قال منذ أيام رئيس الاستخبارات الإسرائيلية الجنرال أهارون حليفا عن حق حتى لو أراد به باطل.

 في الأخير لابد من التذكير بحقيقة مهمة وجوهرية، مفادها أن تحرير شبعا والجولان مرتبط مباشرة بتحرير القدس وفلسطين، وهذا لا يتم تاريخياً وواقعياً دون تحرير حواضرنا الكبرى المحتلة والمدمّرة في دمشق وحلب والموصل وبغداد، وهي التي أخذت على عاتقها تاريخياً مهمة دحر الغزاة الأجانب وتحرير فلسطين.

السابق
لا تمديد.. ميقاتي لا يرغب في تعيين حاكم للمصرف المركزي
التالي
«سر» في «العلن» للفنانة التشكيلية روزماري شمعون في بيروت!