«بناء عالم غير رأسمالي نحو مجتمع بلا هيمنة».. كتاب في مواجة إنتشار العنصرية!

الكتاب بالفرنسية عنوانه “بناء عالم غير رأسمالي؟ نحو مجتمع دون هيمنة”، صدر عن دار لارماتان L’Harmattan، 2023.
مؤلفه جان لوك دبرييز، مهندس، مناضل، يساري. الكتاب رائع ومؤلفه أيضاً. معرفتنا شخصية به ومنذ زمن. هو من الأنقياء في السياسة والفكر والالتزام. كنت أعرف نشاطه الفكري في النضال والمداخلات والمقالات النضالية لكنني لم أكن لأعرف فكره الثاقب وبراعته أيضاً في الكتابة بمستوى عال، جامعي، شامل. الأسلوب بسيط والمواضيع كثيرة. التوجه واضح: اشتراكي تحرري، ضد رأسمالي، بروليتاري، علماني. القراءة تنساب انسيابا ولا مجال للقارئ أن يتوقف وإذا توقف فلاستكمالها بعد حين. في زمن اعتقد فيه كثيرون أن الفكر الشيوعي الاشتراكي اليساري ولى الى غير رجعة ها هو جان لوك يبحث ويحلل ويقارب بموضوعية.

غلاف الكتاب

ففي موضوع مفهوم دكتاتورية البروليتاريا يقول أين أخطأ ماركس أو أين لم يتم فهمه. كارل ماركس وفريدريك إنجلز قطعا، ربما عن غير قصد، مع فلسفة التنوير، ولا سيما من خلال اعتمادهما ديكتاتورية البروليتاريا. يبدو أنهما اقتنعا بالتأكيد بهذه الضرورة من خلال تجربة كومونة باريس. وهكذا، كتبا في كتابهما المشترك “حزب الثورة”: “الثورة هي بالتأكيد أكثر الأشياء سلطوية، إنها فرض الإرادة على الآخرين بالبنادق والحراب والمدافع وهذه وسائل استبدادية؛ والحزب المنتصر، إذا كان لا يريد أن يكون قد قاتل عبثاً، فيجب عليه أن يستمر في الهيمنة بالإرهاب بوجه الرجعيين. هل كان بوسع كومونة باريس أن تصمد ليوم واحد لو لم تستخدم سلطة شعب مسلح ضد البورجوازي؟”.

لم تكن دكتاتورية البروليتاريا في أذهان ماركس وأنجلس تعني قط قمع كل الحريات لصالح دكتاتورية حزب واحد على المجتمع


ولكن، يقول جان لوك، لم تكن دكتاتورية البروليتاريا في أذهان ماركس وأنجلس تعني قط قمع كل الحريات لصالح دكتاتورية حزب واحد على المجتمع. لنتذكر أنه في برنامجها في 19 أبريل 1871، اقترحت كومونة باريس نظاماً للديمقراطية المباشرة والشعبية. وكانت تنوي بناء شرعيتها على الانتخابات، وعلى التزام أعضائها المنتخبين بالمساءلة عن أفعالهم، وعلى تدخل المواطنين في شؤون الكومونة. كما اقترحت ضمان “الحرية الفردية وحرية الضمير”. في موضوع دكتاتورية البروليتاريا يحاول الكاتب تصحيح المسار، العودة الى نوايا ماركس وأنجلس ليبرر هذه الدكتاتورية ولكن لفترة وجيزة. لم يرتبط اختيار كلمة “دكتاتورية البروليتاريا” في نصوص ماركس وأنجلس بقمع أي حرية. لقد أرادا فقط ذلك في مرحلة انتقالية تفرض خلالها أغلبية الشعب، السلطة الجديدة قراراتها على الرأسماليين، لتحقيق إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
جان لوك يتميز عن الأحزاب الشيوعية التقليدية بموقف معاد للستالينية: إذا كانت الحركة الاشتراكية تريد أن تجد مستقبلاً، فسيتعين عليها أن تطوي الصفحة على هذه الفظائع التاريخية التي ارتكبتها جميع الأحزاب التي كانت في السلطة وتنتمي بشكل صريح للستالينية. باختصار، سيتعين عليها العودة إلى المفهوم الذي أطلقه فلاسفة عصر التنوير، للمطالبة بالحقوق غير القابلة للتصرف لكل شخص ومفهوم الحرية، حيث يجب أن يكون كل شخص قادراً على التحكم في مصيره.
المواضيع أساسية ومفصلية وحالية يتناولها جان لوك في إثنين وعشرين فصلاً. الفصول تتوالى: الثورة الدائمة الرأسمالية، النهاية المحتومة للكوكب تملي قانونها، رأسمالية في أزمات دائمة، أصل الإنسانية يتحدد، العنصرية جريمة ضد الإنسانية، مساءلة العالمية، أي نضال ضد العنصرية؟، الفطري والمكتسب، في أصل اللامساواة بين الجنسين، الجنسانية والتكاثر، في قلب الهيمنة، أي نضال نسوي؟، الواقع الطبقي للمجتمعات المعاصرة، الطبقات الاجتماعية في المجتمع الفرنسي، العنف ضمن موازين القوى الطبقية، ليبرالية ضد اشتراكية، الطاقة في قلب الأزمة البيئية، الخ.

يدعو الكاتب القارئ إلى عدم رؤية أي تصنيف وأولويات بين الموضوعات التي سيتم تناولها والموضوعات الثانوية الأخرى التي يمكن تجاهلها.


يدعو الكاتب القارئ إلى عدم رؤية أي تصنيف وأولويات بين الموضوعات التي سيتم تناولها والموضوعات الثانوية الأخرى التي يمكن تجاهلها. يخضع اختيار الموضوعات لهدف واحد، وهو تحديد وإثبات تماسك المنطق السياسي. مسلمته: يقتضي محاربة أي شكل من أشكال الاستعباد، واستغلال الإنسان للإنسان، والسيطرة على الآخرين، والاعتداء على كرامة الإنسان.
عن البيئة: المجرم الأكبر هو الرأسمالية. إن الرأسمالية، في أكثر أشكالها جوهرية، أي في تنظيم الإنتاج عبر لازمة البحث عن الربح، هي التي ستدمر كوكبنا. الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج؛ المنافسة بين المنتجين على أساس تكاليف الإنتاج؛ تنظيم السوق للاقتصاد؛ عدم المساواة الاجتماعية كمحرك للدافع البشري؛ كل أساسيات الرأسمالية هذه لا تتوافق مع الامتثال لأبسط المعايير البيئية. السعي وراء الربح يستبعد أي تخطيط عقلاني للاقتصاد مع مراعاة الضرورات البيئية. ويذكر أن فضيحة انبعاثات فولكس فاغن الملوثة في عام 2015 يؤكد ذلك بوضوح. ألم تصدر البرلمانات قوانين متعلقة بإعفاءات ضريبية لسيارات الديزل؟
عن العنصرية: يهاجم الكاتب بشراسة بعض الكتاب العنصريين الذين قدموا تصنيفاً يقسم البشرية إلى أنواع بشرية مختلفة واضعاً الرجل الأبيض Homo europaeus في أعلى الهرم والرجل الأسود Homo afer في الأسفل. هذه الأكاذيب تم استخدامها لتبرير التوسع الاستعماري الأوروبي. اليوم، يقول الكاتب، لم يعد هناك أي شك حقيقي حول الأصل الأفريقي للإنسان العاقل، أي النوع الحيواني الذي يضم جميع البشر على قيد الحياة حتى يومنا هذا. باستثناء عدد قليل من الهجرات التي لم تبتعد في أي حال عن الشرق الأوسط، فإن الخروج الحقيقي حصل من إفريقيا قبل أقل من 70000 عام وانتشر بسرعة في أوراسيا. في طريقه، التقى الإنسان العاقل أعضاء من أنواع بشرية أخرى، ولا سيما إنسان نياندرتال Neandertaal ودينيسوفا Denisova ، وتخالط معهم جزئياً. بحسب جان لوك يجب أن نتذكر أن جميع البشر هم من نسل الأفارقة، على الأرجح جميعهم ذوات بشرة سوداء، وأن التباين الحالي في لون البشرة هو نتيجة لطفرة تسمح بتكيف أفضل للسكان الخارجين من أفريقيا مع المناخات الأقل حرارة (غياب الشمس). إن تنوع ألوان البشرة هو فقط نتيجة الاختلافات في تركيز كل نوع من أنواع الميلانين، وهي أصباغ موجودة لدى جميع البشر. القصة إذن هي بهذه السهولة ولا حاجة لإنشاء أي تسلسل هرمي على الإطلاق بين السكان على هذا الأساس. كيف نقاوم اليوم انتشار العنصرية!

نجحت الرأسمالية في إضعاف الحركة الاجتماعية لفترة طويلة

تتميز بداية الألفية الثالثة بإزدياد الأزمات الاجتماعية والبيئية والصحية (كورونا). على الرغم من ذلك، نجحت الرأسمالية في إضعاف الحركة الاجتماعية لفترة طويلة. لقد انعكست الخيارات الاستراتيجية لليمين المتطرف في زيادة كره الأجانب والعنصرية وهذه الخيارات التي ترافقت مع زيادة الفقر وجدت الحل المثالي للإحباطات الشعبية في مشكلة الأقليات، وهذا النهج تم اعتماده أيضاً جزئياً من قبل الأحزاب السياسية الرسمية. في فرنسا، يتعلق انتعاش العنصرية بتلك المعادية لليهود، والتي لم تعد ذات فائدة سياسية للطبقات الحاكمة. على العكس من ذلك، يصبح الأمر محرجا لأن دولة إسرائيل حليف للدول الغربية. وهذا يدل على أن عنصرية الأمس، والتي تؤدي إلى التطرف الشديد في كراهية الأجانب، يمكن أن تستمر إلى ما هو أبعد من الاستراتيجيات السياسية التي ولًدتها. يمكن القول إن هذا هو السبب الرئيسي لالتزام الدولة الفرنسية بمحاربة معاداة السامية، وتسامحها النسبي مع العنصرية ضد العرب والسود.

عن مفهوم الهيمنة على الجنس الآخر

يبدو أن التمييز الذي تتعرض له المرأة خارج نطاق المنزل ناتج بطريقة ما عن المكانة المتدنية التي تعاني منها. انها العقوبة الاجتماعية. كما أنها تساعد على ترسيخ دونية المرأة في الحياة الأسرية. إذا كانت غالبية أعمال العنف، بما في ذلك أخطرها، تحدث ضمن الأسرة، حيث “لا يمكن رؤيتها” اجتماعياً، فإنه يتم تصديرها أحياناً إلى الفضاء العام. في البداية يظهر ذلك بشكل واضح في شكل مضايقات في الشارع أو حتى التجارة في أجساد النساء من خلال ما يسمى “أقدم مهنة في العالم”، أي الدعارة. ثم غالباً في شكل غير مرئي لأنه يخضع عموماً للقصاص الاجتماعي: ونعني الاعتداء الجنسي والاغتصاب خارج العائلات.

عن الواقع الطبقي للمجتمعات المعاصرة

قال وارن بافيت Warren Buffett، وهو ثري من بين الأثرياء، في عام 2005 على شبكة سي إن إن: “هناك حرب طبقية، إنها حقيقة. لكنها طبقتي، الطبقة الغنية، هي التي تشن هذه الحرب وتنتصر فيها”. على عكس بعض الأفكار المسبقة، فإن فكرة الطبقة الاجتماعية ليست من ابتكار الحركة الشيوعية أو الاشتراكية، أكثر مما هي قائمة عند منظري الليبرالية الاقتصادية. يبدأ جان لوك بكشف التعريف لمفهوم “الثروة”. يعرف الطبقة الاجتماعية: تعرف هذه بمكانتها في علاقات الإنتاج، أي العلاقات الاجتماعية التي ستنشأ بين البشر في سياق نشاط الإنتاج. يقوم الأعضاء الذين ينتمون إلى نفس الطبقة الاجتماعية بنفس النوع من الأدوار في إنتاج الثروة وتداولها: فعملهم إما يخلق قيمة أو لا يخلقها. لهم نصيب معين في توزيع الثروة: الأجور للعمال، أرباح الأسهم للرأسماليين. وهكذا فإن أعضاء نفس الطبقة الاجتماعية يشتركون في ظروف مادية “موضوعية” مماثلة. ولكي تصبح “الطبقة في حد ذاتها”، “طبقة لذاتها” يجب أن تتمتع بوعي طبقي، أي شعور بالانتماء إلى مجموعة لها مصالح مشتركة وشعور مختلف عن المجموعات الأخرى.

في النهاية، إن تجزئة المجتمعات الرأسمالية إلى طبقات اجتماعية ذات مصالح متعادية أمر لا جدال فيه حقاً. إن حقيقة أنه ليس من السهل “تصنيف” كل شخص وأن الحدود بين الطبقات الاجتماعية غير واضحة، لا تدعو في حد ذاتها إلى التشكيك في وجود الطبقات الاجتماعية. لكن من الواضح أننا لا نريد أن نجعل من الطبقات الاجتماعية عنصراً مطلقاً يحدد حياة وأفكار وممارسات كل شخص. لا، إنها وحسب أداة اجتماعية تسلط الضوء على واقع اجتماعي وتجعل من الممكن الفهم والتصرف في العالم. من وجهة النظر هذه، من الواضح أن الكفاح من أجل “الوعي الطبقي” أساسي لبناء مجتمع خالٍ من هيمنة البشر واستغلالهم.

إن تجزئة المجتمعات الرأسمالية إلى طبقات اجتماعية ذات مصالح متعادية أمر لا جدال فيه حقاً

يخرج جان لوك الى الشارع ويعطي أمثلة عن الطبقية في فرنسا: الكاتبة نسرين السلاوي، من أصل مغربي، ولدت لأب عامل بناء وأم مدبرة منزل. حصلت على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة غرونوبل ثم حصلت على درجة الماجستير. تشرح في كتاب رحلتها. تقول: “أنا معجزة إعادة إنتاج اجتماعي، صدفة، خطأ سوسيولوجي”، لأن “الجدارة لا تزال مجرد خيال”. وترى بدعم من الإحصائيات أن عدم تكافؤ الفرص وعدم المساواة في الحصول على التعليم لا يزال هو القاعدة. يذكر أن الكاتبة تخرجت من أهم الجامعات الفرنسية بعد معاناة وتلاحظ أن هذه المعاناة مستمرة بفعل الشعور الطبقي حتى مع زملائها في المدرسة الوطنية للإدارة ENA. لا لزوم للقول إن هذا الشعور قائم لدى آلاف الطلاب اللبنانيين المنتمين لطبقات غير ميسورة والذين يكد أهاليهم كي يدخلوا صروح الجامعات الخاصة.
الكتاب رائع، هذا ما قلته في البداية ورأيي موضوعي. كم نحن بحاجة اليوم في زمن العولمة واكاذيب الليبرالية لقراءة مثل هذه الأفكار، مثل هذا الثبات في المواقف والقناعات. نفتخر بصداقتك العزيز جام لوك دبرييز. وسنستقبلك في لبنان للقاء حول كتابك في القريب القريب..

السابق
من الطالب حسين يتيم الى ابي الروحي رشيد بيضون
التالي
بالفيديو.. مارديني لـ«جنوبية»: لا أموال لتغطية النفقات.. وهذا السيناريو كلفته المزيد من الإنهيار!