وجيه قانصو يحاضر عن كتاب «صنعة العربية» لشربل داغر : سفر تكوين العربية

وجيه قانصو
حاضر الدكتور وجيه قانصو في ندوة عن كتاب "صنعة العربية من التنزيل إلى التأليف" لمؤلفه الدكتور شربل داغر في انطلياس. ويتناول الدكتور قانصو في محاضرته ابرز ما تضمنه الكتاب من "صنعة لغوية"، وعرض لسبكه وعرضه الافكار بسلاسة بما يعطي اللغة العربية والقرآنية حقها. ويقول قانصو في نصه :

” مؤلفُ “صنعة العربية من التنزيل إلى التأليف” لمؤلفه الدكتور شربل داغر، يعرض سفرَ تكوينٍ جديد، هو تكوينُ العربية التي نتداولُها ونفكر بها.  فالعربية ليست شيئاً أنتجته الطبيعة، وتطور وفق موجبات النمو العضوي، بل هي صنعةٌ وتأليف، كائنٌ مولَّد، فرضَه حدثٌ مفصليٌ في تاريخ العرب، هو حدثُ الوحي أو حدث التنزيل الذي جاء بلسان عربي مبين (هكذا قال عن نفسه).  تنزيل لم يكتفِ بتوحيد العرب وبناء مركزيةٍ شديدة الالتصاق بمبدء الله الواحد، بل انغرس عميقاً في التكوين العربي، في مخياله، روابطه وتضامناته، مشرعيات السلطة فيه، مرجعيات تفكيره، والأهم من ذلك مجال نطقه وتعبيره.  وإذا كانت مدينة الله التي أكد أوغسطين بأنها من خارج هذا العالم، فإن التنزيل أراد لمدينةَ الله أن تسكن في الأرض،  وتكون أمراً عينياً معيشاً ومحسوساً، إضافة إلى أن تكون منطوقاً ومدوناً.

   بَّين المؤلف حدوثات متعددة لهذا التنزيل ليصبح مصحفاً مدوناً ومقروءً. هي حدوثات تمثلت بمسارات لغوية ثلاثة: أولها مسار التنزيل والاستقبال والتبليغ والتلقي، ثانيها مسار الجمع والتدوين والتداول ونشوء الوثيقة الرسمية المكتوبة، وثالثها مسار التقعيد والعلم والكتاب لكل ما يحيط بوثيقة التنزيل أو المصحف من تفسير وتشريع وعلومِ لغة.

 المعضلة الأصعب التي عالجها المؤلف هي معضلة التدوين التي تمثل مرحلة الكتابية التي نقلت القرآن من الشفاهة إلى الكتابة

هي مسارات تُبين مساعي التنزيل للتغلغلِ داخل اللغة، واستيعاب تنوعاتها وتناقضاتها، أضدادِها ومشتركاتِها، ليصير لاحقا جزء منها وحقيقة من حقائقها، بل يصير هو حقيقةً لغوية تقبع خلف كل تعبيرٍ أو خيالٍ أو تواصلٍ.  فالتنزيل لم يكتف بإلقاء معلومة أو فكرة هداية، بل حرِص على التسرب داخل الأصل التكويني للوعي، ليكون مرجعه ودليله، ثم تجدهُ يعمد في مسار تاريخي لاحق إلى التفرد بنفسه حقيقة لغوية متعالية، مفارقة، مرجعاً، نموذجا أعلى، مقياسَ كلِّ بيان وتبيين، كتابٌ معجز في نظمه وبلاغته لا ينافسه كلام آخر أو يقترب منه.  ليكون بمثابة الحصيلة اللغوية التي تشرط أية كفاية لغوية،  والتي على أساسها ننطق ونفكر ونعبِّر ونرى العالم ونفهمه. أي انتقل التنزيل في مطافه الأخير من مساءلة كفايته اللغوية في النطق والتدوين، إلى أن يكون هو حصيلة وأساس أي نطق وتدوين وتعبير.

في بداية الأمر، كان السؤال حول كفاية (أو كفاءة) التنزيل اللغوية.  فالعربيةُ بلغاتِها المتفرقة ولهجاتِها المتعدّدة، كانت مشكلةَ هذا التنزيل وعقبتَه في آن.  بحكم أنّ التنزيل يمثل جسر العبور أو الاتصال بين اللامتناهي والمتناهي، بين الكلام الإلهي الأزلي أو القديم والكلام البشري الفاني والمحدث،  كأنه فعل جمع بين حقيقتين وطبيعتين.  هي فجوة عمد التنزيل إلى تذليلها وتسييلها من خلال الوسيط اللغوي نفسه، ليصح أن يكون في جانب منه كلاماً إلهياً، وفي جانب آخر منه كلاماً بشرياً. ما يعني حاجة التنزيل في الجانب البشري إلى مادة ولفظ وتركيب، تؤمن عملية الالتقاط والتلقي لما هو فوق لغوي أو ميتالفظي.  فالمتلقي في مقام التخاطب والإبلاغ، لا يلتقط بحدسه أو بوجدانه بل بلسانه وسمعه.  

كان التلقي هو المعضلة الثانية التي تطرق إليها المؤلف، متسائلا عن حصول عملية التلقي، ومدى توفر قناة الإتصال بين التنزيل والتلقي، بين لغة التنزيل ولغة المتلقي. هل هما لغة واحدة، أم كان هنالك فروقات مع ليونة ومرونة واسعتين في تلقيه وفق اللغات المختلفة واللهجات المتنوعة، التي لا تفترق في مخارج الحروف فحسب بل في تكوين الكلمات نفسها؟

 كان واضحاً، وجود ضرورة لتحيين التنزيل نفسه، أي خلق مرونة كافية فيه، أو بتعبير لغوي توليد كفاءة لغوية يستوفي شروط المحصل اللغوي القائم.  وهذا يفسر طلب النبي من جبريل بحسب الرواية أن يكون التنزيل على أكثر من حرف، أي خلق مرونة وسيولة ذاتية تمكنه من التسرب والدخول إلى أفق الناس اللغوي بمشاربها المتعددة.  ولعل هذا يفسر عبارة القرآن عن نفسه “بلسان عربي مبين”.  فالمبين لا يقتصر بيانه على وضوح صوره ومعانيه، بل في قابليته أن يُفهم، وقابليته أن يُتلقى، وإمكانية تلفظه واستعماله وترداده.  

اعتبر المؤلف أن نزول القرآن على الأحرف السبعة، كان غرضه كسر الجدار الحاجز بين التبليغ والتلقي. بأن أضفى مرونة وتسامح في تلفظ عبارات وألفاظ التنزيل وتداوله،  وتعددية في تلقيه واستعماله وحتى تدوينه، ليكون بالإمكان انتشاره واستقباله وقبوله وفق لغات القبائل المتعددة، ليستقر التنزيل المدون في فترة لاحقة على ما يسمى بالقراءات السبع أو العشرة.

اعتبر المؤلف أن نزول القرآن على الأحرف السبعة كان غرضه كسر الجدار الحاجز بين التبليغ والتلقي

وهنا أسأل: هل كان النبي وسيط سلبي، أي مجرد مستقبل كما يقول المؤلف، ينقل من دون فاعلية منه ما يتلقاه، أم كان له حضوراً وتأثيراً في عملية التنزيل، أي في القول القرآني نفسه؟

هنالك سردية أخرى تتصل بهذه المسألة، اعتمدها كثيرون، كان أهمهم الإمام الجويني خادم الحرمين، وبنحو جزئي ابن كلاب،  مفادها أن الوحي كان بالمعنى وترك للنبي صياغة اللفظ والتعبير.  هذا يتوافق مع فكرة أن الوحي نزل على قلب محمد: “نزّله على قلبك” والإنزال القلبي إنزال دفعي بسيط، لا تراتب ولا تركيب فيه، بل أثر يحصل، صورة تُطبع، مشهد عيني، ثم يقوم النبي بترجمته لغة وألفاظاً وعبارات.  بالتالي بدل أن يكون محمد مستقبلاً فهو ترجمان لغوي وثقافي للوحي. وهذا يترك له مساحة تدبير واجتهاد خاص منه في تبليغ الوحي لا كشيء ينقله، إنما كشيء يحوله من معنى متعال يدرك بالقلب ويعانيه بالحدس إلى تركيبات لغوية وخطاب يفهم من كل من يتلقاه.

هذا يحل لنا مشكلة التعدد اللغوي وتعدد الحروف واللهجات، بحكم أن محمداً وهو ابن بيئته، أي وسيط ثقافي ولغوي، قادر على تقديم صياغات وتعابير وألفاظ متعددة تستجيب لحال التنوع اللغوي بين القبائل، ويحل لنا مشكلة الانتقال من اللامتناهي إلى المتناهي بحكم أن محمداً نفسه كانت نقطة العبور تلك والوصلة الأنطولوجية بين عالمي الوجوب والإمكان، عالمي العيني والمدرك.

يتأكد هذا حين نعلم أن القرآن طرح نوعين من الوحي القرآني، هما الإنزال والتنزيل. فالإنزال هو التحقق الدفعي الذي يقوم على حقائق وصور باطنية يتلقاها القلب، مع ما للقلب في العربية من دلالة الروح والعقل والوجدان والعينية والشهود. هو تلك الصورة الكلية الدفعية، التي لا تقبل الاختزال إلى صياغات لغوية أو تعابير لفظية. أما التنزيل وبعكس ما يظن كثيرون، فهو ملاصق للحدث التاريخي ومنبثق منه، هو حصيلة الجدل مع الواقع، في سياق الفعل ورد الفعل، ليرتقي هذا الحدث التاريخي حقيقة تنزيل.  بهذا المعني يكون الإنزال حركة من الأعلى إلى الأدنى الذي هو من طبيعة غير لغوية، ويكون التنزيل حركة من الأسفل إلى الأعلى، يأخذ حقيقة تاريخية وثقافية ثم يتكفل محمد يتحويلها إلى حقيقة لغوية.  

 المعضلة الأصعب التي عالجها المؤلف، هي معضلة التدوين التي تمثل مرحلة الكتابية، التي نقلت القرآن من الشفاهة إلى الكتابة، لغرض حماية الوحي من الضياع والنسيان، ولغرض الحؤول دون التفرق والتشتت والاختلاف الشديد الذي عانى منه زمن الخلافة الثالثة.   

إقرأ ايضاً: هل تخرق «مواجهة» فرنجية-أزعور وما بينهما باسيل الجدار الرئاسي؟!

يرى المؤلف أن تجربة التدوين شكلت تحديا، أو حركت سؤالاً لعدم وجود قواعد متسالم عليها للكتابة أو تدوين الملفوظ.  فالعلاقة بين النطق والتدوين لم تكن مقرّة، وقواعد الكتابة لم تكن متبعة وربما لم تتوافر لبعضهم الكتابة بحكم الإرتجال والتدبر. كما إن اللغة لم تكن تحظى بمقومات معلنة ومقرة خاصة بالتدوين ومتوافقة بين هذه القبيلة أو تلك. هو تباين أتاح وجود ارتجال أو تدبير في الكتابة نفسها، ما تسبب بظهور التباسات وتداخلات ممكنة بين الصوت والحرف، ولا سيما في الحركات، من قبيل كلمة لفظ ملك التي يمكن تدوينه: ملك أو ملاك أو مالك .

ولعله لذلك كان لا بد من تأسيس مرجع لغوي من بين المراجع، وهو لغة قريش وتقديمها على غيرها، والتعالي بها إلى حد اعتبارها لغة كاملة ومقدسة. بالتالي باتت مرجعية لتدوين النص القرآني، ومرجعية لحل أي اختلاف بين الناس حولها. وهذا ما أكده المأثور التاريخي: “إذا اختلفتم في شيء من القرآن فاكتبو بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم”، وما جاء عن الخليفة الثاني عمر: “لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف”.

 هو إجراء أدى برأي المؤلف، إلى التعامل إلى سابق القرآن ومحيطه اللغوي بكثير من الاستعلاء، بأن أقام  لغة القرآن أو قريش مرجعاً ونموذجاً يقاس عليها قرب أو ابتعاد باقي اللغات، بدل أم يكون لغة القرآن أو قريش لغة مثل غيرها.  بالتالي باتت لغة النص القرآني (قريش) اللغة التامة التي يتوجب ديناً وفصاحة الارتقاء إليها، فيما يتم النظر إلى غيرها لغات القبائل بوصفها متبقيات وانحراف عن اللغة التي باتت المرجع.

  انتقلت اللغة من تداول السليقة والتواصل الفردي، إلى الكتاب المرجع، إلى نص يقنن ويضبط.  وهي المعالم الاولى في الانتقال من البداوة إلى التمدن، إلى مرجعية النص، لا كقول لغوي فحسب، بل كمصدر طاقة واستلهام وتشريع وموقف. بالتالي انتقلت الرسالة من حالتها الشفوية التي لا تأمن من الضياع والتشتت، ومن سوء الاستعمال والتحريف، إلى النص العلني والوثيقة المرجع. نتيجة ذلك خرج القرآن من طبيعته التنزيلية وجرى رفعه إلى نطاق المتعاليات التي تباعد بينه وبين مسائل ثبوته وتكوينه.  هذا القرآن ثبت كتاباً إلهيا ومرجعاً لغوياً تقاس عليه الأقوال اللغوية الأخرى، وتستنتج منه قواعد اللغة.

انتقلت اللغة من تداول السليقة والتواصل الفردي إلى الكتاب المرجع إلى نص يقنن ويضبط  وهي المعالم الاولى في الانتقال من البداوة إلى التمدن إلى مرجعية النص

لهذا ومنذ أن تم تدوين الوحي بات المدون منه هو الحقيقة اللغوية الجديدة. وتم ترسيخ ذهنية سلفية، ترى فيما أنجز في التدوين والجمع أمرا لا يناقش أو يساءل.  فتجد المتأخرين يحرصون على تأكيد وتثبيت وتشريع ما ورد من سابقيهم، وعملوا على جعل الخبر قاعدة بل ركنا فيما تعاملوا معه. بالتالي انتقلت الامانة السابقة إلى أمانة تالية وهي قبول ما قاله السلف وما عملوا به ومعه. (ومن هذه الذهنية تولدت أو نشأت ذهنية القياس التي مفادها إلحاق الحاضر المجهول بالماضي المعلوم والنموذج، وهي قاعدة تسربت إلى العلوم الإسلامية كافة بخاصة الفقه، وباتت أداة أساسية في تقعيد اللغة أيضاً).

أصبح رسوخ الكتاب المدوّن، بات المسلمون بحاجة إلى فهمه، وتفسيره وتحديد الحكم في الوقائع التي لا نص فيها. بالتالي تولدت الحاجة إلى لغة مولَّدة، نقلت العربية من عربية الجاهلية إلى عربية مستجدة في الكلام والكتابة. وظهرت الحاجة إلى علم العربية، الذي تكفلت به نخب سميت علماء اللغة، قامت بنقل اللغة من أن تكون لغة سليقة وسجية وفطرة منتشرة في أوساطها الاجتماعية إلى لغة قواعد.  أي لغة تعلل وتبنى وتبرر، لتصبح لغة ثقافة وعلم وتعلم. ما تسبب باختفاء لغة القبائل وهيمنة لغة كتابية متعينة في لغة القرآن الغالبة التي أصبحت اللغة المرجع وسند الصحة والقبول في القول اللغوي.  وهو ما يفسر العلاقة التكوينية بين القرآن والعربية وبين العربية والثقافة. 

بالتالي لم يعد التنزيل القرآني عملية تواصلية بل أصبح شأنا لغوياً وتعليمياً وثقافياً, ولم تعد الأقوال تسمع سماعاً في مسجد أو في آذان وإنما هي ما يُقرأ وما يحتاج إلى مواد لغوية وقواعد في بنائه لكي يتم الفهم، بخاصة ممن يحتاجون إلى تعلم لغة القرآن نفسها من غير العرب.

 مع نشوء العربية كعلم، بات للغة خارجٌ، وباتت موضعاً للنظر إليه، ولم تعد كلاما يتم التداول أو الكتابة به، بل اصبح قابلا للنقد والدرس في أوراق العالم.  وقد تم تعيين لغة مرجعية يتم الاحتكام إليها مما يوفر متنا للعربية وهو متن العربية الفصحى في صورة أساسية واستباط بعض قواعدها. بالتالي بات لفظ العربية عنوانا لتعليم العلم،  ليكون جديرا بما يسمى بـــ “صنعة العربية”.

 مع صيرورة اللغة علماً لا سليقة، أخذت اللغة تنحو لا لتكون حصيلة تداول واستعمال فعلي، بل حصيلة عقلية لجميع محتملاتها وإمكاناتها.  وهذا ما حصل مع الفراهيدي،  الذي تناول كيان العربية أي أصول بنائها لا تحققاتها الاستعمالية، فبلغ أقصى ما يمكن أن تكون عليه العربية في احتمالاتها التركيبية التي يمكن استعمالها.  هذا النوع من الجهد، حوَّل اللغة إلى كائن عقلي، تكوين يوسع مدى التعبير ويضم إليها كل محتملات الصياغة، لكنه أخرجها من حال كونها لغة معيشة وحية، إلى لغة مقعدة يقوم على رأسها نخب ومراجع يملكون سلطة تحديد ما هو الفصيح من غيره، والصحيح من غيره.  

اللحظة الرمزية الأخرى تمثل ذروة اللغة، واكتفائها الذاتي لا على مستوى التعبير وإنما على مستوى العقل والتفكير، فهي لحظة السير في في محاججته بشر بن متى المنطقي، ليرتقي باللغة لا أن تكون وسيلة فهم وتواصل وتعبير فحسب، بل فضاء تفكير مقفل على نفسه.

 وضع السيرافي النحو منطقا مقابل منطق ارسطو، وجعل من منطق أرسطو نحواً يونانياً، أي مشبعاً بثقافة وخصوصيات مختلفة عن العرب.  ما يعني أن يشير إلى اللغة ، بخاصة النحو، ليست مرجعاً للتعبير فحسب، بل هي قاعدة تفكير، وأساس للتسمية والتعيين والمعنى.  فإذا كان اليوناني معني بالفكرة فالعربي معني بالكلام وأحواله.  فكما أن المنطق نحو فإن النحو هو منطق أيضاً داخل بيئة خاصة.  هو قول يشدد على ضرورة الاكتفاء بالنحو لأنه يشمل على منطق خاص مناسب للعرب وكاف لهم.  مع السيرافي بدا واضحا أن اللغة العربية باتت عقلا لا مجرد تعبير أو وسيلة لنقل المعنى، هي فضاء المعنى وتعيناته، هي وعاء الفكر وبيته المنتج للأفكار، بالتالي باتت اللغة رديف منافس للفلسفة.

للعربية سيرة مذهلة بين ما كانت عليه قبل التنزيل وما آلت بعده إذ تحولت إلى لغة الله وعلامة السيادة وعقلا للتفكير

هذه اللحظة بقدر ما مثلت ذروة اللغة، وكمال نضجها واتساعها وشمولها، إلا أنها كانت مؤشراً على إقفالها وانغلاقها. إذ بقدر ما مثلت العربية تاريخاً مفتوحاً، واجتهادات واقتراحات، بقدر ما استحالت قانونا ومرجعاً، أفقدتها القدرة على أن تستوعب ما استجد لاحقاً عليها، سواء أكان في المفاهيم أو طرق التعبير والمفردات، فالإكتفاء الذاتي ولد ذهنية “يكفينا ما عندنا”، وهي معضلة تجلت بوضوح حين حاول العرب فهم المستجد في الغرب، فبدلا من فهمه وإنتاجه لغة لجئوا إلى طريقة قياس الشاهد على الغائب. كان هذا جلياً في زمن الإصلاح الإسلامي، الذي أخذ يقيش الوافد الحداثوي المجهول على مرجع  معلوم داخل المجال اللغوي المعهود، فكانت الحرية مثلاً التي شاهدها الطهطاوي في فرنسا، هي “العدالة والإنصاف عندنا”، بحكم أن الفرد الحر هو ما يقابل الرق المملوك.

من هنا الحاجة إلى استعادة ما طمس من هذه اللغة وما غيب منها قبل التنزيل وأثنائه وبعده، لتستعيد اللغة تعدديتها وتنوعها ومرونتها، وقابليتها للتكيف مع أي معطى ثقافي جديد، لا أن تقيسه على نموذج سابق، بل تحدث بداخله مساحة لغوية جديدة ومختلفة.  ولعل هذا هو التحدي اللغوي الآن، لا في بإلحاق المستجد بلفظ جاهز ومعلوم، بل بكسر الجمود والثقة النرجسية في لغتنا، بأن نخلق فيها مساحات تعبير جديدة، وأن نلين صرامة نحوها ومحدودية معجمها رغم ضخامته العددية، لنستعيد لغة لا تشرف عليها نخبة عالمة، بل لغة معيشة يكون للعامي كما للعالم يد في صناعتها وابتكارها وتحويلها. 

يخلص المؤلف إلى القول: على الرغم من أن كيان العربية تاريخي ومفتوح وانبنى على اجتهادات واقتراحات في أبنية العربية من دون أن تبلغ التوافق الثبوت النهائي… إلا أن لهذه للعربية سيرة مذهلة بين ما كانت عليه قبل التنزيل وما آلت بعده. إذ تحولت إلى لغة الله وعلامة السيادة وعقلا للتفكير، بل أصبحت المثال الذي بات واقعا لملايين الناس.

كتاب صنعة العربية يفتتح مسار نظر جديد ومختلف في العلاقة العضوية والجدلية في آن،  بين التنزيل في مراحل تلقيه وتدوينه من جهة، وبين اللغة العربية في مسار تحولها وانتقالها من سليقة ولغات متعددة إلى لغة تُقنَّن وتُعلَّم لتصير لغة نص وكتاب من جهة أخرى.

رئيس تحرير موقع “جنوبية” الزميل علي الامين مشاركاً في الندوة

السابق
هل تخرق «مواجهة» فرنجية-أزعور وما بينهما باسيل الجدار الرئاسي؟!
التالي
ازعور الأكثر حظًّا.. وعبد المسيح: اقتربنا من الـ65 صوتاً