مسرحياً.. عساف والحاج علي يعلنان «انتصار الحب والفن على الشيخوخة والموت»

كتب الشاعر شوقي بزيع منشور عبر حسابه على "فايسبوك"تحت عنوان: "مسرحية لعلي شحرور عن خراب المدن ونكوص الأجساد.. عساف والحاج علي يعلنان انتصار الحب والفن على الشيخوخة والموت".

حين اتصل بي الصديق عبده وازن قبل أيام داعياً إياي لحضور مسرحية ” إذا هوى” لعلي شحرور , لم أتردد في تلبية الدعوة , لأن لاسمي روجيه عساف وحنان الحاج علي من الجاذبية وقوة الحضور , ما أثار لدي الرغبة في اكتشاف ما يمكن لهذا الثنائي أن يقدمه بعد , في ظل انهيار المدينة وخوائها المتعاظم . ومع أنني لم أشاهد أياً من الأعمال السابقة لشحرور , فقد أثار ما قرأته عنه فضولاً مماثلاً لدي , للتأكد مما إذا كان المخرج الشاب قادراً على رفد بطليه المخضرمين بأسباب الحيوية والتجدد اللازمين لاكتشاف مناطق في دواخلهما لم يكتشفاها بعد , ولتقديم هذه المناطق سافرةً وبلا أقنعة أمام الملأ .

وأعترف مع ذلك بأن الشعور الذي انتابني في الطريق الى قاعة المسرح , كان أقرب الى التوجس والإشفاق , منه الى الوثوق بقدرة هذا الثلاثي المغامر , على بعث الروح في جسد المدينة والفن على حد سواء .

كانت معالم الطريق الموصلة الى قلب شارع الحمراء , كافية تماماً لأن تضع العابر في صورة الواقع المزري لأحد أكثر الأماكن اتصالاً بأزمنة بيروت الوردية , وتجسيداً لتعدديتها الثقافية ودورها التنويري . فالنفايات المكدسة في الحاويات , أو المندلقة خارجها دون أن تجد من يرفعها , توفر البيئة الملائمة للفئران والجراذين , وسائر الحشرات والحيوانات الصغيرة الشاردة والكهرباء الشحيحة الصادرة عن المولدات لا تكاد تمكّن المارة القلائل من تبيّن مواطئ أقدامهم على الأرصفة .

وإذ يشكل المتسولون والباعة البائسون والمنقبون في النفايات , نسبة غير قليلة من المتواجدين في الشارع , يشعر العابر في المكان أن المدينة التي يقطنها لم تعد تمت بصلة الى المدينة التي احتضنت ذات يوم أحلام ساكنيها وقاصديها الكثر , وكانت المختبر المعرفي , وقِبلة الرجاء , وفسحة الحرية . وهو الآن لا يملك أن يدفع عن نفسه شعوراً بالخوف من التعرض للسرقة أو الأذى , يداهمه على حين غرة .

وفي المسافة المفضية الى “مسرح المدينة ” , قلت لنفسي إن التسمية نفسها لم تعد تستقيم , ما دام المضاف إليه قد أُفرغ من معناه , وبات شبيهاً بطلل إسمنتي واسع لما كانه في الماضي . ثم تذكرت ما كان زياد الرحباني قد توصل إليه في مسرحيته المؤثرة ” شي فاشل ” في ثمانينيات القرن الفائت , من أننا لا نستطيع أن ننشئ مسرحاً للمدينة , في ظل تشظي هذه الأخيرة وانفراط عقدها واندحارها الشامل .
إلا أن هذه الهواجس سرعان ما أخذت في التراجع منذ اللحظة الأولى لبداية العرض . لم يكن ثمة ديكور واضح المعالم ,أو جدران داخلية تعزل زمان العمل ومكانه عن زمن المدينة ومكانها , أو ستائر للفصل بين خشبة التمثيل ومقاعد الحضور, بل فضاء مفتوح يضم الجميع بين ظهرانيه ويوحد بين مصائرهم , فيما يتيح لظلام الداخل وشحّ أدواته, أن يبدو امتداداً طبيعياً لظلام المدينة الخارجي وواقعها المزري.

إلا أن تقشف الديكور والسينوغرافيا , وغياب الزخرفة الجمالية الشكلية , والإطباق شبه الكامل للعتمة , لم تكن أموراً بلا دلالة , بل كانت الوسيلة الأكثر نجاعة التي أتاحت لجسديّ روجيه عساف وحنان الحاج علي المتقابلين أن يستعيدا معاً , وبكل ما أوتياه من تراكم الخبرات وقوة الإيحاء , سردية المدينة المكلومة من جهة , وسردية الجسد المهيض من جهة أخرى .

لقد أمكن لعلي شحرور , مستفيداً من اشتغاله السابق على حركات الجسد واستنطاق تعبيراته المختلفة , أن يحث كلاً من حنان وروجيه على إطلاق العنان لما ادّخراه للحظة كهذه , من حرقة الأسئلة ومن حيوية غائرة في الأعماق , ومن صرخات الاحتجاج المكتوم على الوأد الممنهج للمدينة وأهلها المتبقين . وعبر استعادة الفنانين الزوجين لمراحل مختلفة من علاقتهما العاطفية الطويلة , استطاعا معاً أن يجعلا كل من في القاعة مسمراً على نحو كلي باتجاه كل نأمة تصدر عنهما , وكل حركة يقومان بها , وكل ما يكتنف وجهيهما من علامات الوله أو الضيق , من الفرح الاحتفالي بالحب ، أو التبرم بآلامه وعذاباته .

ومع أن التفاوت النسبي في السن بين الطرفين , اللذين سبق لهما أن ضربا بعرض الحائط كافة التابوهات الدينية والاجتماعية التي تفصل بينهما , قد انعكس بشكل جلي في جسد حنان اللدن ، والمحتفظ بالكثير من مرونته , وجسد عساف الأكثر تعبيراً عن ثقل السنين , إلا أنهما عرفا كيف يقلصان فجوة الزمن ومفاعيله, بأدائهما التمثيلي البارع من جهة , وبقوة الحب وجدواه , من جهة أخرى .

لقد كان الزوجان المنهكان يدركان تمام الادراك أنهما لا يملكان الكثير لكي يفعلاه , لانتشال المدينة التي أوصلها الساسة الفاسدون والممسكون بمقاليدها , الى مآلها المأساوي وحضيضها المدقع . إلا أن ذلك لم يقدهما , مع المخرج الشاب وفريق العمل , الى فقدان الإيمان بجدوى الفن , الذي وإن لم يكن من مهماته تقديم الحلول والإجابات الشافية , إلا أنه قادر على رفد النفوس العطشى بجرعة من الأمل , ومنع الظلام من أن يستتب بشكل كلي .

فقد راهنا معاً على ما تبقى في عمق روحيهما من كنوز , ووجدا في الحب الذي يوحدهما برباطه , الصخرة الأخيرة التي تعصمهما من الغرق .

وفي هذا المرثية نصف الصامتة ونصف الإيمائية لواقع المدينة الراهن , تكتسب الحركات والسكنات والرقصات المختلفة بعدها الطقوسي , وتتحول الى رقىً وتعازيم في مواجهة الشيخوخة , كما في مواجهة الخواء المستشري .

وهذا البعد الطقوسي للعمل ينسحب على الزمن المسرحي الذي يجعل من غسق المدينة حيزه وفضاءه , حيث يستجمع ليل بيروت كل ما لديه من العتمة لكي يمنع فجرها المرتقب من القدوم , أو يؤخر انبلاجه قدر ما يستطيع . أما البطلان اللذان يواكبان خريف المدينة بخريف عمريهما المتفاوت في صفرته , فيحاولان إنقاذ ما يمكن إنقاذه , معولين على ما تنتشله الذاكرة من لحظات الفرح الغائرة , أو مراهنين على ما لم يستنفد بعد من طاقة الجسد , وجذوة الروح ونثار الأحلام .

على أن كل ذلك لم يكن ليتحقق من دون موسيقى عبد قبيسي ذات الضربات المدهشة التي تواكب حركة الجسد المتفاوتة بين الإيقاع الجنائزي , كما في مشهد الجسد المحتضر , والحركة البطيئة لزمن الكهولة , كما في رقصة زوربا , والتسريع الرشيق للإيقاع في مشهد الزفاف الإستعادي . والأمر نفسه ينسحب على تصميم الإضاءة الذي عرف الفرنسي غيوم تيسون بواسطته , كيف يقيم الحدود الفاصلة بين الأماكن والأزمنة والأحوال المتبدلة لواقع المدينة ولنفوس قاطنيها . وحيث تفتقر الأشياء والكائنات الى الصلابة , وحيث للحضور مذاق الغياب , واليقين يختلط بنقيضه , كان العرض برمته أشبه بنص صامت , تقوم فيه الحركات والسكنات وقسمات الوجوه , مقام الأبجدية المنطوقة . لذلك فإن النصوص الشعرية الموجزة التي تولى عساف قراءتها بين حين وآخر , لم تكن على أهميتها , لتضيف الكثير الى شعرية العمل , الذي تحول بقضه وقضيضه الى استعارة كبرى وبعيدة الغور .

وإذا كان لا بد من كلمة أخيرة في هذا الصدد , فهي أن مسرحية ” إذا هوى “, التي تقاسم ألقها الفريد كلّ من علي شحرور وروجيه عساف وحنان الحاج علي وآخرين , بدت بمثابة انتصار رمزي لروح المدينة المطعونة في صميمها , ولقدرة الحب والفن على توفير القوارب اللازمة للنجاة , بعد أن يؤول كل شيء الى غرق محتوم . ومع أن رشيد الضعيف كان قد اعتبر في أحد أعماله الشعرية بأن” لا شيء يفوق الوصف “, فإن من موجبات الإنصاف , الإشارة الى أن هذا العمل الطليعي الذي يحبس الأنفاس , هو الرد الأمثل على مقولة الضعيف , أو هو بالتأكيد أحد استثناءاتها القليلة .

السابق
بحضور نخبة من طلبة العلوم الدينيّة والمثقفين.. ندوة ثقافيّة تحت عنوان: المجتمع الإسلامي.. حال ومآل
التالي
تسعيرة جديدة لربطة الخبز.. كم اصبحت؟