أزمة التحريم.. قراءة في «التابو» بين «الممنوع والمرغوب»

تتبدّى أهمية قراءة كتاب علي ابراهيم بلوط بعنوان ” أزمة التحريم: قراءة في التابو” (صادر عن دار هدياز إيبوكز – الولايات المتحدة الأميركية- تموز ٢٠٢٢) في كونها تسهم في فهم عميق و بانوراميّ، في الوقت عينه، للتحريم الذي تحكّم و مازال بالمجتمعات البشرية منذ نشوئها، فشكّل قضية مصيرية بالنسبة إليها باعتباره مسّ بمفاصل حياتها الدنيوية و بعدها.

شكّل التحريم أحد أهم ركائز المجتمع البشري، بحيث لم يخلُ أي مجتمع منه، لأنه أدّى دوراً رئيسياً، ليس فقط في تنظيمه، وإنما أيضاً في نشوئه. ويعني التابو، بصورة عامة، وبحسب علي بلوط، أستاذ جامعي و أكاديمي وباحث، “شخصاً أو فعلاً ما له طابع مقدّس، وهو موضوع احترام وخوف في آن معاً، و أن أي مسّ له أو احتكاك به أو اقتراب منه أو تدنيس له، يرتّب عقاباً من خارج الطبيعة. وهذا التدنيس يستوجب القيام بطقوسيات معينة، لوقف هذا العقاب ذي الطابع الإلهي”.

ومن هذا المنطلق، يمكن القول أن خرق التابو، لا يعدّ فعلاً منطقياً وعقلانياً وحتى واعياً، باعتباره لا يحمل لمن استباحه أي امتيازات، بل على العكس، يأتيه بمصائب وويلات بسبب عقاب، لا يمكن وصف قساوته وتحمّله.

بدأ علي بلوط مقاربته للتحريم، من الانطلاقة من الوعي (الفصل الأول)، فجعله مدخلاً للوصول إلى اللاوعي، الذي يؤدّي دوره الرئيسي في صوغ المحرمات

افتتح الكاتب فصول كتابه بتناول الوعي، و خصوصاً وعي الذات، الذي يتكوّن من خلال الوسط الاجتماعي، باعتباره يحفّز الفرد على التواصل مع الآخرين، و فهم ما يجري في محيطه وتسليحه بالعقلانية، إلا أنه يضع “حدوداً قوية لهذا التفاؤل بقدرات الانسان وقواه. وكأن الوعي يشكل جبل جليد، يفوق القسم غير المرئي من أضعاف ما يطفو، وبأن هذا الجزء المغمور، هو الذي يحدّد قدرته على الصمود أمام عوامل الطبيعة”. بمعنى آخر، لقد بدأ علي بلوط مقاربته للتحريم، من الانطلاقة من الوعي (الفصل الأول)، فجعله مدخلاً للوصول إلى اللاوعي، الذي يؤدّي دوره الرئيسي في صوغ المحرمات.

وبما أن اللغة هي وسيلة تعبير كونية، فإنها تعبّر بالضرورة عن القواعد والاحكام، التي يتخذها المجتمع لضمان تماسكه واستمراريته. لذلك يحدّد، من خلالها، الممنوع و المرغوب. كما تؤدي وظيفة تواصل تحمل رسائل أو رموز معينة، يسعى المجتمع إلى فرضها على أفراده. ولا يخفى ما للغة من دور في التأثير، بحيث، ودائماً بحسب الكاتب، يتمّ توظيف “كلمات سحرية تتجلّى بقوة في المعتقدات الدينية”. لذلك أتت العلاقة بين اللغة والتحريم (الفصل الثاني) لتقارب بنيته من الناحية اللغوية.

أتت مقاربة التحريم من زاوية أنتروبولوجية (الفصل الثالث)، بعد عرض دور اللغة، لتلقي الضوء، أكثر فأكثر، على جانب رئيسيّ يتمثّل في أن تناول التحريم، لا يمكن أن يكتمل من دون التطرّق إلى دوره، كحالة قدسية في حياة المجتمعات البشرية كافة. لذلك لم يخلُ أي مجتمع منه. وتظهر علاقة التحريم بالدين (الفصل الرابع) جليّة، عندما اعتبر الكاتب أن التحريم جزء مكوّن من الدين.

بما أن دور التحريم يتمثّل في الضغط على الرغبات البشرية، فإن وتيرته تزداد مع الأزمات التي تعصف بالمجتمعات

وقد تكون التحريمات مبرّراً لظهور الأديان التوحيدية، التي نزلت عندما حلّ الفساد في الأرض، وتم الخروج عن المعايير والقيم الأخلاقية. وبما أن دور التحريم يتمثّل في الضغط على الرغبات البشرية، فإن وتيرته تزداد مع الأزمات التي تعصف بالمجتمعات، بالرغم من أن النصوص الدينية قلّصت دائرة التحريمات، بهدف تلبية ضرورة الانفتاح على المجتمعات الأخرى، والحاجة الملحّة إلى التطور الاجتماعي.

ويأتي تحريم سفاح القربى (الفصل الخامس)، بعد تناول علاقة التحريم والدين، ليشكّل التابو الأول، وذلك للجم مشاعية العلاقات الجنسية، التي كانت شائعة في المجتمعات البدائية. وبما أن الموت يشكّل معضلة الانسان الكبرى، فإنه لجأ إلى كبته، بحسب الكاتب، لأنه “لا يرى فيه تكاملاً مع الحياة” و يحاول السعي إلى السيطرة عليها.
ومن هذا المنطلق، تتبدّي العلاقة بين التحريم والموت (الفصل السادس)، لأن المساس بهذا الأخير حتى على صعيد الأفكار يمثل تابو، كما في حالة الانتحار.

أما بالنسبة إلى العلاقة بين المحرّم والعقاب (الفصل السابع)، فقد تناولها علي بلوط عبر مقاربة من زاوية ميتولوجية، فتعرّض لبعض الأساطير كأسطورة بروميتيس وأسطورة أوديب …وغيرهما من الأساطير، التي نال أبطالها عقاباً من الآلهة، لمجرّد أنهم خرقوا المحرّمات، سواء كان ذلك بدراية منهم أم لا.

وفيما يتعلّق بمسألة الجنون، الذي اعتبره فدية الانسان مقابل تمتّعه بالعقل، قارب الكاتب علاقة الجنون مع المحرّم (الفصل الثامن) من خلال استدخال ماهو مقدّس، و تحويل الآخر إلى شريك للشيطان والتكفير، وإلى ما هنالك من محرّمات لا يمكن المساس بها.

ولأن الشعور بالذنب يطلق القلق من جرّاء خرق المحرّمات، فقد خصّص الكاتب فصلاً خاصاً به (الفصل التاسع). وأما عن وظيفة التحرية (الفصل الأخير) ، فلم يعترف الكاتب بعشوائيتها ، بل بامتلاكها منهجيتها الخاصة.
اختتم علي بلوط كتابه حول “أزمة التحريم: قراءة في التابو” بسؤال يختصر إشكالية ذات طابع “كوني” ، و يتمثّل في الآتي: هل يمكننا أن نصل إلى مجتمع بلا تحريم؟
أخيراً، لا يبدو التحريم منعاً فقط، بل يشكّل منهج حياة وتفكير فرضته المجتمعات، بحيث وضع كلّ منها ما يناسبه.

وبغضّ النظر من أن التحريم كان له دوره الإيجابي في بعض أمور الحياة، و خصوصاً تلك المتعلّقة بتنظيم العلاقات داخل الأسرة و بين أفراد المجتمع، إلا أنه في الوقت الحالي أصبح أداة استلاب، خصوصاً من خلال الإفتاء بالكثير من التحريمات “البدع”، التي راهن أصحابها على التخلّف الاجتماعي المتفشّي، بهدف تسويق أفكار رجعية. و ما نلاحظه في مجتمعنا اللبناني هو خير دليل على ذلك!

السابق
وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: رئاسة فرنجية.. هدف واحد بأداء مختلف
التالي
سلامة يصيب الوفد القضائي الاوروبي بـ«الخيبة» ويحضر امامه غداً.. بـ«شروطه»!