شمس الدين في ندوة بذكرى استشهاد الحريري الـ18..من بعده اصبح لبنان مهمشاً ومعزولاً دولياً وعربياً!

شارك الوزير السابق ابراهيم شمس الدين في ندوة بدعوة من النادي الثقافي العربي بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لاستشهاد رفيق الحريري في فندق موفنبيك، بيروت. وشارك في الندوة كل من الرئيس فؤاد السنيورة والامين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى وآخرون.

وقال شمس الدين في مداخلة له:” ان أوّلُ ما أعجَبني في رفيق الحريري أنّه كانَ بشوشاً. تشعرُ أنّه يُدخلكَ إلى قلبهِ ثمّ إلى الاجتماع! وكان صاحبَ طلّةٍ رصينةٍ، طبيعيّةٍ بغير تكلّفٍ، وجدّيةٍ بدون تهويل. وكان يعملُ ويعملُ ويعملُ، احترمتهُ وأحبَبْته لذلك.  

وكنتُ أرى عملَهُ، وكنتُ شاهداً على بعضه، وشريكاً في بعضه، وحتى شهيداً لبعضه، وأقولُ هذا بدون ضغينة! كما كنتُ أركنُ لصدقِ قولِه إجمالاً، كما كنتُ أرتاحُ للعملِ مَعَهُ رغم اختلافات، وكان يضعُ ثقةً كبيرةً في يدي عندما كان يكلّفُني شخصياً بمهمّةٍ خاصّةٍ ودقيقة، أو عندما يحدّثُني بأمرٍ خاصٍّ ودقيق، أو يُطْلِعُني- في بعض مراتٍ قليلة –  على بعضِ باطنِ تفكيرِه في أمرٍ معيّن، وهذا السّلوك منه كان يعكسُ ثقةً بالنّفسِ كبيرةً – ثقةً بناءةً لا ثقةَ تكبّرِ وعُلُو- ثِقةً كان يمتلكها رفيق الحريري رحمةُ الله عليه.

ماذا كانَ يريدُ رفيق الحريري؟ بل ماذا كان يحاولُ رفيق الحريري؟

لا بدّ من التّذكيرِ ابتداءً أنّه كانَ واحداً منّا نحنُ اللبنانيّين. لم يكن أجنبيّا غريباً، ولا مُستَنْزَلاً من غيرِ كوكب، ولا مُسْتَنْبَتاً هجيناً، ولا مُسْتَنْسَخاً قَطْعاً.. كانَ فريدَ نفسِه. كان يريدُ أنْ يُعيدَ بناءَ وطنِهِ ووطنِنا بعد أن دمّرهُ اجتياحٌ إسرائيليّ وحروبُ فتنةٍ داخليّةٍ تتوالد كالأرانب. بدأ مَعَ اتّفاقِ الطّائفِ فواكَبَهُ وسهرَ مع غيرهِ فيه، وذلّلَ عقباتٍ وقرّبَ تباعدات. أرسى اتّفاقُ الطائِفِ سِلْماً أهليّاً وأنهى الحروبَ الداخليّةَ – والآنَ أقولُ إلاّ الحربَ على الطائفِ نفسِهِ فهي لم تنتهِ بعد، فبعضُ القِوى التي تشكّلتْ منها السّلطة كانت ضدّ الطائفِ عَلناً أو سرّاً.

كانَ يعرفُ أنّ الحروبَ لا تصنعُ الأوطانَ بل تُفتِّتُها، وكانَ يعرفُ أنّ مشاريعَ الأوطانِ الخاصّةِ لا تُحيي أصحابَها بل تقتُلُهم، وهو لم يكنْ يريدُ أن يصنعَ الوطنَ على شاكلتِهِ كما كانوا يقولون، بل أرادَ أنْ يكونَ شريكاً في بناءِ الوطنِ على طريقتِهِ، وكانتْ طريقَتُهُ فعّالةً وبنّاءةً. لم يطلبْ رفيق الحريري من الآخرينَ إقراراً بالعرفان، بل كان يشتهي فقط عدمَ النكران!

كانَ يعلمُ أنّ السِّلْمَ وحدَهُ يجمعُ الوطنَ ويضمُّ الجميعَ إليهِ في قلبِهِ وليسَ على حافّتهِ – لم يكنْ ليقبلَ بمواطنةٍ مُدَلاّة، منبوذةٍ أو مستضعفةٍ – بل كان يريدُ – فيما كنتُ أشعرُ –  بناءَ مواطَنةٍ قويّةٍ، مواطَنةٍ منتميةٍ مُدرِكة –  في وطنٍ لكلِّ منا فيه خصوصيّةٌ محترمةٌ ومُقدّرةٌ تجعلُنا نحبُّ أن نربّيَ فيه أبناءَنا، ونحبُّ ان نستيقظَ تحتَ سمائِهِ صباحَ اليومِ التّالي.

لهذا سالَمَ الجميعَ ما استطاعَ، وعمِلَ مع الجميعِ ما استطاع، وصبرَ على الجميع ما استطاعَ وما لم نستطِعْ، وحملَ الجميعَ أكثرِ ممّا استطاع، فَناءَ الوطنُ بالحِمْلِ الثّقيل. ومرّة، في ليلةٍ قُبَيْلَ انتصافها، حدّثني قائلاً، «هؤلاء المجانين سيأكلونَ الكعكةَ كلَّها-هكذا تعبيرُهُ- ويبيدونَ كلَّ شيء، وأنا أحاولُ إقناعَهم أن يُبقوا على شيء منها حتّى نستطيعَ متابعةَ الخَبْزَ!». بعضُ هؤلاء  ما زال حيّاً يسعى..ّ!

أعادَ بناءَ وتطويرَ وتعزيزَ علاقاتِ لبنانَ العربيّةَ بمقدارٍ عظيم، وأنشأ للبنانَ شبكةَ أمانٍ اقتصاديّةً وسياسيّةً دوليّةً وعربيّة، وبنى بعملِهِ الدؤوبِ، بالإضافةِ إلى الثّقةِ والتفاؤلِ اللّذينِ كانَ ينشرُهُما، أنظمةَ مصالحَ مشتركةٍ لتكونَ سقوفَ حمايةٍ عند الشّدائد حتَى لا تقعَ السّماءُ على رؤوسِ اللبنانيّين، لكنّ هذه السقوفَ ثُقِبَتْ وحُطِّمتْ لاستخراجِ حديدِها وبيعه، فوقعت السّماءُ على رؤوسِنا.

لم يكنْ بناءُ الدولةِ – بلْ مجرّدُ التفكيرِ الجِدّيِّ ببنائها – مقبولاً من بُنىً وأشخاصٍ وَدُولٍ. ولم يكن مقبولاً أن يكون اتّفاقُ الطائفِ دستوراً حيّاً ومرجعيّةً يُستجابُ لها، فكان قرارُ التّخلّصِ مجدّداً من حرّاسِ الدّستورِ والدولة – كما حدث عام 1992 في إبعادهم- وكان رفيق الحريري قد صار من كبارِ الحرّاس.

الجريمة لا تصنعُ وطناً، ولا تبني سيادةً ولا تحفظُ حريّةً ولا تحمي تحريراً.

إقرأ ايضاً: ملتقى التأثير المدني..لتصويب بوصلة المواجهة لتستقيم دولة المواطنة

والوطنُ ليسَ قطعةَ سماءٍ وجبالاً وتراب، كما كان يقولُ الشيخ محمّد مهدي شمس الدين، بل هو رغيفٌ حلال، ورزقٌ شريف، ومدرسةٌ ومستشفى وبيتٌ آمن.

كان اتّفاقُ الطّائفِ عقداً اجتماعيّاً مقبولاً ودستوراً مرجعيّاً لكلِّ اللبنانيّين مع شذوذٍ قليلٍ مُعلنٍ أو مكتوم لكن اليوم صار الاعتراضُ جهيراً والتشكيكُ بالعيشِ المشتركِ واقعاً

لبنانُ الوطنُ الحقيقي هو حيثُ يكون الكلُّ مساوياً للكلِّ وشريكاً للكلِّ، وأن يكونَ بدون نُقصانٍ أو انتقاص، وبدون استلحاقٍ في الجغرافيا أو في السّياسةِ، وبتكاملٍ تامٍّ في المجموعةِ العربيّةِ كتكاملِ الكواكبِ في المجموعةِ الشمسيّة.

أين نحن الآن في « لبنان الغد» بعد الجريمة؟

  1. كان اتّفاقُ الطّائفِ عقداً اجتماعيّاً مقبولاً ودستوراً مرجعيّاً لكلِّ اللبنانيّين، مع شذوذٍ قليلٍ مُعلنٍ أو مكتوم. لكن اليوم صار الاعتراضُ جهيراً والتشكيكُ بالعيشِ المشتركِ واقعاً.
  2. كانتِ الدولةُ في بُناها ومؤسّساتِها حاضرةً في المجتمعِ ومُحترمةً بين الدول، أمّا الآن فصارت متلاشية، ولم تعُد مرجعيةً لأيّ شأن من شؤون المجتمع، كما صارت هي دُويلةً  بين دويلات، وغَدَتْ موضوعاً لتوبيخِ رؤساء الدول، وامتعاض المؤسسات الدّولية.
  3. كانَ لبنانُ عزيزاً بين أشقّائِه العرب ومُحتضَناً من قبلٍهم ومن أصدقائه دوليّاً، أما الآن فصارَ معزولاً عن العالم، مستفزّاً لأشقّائِه العرب ومحاصِراً نفسَهُ بنفسِهِ.

لبنان وطنٌ حقيقيٌّ، ليس كذبةً تاريخيةً ولا مؤامرةً دوليّة ولا خطأً جغرافيّاً، وهو لا يحتاجُ إلى تأسيسٍ فينيقي ولا إلى استكمالٍ سوري حتى يكونَ صحيحاً. نريدُهُ بتاريخِنا المشترك فيه منذ إعلانه وتأسيسه، لنصنعَ فيه مواطنةً صالحةً لأبنائنا حتّى يُسلّموا أبناءَهم، لا قضيّةً ناقصةَ، بل وطناً ناجزاً يسكنون فيه وإليه، حتّى لا يبقى رصيفَ سفرٍ او شاطئَ وداعٍ يَفرّون منه كما هو الحال اليَوْم.

كانَ لبنانُ عزيزاً بين أشقّائِه العرب ومُحتضَناً من قبلٍهم ومن أصدقائه دوليّاً أما الآن فصارَ معزولاً عن العالم مستفزّاً لأشقّائِه العرب ومحاصِراً نفسَهُ بنفسِهِ

لا يضيعُ حقٌّ ولا دمٌ في السماء، لأن القضاءَ هناك ميزانُه مرفوع، وهو عادلٌ وحرٌّ ومستقل.

وختم :”رحمك الله يا رفيق الحريري من شهيدٍ مظلوم، ورَجُلِ دولةٍ مُفتَقَد”.

السابق
تقاذف المسؤوليات في تفلت الدولار «المتصاعد» على وقع انهيار النقد وأعمال العنف!
التالي
هزة أرضية تضرب سوريا والأردن..ويتردد صداها في بيروت!