الإيرانيات ينْتشلن خيالنا من الغرق

ايران

قيادة النساء الانتفاضة الدائرة في إيران منذ أشهر لم تعُد بحاجة إلى برهان. كل يوم يمرّ عليها يضيف اسماً، أو فكرة، أو حدثاً.

شخصيتان نسائيتان، يُفترض أنهما من قلب النظام، السياسي والقرابي، أعطتا كلمتهما، ودفعتا الثمن سجناً. فايزة رفسنجاني، ابنة هاشمي رفسنجاني، رئيس إيران في تسعينيات القرن الماضي، لم تفاجئ العارفين بها. هي التي سبقت الانتفاضة بنقدها العلني سياسة بلادها وبكلام قاسٍ بحقّ قادتها. من نوع أن والدها الراحل نصحَ قاسم سليماني “بعدم التدخل في سورية”، وأن النظام في بلادها لم يعُد “دينياً أو ثورياً”، وأن إيران “متورطة في قتل السوريين واليمنيين”، وحكمها اليوم “أسوأ من حكم الشاه”، وأنه قتل من المسلمين “أكثر مما فعلت إسرائيل”. ها هي اليوم، وقد تجاوزت الستين من عمرها، محكومٌ عليها بالسجن 15 شهراً، بتهمة “التجمهر والتواطؤ” و”النشاط الدعائي ضد النظام”. وذلك إثر إعلانها تأييدها الانتفاضة الجارية في بلدها.

اقرأ أيضاً: خامنئي وموسوي والارتياب السوفياتي

بدرية حسين خامنئي، شقيقة المرشد علي خامنئي، قطعت علاقاتها معه منذ الانتخابات المزوّرة لعام 2009 وانتفاضة “الحركة الخضراء”. والآن، تدعو “الحرس الثوري” إلى إلقاء سلاحه، بعدما وقفت مع الانتفاضة الحالية، وعبّرت عن تعاطفها “مع جميع الأمهات اللائي يشعرن بالحزن على جرائم نظام الجمهورية الإسلامية”. ونشرت رسالة على الشبكة تدين النظام بشدّة، وتحتجّ على اعتقال ابنتها إثر مشاركتها في احتفال تضامني مع الانتفاضة، أثنَت خلاله على أرملة الشاه السابق.

والاثنتان ترتديان التشادور، ولكنهما تعلنان أكثر من مرّة أن “الحجاب لا يجب أن يكون إلزامياً”. الأولى، فايزة رفسنجاني، سبق أن دخلت السجن، والثانية قطعت علاقتها مع المرشد في الثمانينيات، وعُزل زوجها. ولكنهما ليستا وحدهما. زهرة رهنود، أستاذة الفنون التشكيلية، زوجة مير حسين موسوي، المرشّح في الانتخابات المزيفة نفسها لعام 2009. وفاطمة كروبي، الصحافية ورئيسة جمعيات تنموية، زوجة المرشَّح الإصلاحي الآخر مهدي كروبي. وقد ظهرتا أول مرة في تاريخ الجمهورية الإسلامية في أثناء الحملات الانتخابية لذاك العام، تخطبان أمام الحشود، تطلقان التصريحات، تظهران إلى جانب زوجيهما في المهرجانات، تربطان بين صعود الزوجين إلى الرئاسة، وبين تحقيق حقوق نسائية قضت على معظمها “الثورة الإسلامية”. الموسوي وخرّوبي خسرا الانتخابات، فاندلعت “الثورة الخضراء”، التي تمكّن النظام من سحقها بالقتل والقطع ومزيد من التشدّد، فكان مصير زهرة وفاطمة مشاركة زوجيهما الإقامة الجبرية، والصمت… حتى علا، أخيراً، صوت مير حسين الموسوي، مؤيّداً، متعاطفاً مع ثورة شعبٍ، داعياً إلى “تغيير جذري في النظام”.

ورغم ذلك، لم تهلك الجذوة. بين عام “الثورة الخضراء” واليوم كانت الحركة نشيطة، تُبدع أشكالاً من التعبير، غير تقليدية. مثل حملة هاشتاغ “الرجال في حجاب”، استجابة لفكرة صحافية إيرانية مقيمة في أميركا، اسمها مسيح علي نجاد. وصور تملأ الشبكة لرجالٍ شبابٍ، كهول، مراهقين، يرتدون الحجاب، وحولهم نساء، سافراتٌ ومحجّبات. ومنها أيضاً حملة أخرى شبيهة عنوانها “جاء الآن دور الرجال”، أي دور الرجال في التضامن مع قائدة فريق المنتخب الوطني لكرة القدم النسائية، التي منعها زوجُها من المشاركة في إحدى الدورات العالمية، مسْتقوياً عليها بالقانون “الإسلامي” الذي يسمح له بذلك. ومنها نشاط المصور الفوتوغرافي عباس قصيري، ومجموعته “الذكورة”، وفيها صور لرجال “البادي بيلدنغ”، بناة الجسد، يعرضون عضلاتهم، واللغة البصرية المختلطة، حيث دهشة العضلات وسخرية خاطفة قارصة. كأنها دعوة إلى التأمل بهوامات الذكورة وتجليّاتها الحسيّة.

وأمثلة لا تنْضب، يضيق بها هذا المقال، كلها تشير إلى قوة المجتمع الإيراني. ومقاومته النظام، بأفراده وبجماعاته، لأشكال القهر المختلفة. وتشير أيضاً إلى الأمر الجديد بالنسبة لإيران الإسلامية، وللعالم بأسره: أن محرّك هذه المقاومة، وجوهها وموضوعاتها وتعبيراتها، كلها نسائية، أو من وحي قضية النساء، أو دفعاً منها ولها… فضلاً عن قيادته، كما بدا منذ اللحظة الأولى، لاندلاع الانتفاضة.

هذا في إيران. أما نحن، فماذا لدينا؟ لدينا سيداتٌ أُول، إحداهن ترسل، أخيراً، بناتها ليرأسن بدورهن ندوات “حقوق المرأة”، بكامل الحرس والبهْورة. لدينا إعلامياتٌ لامعاتٌ، مؤثّرات، ملكات جمال، نجمات، مشهورات، وارِثات، تدور الأفلاك حول ذواتهن. لدينا نخبة، رجالُها لا يهتمون، لا يقرأون، لا يكتبون إلا عن أعظم الشؤون، سياسية جيوسياسة وما شابه. وإذا اهتمّوا بالنساء فمن باب الشعر الغزلي الهزلي أو البورنوغرافيا. تُقابلهن نساءٌ منكبّات على المرأة وحقوقها وتهميشها وظلمها، كأن ثمة غيتو ثقافياً قائماً بين الجنسين.

لماذا؟ لماذا يحصل في إيران ما نتمنّاه لنا، ما لا نملك منه إلا الكلمات؟ ولا تقُل هنا إن في إيران دولة، وفي لبنان لا دولة. هذا لم يعُد يكفي. بل قلْ إن في إيران مجتمعاً، أقوى من المجتمع اللبناني. يستمدّ هذه القوة من حداثة اكتسبها في عهد الشاه. ولم تتمكّن “الثورة الإسلامية” من اقتلاع جذوتها تماماً. والنساء تمرّدن على قرارات هذه الثورة منذ بدايتها. خذْ التعليم مثلاً: الإيرانيات أكثر تعلّماً من الإيرانيين. كانت هذه طريقة ردّهن الجماعية على قرارات الجمهورية الإسلامية التي التهمت حقوقاً نلنها أيام الشاه. وبعضها صمدَ، ومنه التعليم، ما فتح لهن باب الحرية وأفكارها ومسالكها.

أما المجتمع اللبناني، فكيف تلقّى بنود الحداثة؟ عبر الطوائف، أولاً وأخيراً، مهما تفاوتت العهود. الطائفة الأولى السبّاقة أتاحت للطوائف الأخرى، ولم تمتزج في بوتقة، إنما رسم الصراع بينها مصير النساء اللبنانيات ومصير الحداثة، فكانت حداثة لبنانية، متذبذبة، مجزّأة، تأخذها رياح الصراع إلى حيث تشاء. والنتيجتَان: أن الحداثة الإيرانية أشدّ عوداً من الحداثة اللبنانية، رغم المظاهر، وأن الحداثة، في معظم بناها، هي لصالح النساء. ربما أيضاً، وهذا سبب ثانٍ، أن الأربعين سنة من حكم الملالي أوْفَتْ وكفّتْ. وأن ما كان يوتوبيا في البداية تحوّل بسرعة، أسرع من اليوتوبيا الشيوعية، إلى جحيم على هذه الأرض. حتى أبناؤها بدأوا يكرهونها.

والأحرى أن ينطبق هذا “السبب” على لبنان، على “يوتوبيا” حزب الله بالتحرير وما شابه، التي جرّت لبنان نحو الفناء، فأن تكون إيران الآن جحيماً، هذه مزحة قياساً إلى لبنان المُحْتَضر. ومع ذلك، لا نرى “انتفاضة” شيعية، ضد حاكمها، لا نسائية ولا رجالية. ولا نقول انتفاضة لبنانية شاملة، واحدة وطنية، كما حصل منذ أربع سنوات في ثورة 17 تشرين (أكتوبر)، بعدما أجهضها المنتصرون الأبديون.

فضيلة الانتفاضة الإيرانية أنها تلقي الضوء على إيران وعلينا. ككشّاف عن مزيدٍ من أحوالنا، كمنْتَشل لخيالنا من الغرق في بحر اليأس الشامل.

السابق
بعدسة جنوبية.. بعثة البحث والانقاذ اللّبنانيّة تنهي مهمتها في تركيا
التالي
عملية دهس بالقدس ومقتل إسرائيليَيْن!