في ذكراه الثانية: «جنوبية» ينشر «آخر كتاب لقمان».. «حزب الله من بداية الظهور إلى بداية السيطرة على لبنان»(2)

تحلّ الذكرى السنوية الثانية على جريمة اغتيال لقمان سليم، الذي اغتالته يد الغدر في العام 2021. وبحلول هذه الذكرى الأليمة، يتجدد الأسف الشديد، على اغتيال عقلٍ تنويريّ إصلاحي، كارِهٍ لأن يظل وطنه لبنان أسيراً مرتهناً لشرور الطائفية والمذهبية.
ولقد كان الشهيد لقمان جذرياً في وطنيّته، ولم تتوقف جذريته هذه، عند حدود مواقفه الثقافية والسياسية، فحسب، بل تُوّجت هذه الجذرية، بمشروعه الإبداعيّ المتمثل بكتابة وأرشفة تاريخ جديد وحديث للبنان (أي تاريخ ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية). وهو المشروع القائمة مداميكه الثقافية على أُسُسٍ صحيحة وصريحة، عابرة للطوائف والمذاهب في لبنان.

كان الشهيد لقمان جذرياً في وطنيّته ولم تتوقف جذريته هذه عند حدود مواقفه الثقافية والسياسية فحسب بل تُوّجت هذه الجذرية بمشروعه الإبداعيّ المتمثل بكتابة وأرشفة تاريخ جديد وحديث للبنان


وفي نطاق هذا المشروع يندرج كُتيّب للشهيد لقمان سليم، وهو آخر ما كتب، يحمل عنوان: “حزب الله من البداية إلى البداية”، قامت بإصداره “مؤسسة دار الجديد” في بيروت. (ودار الجديد هي إحدى مؤسسات لقمان سليم الثقافية). ولقد أرَّخت دار الجديد هذا الكتيّب على النحو التالي:
“صدر هذا الكُتيّب يوم 3 شباط (فبراير) 2023 – عامان على اغتيال لقمان سليم بين نيحا والعدّوسية – جنوب لبنان”، وهذا الكُتيّب يوثّق، بحثياً وعلمياً، وموضوعياً، على الصعيد التحليلي الصرف، خلفية ولادة حزب الله، وأيضاً ولادة ونشأة واستمرارية حزب الله، كحزب سياسيّ وعسكريّ، على الساحة اللبنانية. أي أن هذا الكُتيّب يسرد سيرة حزب الله (وكما تختصرها رمزية العنوان)، من بداية ظهوره في لبنان إلى بداية سيطرته على لبنان.

هذا الكُتيّب يوثّق، بحثياً وعلمياً وموضوعياً على الصعيد التحليلي الصرف، خلفية ولادة حزب الله وأيضاً ولادة ونشأة واستمرارية حزب الله كحزب سياسيّ وعسكريّ على الساحة اللبنانية


و في ذكراه الثانية ينشر “جنوبية” على محتويات هذا الكُتيّب على حلقات عدة، وكانت نُشرت الحلقة الأولى من هذا الكتيّب وقد تضمنت، المحاور الأربعة التالية وعناوينها: “الحرب تُقدم أوراق اعتمادها)، (أي الحرب الأهلية اللبنانية منذ بدايتها في العام (1975)؛ و”عراق صدام وإيران الخميني” (وصراعهما العسكري في لبنان)؛ و”حسن الضيافة الثورية” (وهذا المحور يتناول بداية الحضور الإيراني في لبنان)؛ و”حرب السفارات” (بين إيران والعراق في لبنان في الثمانينات من القرن الماضي)

وفيمتا يأتي محتوى نص الحلقة الثانية بعنوانينها الأساسية:

التطهير السياسي

(وهو “التطهير السياسي الذي قامت به إيران في صفوف الشيعة اللبنانيين)
وشأن الإحالة إلى “إيران الخميني”، لقد يثير الحديث عن خطة “تطهير سياسي” بعض التحفظ، أو لقد تنسبُ القائل بها إلى طائفة الدسائسيين المؤامراتيين، ومن ثم ما يبدو لي من موجب المسارعة إلى التعليق الموجز على هذا التحفظ فأقول: لو لم يكن “التطهير السياسي” في صفوف اللبنانيين الشيعة جزءاً لا يتجزأ من فلسفة “تصدير الثورة” إلى لبنان الذي وضعته إيران الخميني، مبكراً جداً، نصب عينيها، ولو أن اغتيالات قادة الرأي وأصحاب الدالة السياسية والاجتماعية في تلك المرحلة لم يعد كونه بعضاً من الحرب بين العراق وإيران لا أكثر ولا أقل، لما تواصلت هذه الاغتيالات بعد “اجتثاث” عراق صدام من لبنان مستهدفة أفراداً لا شأن لهم بالعراق ولا ببعثه، بل لما استمرت، حتى الأمس القريب، منبهة من تسوّل لهم أنفسهم الخروج على الجماعة خروجاً من شأنه أن يهدد تماسكها، أو صورة تماسكها، بأن كاتم الصوت، أو ما يعادله من أدوات القتل المادي أو القتل المعنوي، بالمرصاد. وإذا كان الاغتيال هو وسيلة التطهير السياسي الأشيع متى ما تعلق الأمر بالأفراد، فللتطهير السياسي متى ما تعلق الأمر بالعشائر وسائله، ومتى ما تعلق الأمر بالمجتمعات الريفية وسائله وعلى ما تقدم قِسْ.

لما تواصلت هذه الاغتيالات بعد “اجتثاث” عراق صدام من لبنان مستهدفة أفراداً لا شأن لهم بالعراق ولا ببعث بل لما استمرت حتى الأمس القريب


إنفاذاً لخطة “التطهير السياسي” تلك، لم تكتف إيران باستنفار ما تيسّر لها الوصاية المباشرة عليه من حركة أمل التي كان تأسيسها أواسط السبعينيات على يد السيد موسى الصدر، والتي لم يكن قد بقي لها من قضية مع “تغييب” هذا المؤسس سوى المطالبة بعودته، ولم تكتف باستنفار حَمية اللبنانيين الشيعة تحت عنوان التضامن مع إخوانهم العراقيين الشيعة، ولكنها أسفرت القناع أيضاً عما كانت قد باشرت بإنشائه من منظومة عسكرية أمنية خاصة بها ومؤتمرة مباشرة بأوامرها. ولا أبلغ هنا، في وصف ما تقدم وفي وصف هذه المرحلة، من الاستشهاد بما جاء، لسنوات خلت، تحت قلم رجل هو اليوم أحد أعضاء “كتلة الوفاء للمقاومة”، وهي كنية كتلة “حزب الله” في البرلمان اللبناني:
“كانت حركة أمل تشكل التنظيم الشيعي الرئيسي على الساحة اللبنانية (…) وبرز اسم أمل في الأحداث التي توالت على الساحة اللبنانية، خاصة في الفترة الممتدة بين العامين 1980 و1982، حين وقعت سلسلة من الأحداث أبرزها ازدياد المشاكل بين أمل والفلسطينيين، في بيروت وقرى الجنوب (…) كما انعكست تطوّرات الحرب العراقية/ الإيرانية في أحياء بيروت وقرى الجنوب، إذ حاول نظام صدام حسين استغلال الساحة اللبنانية لتوسيع نطاق المجابهة مع إيران (…).
وفي المقابل، كانت إيران قد بدأت تستعيد قوتها وتُحرر بعض أراضيها، فبدأت بمساعدة الإسلاميين في لبنان، وفتحت خطوطاً مع كل الاتجاهات الإسلامية، وعملت على تبني الجو الإسلامي بعيداً عن التفاصيل الفرعية، ولهذا الغرض، تم تشكيل لجنة خاصة مهمتها تنسيق الدعم للمؤمنين العاملين في الخط الإسلامي، فنما حضور هذا الخط الشعبي والسياسي والأمني، بعدما تشكلت مع مطلع الثمانينيات مجموعة أمنية خاصة، أصبح لها وزنها وثقلها، واستطاعت في فترة وجيزة إثبات جدارتها، في حماية الخط الإسلامي، وشكلت الذراع العسكرية التي كان يحتاجها، لحماية تشكيلاته التي كانت تتجذر، في بلد يحتاج فيه أي حضور سياسي إلى حضور عسكري فاعل.
وجاء تفجير السفارة العراقية (…) بسيارة مفخخة (…) في ربيع العام 1981، ليشكل دفعاً جديداً لنمو التيار الإسلامي، ولكن ما إن أطل شهر حزيران من العام 1983، حتى كان كل شيء ينقلب رأساً على عقب، مع بداية أوسع اجتياح إسرائيلي أسقط أول عاصمة عربية (…)”.

جاء تفجير السفارة العراقية (…) بسيارة مفخخة (…) في ربيع العام 1981، ليشكل دفعاً جديداً لنمو التيار الإسلامي

الخطيئة السياسية التي لا كفارة لها

كأني بالاستنتاجين اللذين أرغب في الوصول إليهما من كل ما تقدم لا يحتاجان إلى مزيد بيان:
أولاً: “حزب الله”، كما نعرفه اليوم، وبصرف النظر عن الملابسات والمنازعات الداخلية التي تخللت الفترة الفاصلة بين “سنوات التقية” وبين لحظة الإشهار، هو ابن شرعي من أبناء “الحرب الأهلية” وإنما يُزكّيه على إخوته من أبنائها، من شاخ منهم ومن انقرض، ما تَوفَّر له من ظروف محلية وإقليمية حفظت له أسباب البقاء والحيوية.
ثانياً: “الحرب”، سواء أكانت أهلية أم غير أهلية، هي بيئته الحاضنة وشرط بقائه المشروط.
لا أريد من قولي إن “حزب الله” ابن شرعي من أبناء “الحرب الأهلية” أن أعيد حقيقة تاريخية ضلّت الطريق إلى نصابها بل أن أسأل – أن أسأل نفسي قبل أي أحد آخر – في معرض حل الجَفْرِ الذي نتحلّق اليوم حوله: بكم أسهم التسليم، في عداد أمور كثيرة أخرى، – التسليم من باب السذاجة، أو من باب المجاملة أو شرَّ من هذا وذاك نزولاً عند داعية الاستقامة السياسية، بأن “حزب الله” هو ابن “المقاومة”، لا ابن “الحرب” وربيبها، في أن يتحول، شيئاً فشيئاً، إلى هذه الألغوزة التي لا يزيدها التغاضي عن أصلها وفصلها إلا غموضاً؟ جوابي، لنفسي، قاطع لا يحتمل الاجتهاد: إن حمل “المقاومة” على محمل الفِراش الذي وُلد فيه “حزب الله” ليس خطأً تاريخياً فحسب بل خطيئة سياسية لا كفارة لها. فمن يسلّم بأنه في هذا الفراش وُلد، مسوق حكماً إلى الإقرار له بصفة أو أكثر من صفات “حركات التحرُّر الوطني” ومن يفعل لا بد أن يعامله معاملة هذه الحركات وأن يتوقع منه، وأن يتوقع له، أن يسلك سلوك هذه الحركات في انتقالها من “الثورة” إلى “الدولة”…
بين يديِ “حزب الله”، وبشهادة السنوات الثماني عشر الماضية، أي منذ الانسحاب الإسرائيلي الذي ارتفع معه، نظرياً وعملياً، السبب الموجب لـ”المقاومة” – على افتراض أن هذه “المقاومة” لم تكن أحد الأسباب التي أدامت فترة الاحتلال – نحن أمام أحد اثنين: إما متابعة “حزب الله” في دعواه بأنه نسيج وحده، ونموذج فريد لا محل لاستعجال انتقاله من “الثورة” إلى “الدولة” بفضل من فرادته المزعومة هذه، وأما التشكيك ابتداءً بأنه مولود تحت “برج المقاومة” والبحث له عن نَسَب آخر، واستطراداً، عن سيرة أخرى.

الحرب سواء أكانت أهلية أم غير أهلية هي بيئة “حزب الله” الحاضنة وشرط بقائه المشروط


يفضي بي ما تقدم إلى الاستنتاج الثاني: “الحرب”، سواء أكانت أهلية أم غير أهلية، هي بيئة “حزب الله” الحاضنة وشرط بقائه المشروط. وهنا، أكثر من أي محل آخر ورد فيه ذكر الحرب خلال هذه المداخلة، أصرُّ على معنى الحاصِرتين اللتين أحيط كلمة حرب بهما، ولا سيما وأن “حزب الله” متورط حالياً في عدد من الحروب بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس لحرب، بصرف النظر عن عدالتها، أن تباع من الجماعة أو من الجمهور الذي يُدعى إلى خوضها وإلى بذل التضحيات البشرية والمادية على مذبحها بوصفها كذا – أي بوصفها حرباً. بل قل إن الحرب، شأن ما يستخرج من باطن الأرض من موارد طبيعية لا يصلح للاستهلاك إلا بعد تكريره وتدويره وليس هذا بالسر المكنون أو بالوصفة التي تخضع لأنظمة المُلكية الفكرية. ومتى ما تسالمنا على أن “حزب الله”، هو، في الوقت نفسه، تعبير عن مشروع “تصدير الثورة” وأداة من أدوات هذا المشروع، أي تعبير عن مشروع توسيع النفوذ الإيراني وأداة من أدواته، فلن تحتاج إلا لما تقتضيه تسمية الأمور بأسمائها من شجاعة لنسمي “حزب الله” باسمه الحقيقي: حزب الحرب الإيرانية، المتعددة الأوجه، المتنقلة بين الساحات، الناطقة بشتى اللُكنات، المتوسلة باللاّمُحِقَّ من القضايا والباطل منها، والمتصلة، على غير انقطاع، منذ قرابة أربعة عقود، والمنذرة بالاسترسال حتى إشعار آخر.

“حجابك أغلى من دمي”

كُتب لي أن أولد وأن أشب في حارة حريك، أحد أحياء ما يطلق عليه اسم ضاحية بيروت الجنوبية، أي تلك المنطقة التي تحولت شيئاً فشيئاً، وأزعم بأنني رأيت، بأم العين، كيف تتالت ولادات ما نُطلق عليه اليوم اسم “حزب الله” وكيف تحولت هذه الضاحية، على مر الأربعة العقود الماضية، إلى عاصمته السياسية والمالية والثقافية والعسكرية والأمنية، وإن أنسى لا أنسى أن أحد أول الشعارات التي اختطّها الخمينيون على جدران حيِّنا كانت ذلك الشعار الدعوي: “أختي، حجابك أغلى من دمي”، وإذ لا أني أستحضر هذا التفصيل كلما أتبحت لي المناسبة، وإذ أستحضره اليوم حيث ينتشر “حزب الله”، بالمعنى العسكري لكلمة انتشارٍ، من البحر الأحمر إلى المتوسط، تحت أسماء مستعارة شتى، مع ما يغري به هذا الانتشار بتقديم الخطر العسكري والأمني على سواه من الأخطار، فلأذكّر بما يفترض أنه ما من حاجة للتذكير به… لأذكّر بأن الجبهة الموكول إلى حزب الحرب أن يُرابط عليها، وأن يقاتل، تمتد من غرفة النوم إلى أعالي البحار مروراً بالعواصم، ولأذكّر بالقول السائر: في الحرب، إنما يخسر الحرب من يتعفف عن خوضها”!

للاطلاع على الكتاب اضغط على الرابط التالي:

السابق
خواطر في لقمان.. هل يَحْتاج اللبنانيون إلى ميتاتٍ كَثيرَةٍ لِيَنْتَبِهوا؟
التالي
إستعدوا.. العاصفة فرح تشتدّ والثلوج إلى الـ800 متر