تاريخ النهضة في جبل عامل (14): النجف ترفد لبنان بالعلماء المجدّدين

سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين، نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام، في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا، الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر "جنوبية" على حلقات، ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما، في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.

أسس الشيخ الطوسي محمد بن الحسن عام 449 هجري 1057 ميلادي، الملقب بشيخ الطائفة، الحوزة الدينية لدراسة الفقه الشيعي الجعفري  في النجف، عندما جاء من بغداد بعد أن طرده السلاجقة وهدّموا مكتبته وبيته، فهو “أول من جعل النجف الأشرف مركزاً علمياً تأوي إليه الناس” كما قال المحقق الشيخ الطهراني النجفي.

سارت النجف وخرجت العديد من العلماء الكبار المبدعين الذين ألفوا كتبا شرحوا فيها العقيدة الشيعية وعنوا بالتايخ وقاموا بتحديث مباني الفقه الجعفري كي يلائم العصر

النجف واتصاله بجبل عامل

يمكن القول، إن أول اتصال وقع بين جبل عامل من جهة، والمراكز العلمية الشيعية الكبرى من جهة أخرى، كان ذلك الذي تم في القرن السادس الهجري، عندما رحل أحد أبناء جبل عامل، ويُدعى إسماعيل بن الحسين العودي الجزّيني إلى مدينة الحلّة في العراق– والتي كانت تُعدّ أحد أهم المراكز الشيعية في تلك الفترة- فدرس على يد مجموعة من علمائها ومشايخها، ثم رجع إلى جبل عامل لينشر بها ما استفاد به من علوم ومعارف.

هذه الخطوة فتحت الباب أمام العديد من الرحلات لطلبة العلوم الدينية من العامليين، يمموا فيها وجوههم إلى مدينة النجف الاشرف حيث مرقد الامام علي، وذلك بعد ضمور دور حوزة الحلة، لتزدهر حوزاتها بمراجعها الكبار منذ القرن السابع عشر بعد توقف الحرب الصفوية العثمانية عام 1618.

اقرأ أيضاً: تاريخ النهضة في جبل عامل (13): الشيخ علي الزين.. مناضل قومي مجدّد في الأدب والتاريخ

ويقول السيد حسين شرف الدين رحمه الله  “ان جذور المعرفة نقلت إلى جبل عامل، عن طريق الخريجين من حوزات النجف والحلة، ولا يتسع المجال لذكر تراث عائلات عاملية استوطنت العراق من آل الأمين وآل محي الدين وعائلات عراقية واستوطنت جبل عامل مثل آل البلاغي، وهناك سلالة تتوزعها الهجرة العلمية والسياسية، ذهاباً وإياباً بين العراق وبلاد الشام منذ القرن الخامس الهجري، منها آل شرف الدين. فهناك تأثيروتأثر بين جبل عامل والنجف واستمر إلى الآن، من مجلس العزاء، واللطميّة إلى الندوات الشعرية وجلسات الشاي، إلى روح التجدد في النجف وإصدار المجلات ومناهج التعليم، على أيدي العامليين، محطات يرصدها هذا التحقيق الثقافي في عامليات.

جاء التجديد المؤثر حين اسهم مجموعة من العلماء العراقيين واللبنانيين على رأسهم العلامة الشيخ محمد رضا المظفر والمرجع السيد محسن الأمين العاملي بتأسيس كلية الفقه في العام 1958

ويسجّل انه وبعد نقاش وسجالات عنيفة بين محدثين وتقليديين،  حول المنهاج الدراسي للحوزات في النجف ووجوب تطويره، شارك فيه طلاب واساتذة وكبار رجال الدين في ذلك الوقت، جاء التجديد المؤثر والتحديث للتدريس، حين اسهم مجموعة من العلماء العراقيين واللبنانيين، على رأسهم العلامة الشيخ محمد رضا المظفر والمرجع السيد محسن الأمين العاملي،  بتأسيس جمعية منتدى التي انبثقت عنها كلية الفقه في العام 1958، لدراسة العلوم الفقهية الدينية الى جانب العلوم العصرية من تاريخ وفلسفة وعم اجتماع ولغات اجنبية، فضلاً عن القيام بواجب الدعوة والتبليغ الإسلاميين الى جانب الحوزات التقليدية التي بقيت على مناهجها القديمة في التدريس.

كان من أهداف كلية الفقه، السعي إلى وضع منهاج الدراسة الحوزوية، في مرحلتي المقدمات والسطوح، على وفق النظام السنوي وإدخال نظام الامتحانات في إجازة الطلبة الدارسين فيها، فضلاً على الأخذ بجانب من المناهج الحديثة، في تيسير الكتاب المدرسي الحوزوي. وبهذا التنوع وهذا المناخ من الحرية، الذي ساهم في تقدّم العلوم الفقهية الجعفرية وانفتاحها على باقي المذاهب الدينية والفكرية، سارت النجف وخرجت العديد من العلماء الكبار المبدعين، الذين ألفوا كتبا شرحوا فيها العقيدة الشيعية، وعنوا بالتايخ وقاموا بتحديث مباني الفقه الجعفري كي يلائم العصر.

ويذكر من هؤلاء العلماء الذين عادوا واستقروا في لبنان في العقود الاخيرة من القرن الفائت: الشيخ محمد جواد مغنية، والشيخ موسى عزالدين، والشيخ عبدالله نعمة، والشيخ محمد تقي الفقيه  والسيد هاشم معروف الحسني، تبعهم المجتهد الشيخ محمد مهدي شمس الدين، واية الله السيد محمد حسين فضل الله، وثلة من خريجي كلية الفقه، منهم الشيخ محمود فرحات، والشيخ محمود كوثراني، السيد احمد شوقي الامين، السيد عبد الله الامين، الشيخ عبد الحميد الحرّ، السيد كاظم ابراهيم، الكاتب السيد هاني فحص، والمفكر الاسلامي السيد محمد حسن الامين، رحمهم الله، والدعاء بطول العمر  للعلامة المجتهد المجدّد في الفقه والعقيدة السيد علي الأمين، وللمؤرّخين الباحثين الشيخ محمد جعفر المهاجر والقاضي الشيخ يوسف عمرو.

تجربة السيد هاني فحص

يقول العلامة اللبناني الراحل السيد هاني فحص في حديث يعكس مدى الحرية الفكرية والعمق والتنوع الثقافي الذي صبغ النجف في ستينات القرن الفائت:  “كان في كلية الفقه في النجف منبر كنت أتلو منه خطابات في الشعر والأدب والتاريخ، وكنت أكتب قصة ونقداً أدبياً، وعندما أرادوا أن يجددوا مجلة النجف، اختاروني مشرفاً تنفيذياً على العمل فيها كلها. استمرت المجلة سنة قبيل النكسة (67) وبعدها، وكان العدد الأول عن فلسطين، وبعده جرى التركيز على الحداثة واللغة العربية من دون أن تغيب فلسطين. أسهمت المجلة في التأسيس لحالة ثقافية، واتهمني أشخاص من حزب الدعوة بأن المجلة مشبوهة، وتحمل الصفات التالية : أولاً، أن اسمها مكتوب بالكوفي؛ أي أنها قومية عربية، ثانياً أن اسم المجلة على اليسار يعني أنها يسارية، ثالثاً أننا بدلنا الغلاف وأصبح “لوزانج” شبكة معينات، ما يعني ديالكتيك، رابعاً أننا صدّرنا العدد الأول باللون الأسود والخطوط البيضاء، وهذه سوريالية أو وجودية!

ويتابع: “بعد ذلك شاركت أنا والسيد محمد حسن الأمين في إصدار أول مجلة أدب حديث في العراق، اسمها “الكلمة”، صدر العدد الثاني منها وعلى الغلاف صورة غيفارا بالأحمر “حي في كل رصاصة”، بقيت المجلة تصدر لفترة طويلة، وكان فريقها مؤلفاً من حميد المطبعي، موسى كريدي، عبد الإله الصايغ، عزيز السيد جاسم، حسين مردان، زهير الجزائري، جان دمو، رزاق أبو الطين، زهير غازي زاهر، موفق خضر سعيد، وغيرهم”.

اقرأ أيضاً: تاريخ النهضة في جبل عامل (12): لبيب غلمية وفؤاد جرداق ينهضان بمرجعيون وحاصبيا

وكان رفاق الدراسة في النجف يقضون أوقاتهم خارج الدرس وما يرتبط به من تدريس ومذاكرة ونقاش علمي بجلسات أو سمر يتداولون شؤون الأدب شعراً ونثراً، تلاوة أو رواية، ومواضيع أخرى. وكانت أغراض الشعر تدور حول وجدانيات وإخوانيات ومديح ورثاء وتهنئة بزفاف أو مولود، والمناسبات الداعية لواحدة من هذه الأغراض كثيرة، وبالخصوص المناسبات الدينية التي أخذت أكبر مساحة من شعر طلبة النجف، وكان العامليون مساهمين رئيسين فيها.

السابق
بالفيديو: حريقٌ يضرب منزل عائلة سوريّة في بلدة يانوح.. واصابة حرجة!
التالي
بعدسة جنوبية: رغم اعتصام نواب التغيير.. جلسة للجنة المال والموازنة!