تحديات «السّلام» في لبنان على وقع «حرب» مصالح الدول (1)

السفير هشام حمدان

عانى لبنان حرباً أهليّة دمويّة شرسة، إستمرّت مدّة خمس عشرة سنة. إنتهت هذه الحرب بتوقيع اتّفاق الطّائف عام 1989. إحتضن المجتمع الدّولي بأسره، عمليّة توقيع هذا الإتّفاق. وقد ساهم الرّئيس السّوفياتي ميخائيل غورباتشوف في حينه، بتحقيق الإجماع لكلمة المجتمع الدّولي، من خلال سلسلة الإجراءات التي قام بها وأنهت عمليّاً، الحرب الباردة، وأدّت إلى تفكّك الإتّحاد السّوفياتي.
ندرك جميعاً عمق تأثير الولايات المتّحدة ودورها في مسيرة هذا الإتّفاق. فمن جهة، قامت بالحفاظ على دور أساسيٍّ للنّظام السّوري، بقيادة الرّئيس حافظ الأسد، لتنفيذ هذا الإتّفاق، وذلك على الرّغم من الدّور الذي لعبه سابقاً، في خدمة الإتّحاد السّوفياتي، خلال صراعهما على النّفوذ في الشّرق الأوسط.  فقد نظرت واشنطن بإيجابيّة بالغة، لدور سورية خلال حرب تحرير الكويت، وحرب الخليج الثّانية في مواجهة نظام صدّام حسين. ورأت أنّ هذا الإجراء، سيساهم في التّقارب بينهما، ممّا يساعد في تسوية القضيّة الفلسطينيّة، أو على الأقل، في فكّ التّرابط السّوري العملي مع هذه القضية. وكانت واشنطن مستعدّة للعب دور ناشط في تسوية النّزاع بين دمشق وإسرائيل، بشأن الأراضي السّورية المحتلّة. وهذا ما أثبتته فعلا، ألأحداث اللّاحقة. 

أوّل مبدأ في مبادئ بناء السّلام بعد النّزاع في لبنان يفرض عدم الرّهان على أيّ تمايزٍ أميركيٍّ فرنسيٍّ بريطانيّ بشأن الشّرق الأوسطش والنّظر نظرة واحدة على مواقفهم منه

لا شكّ أنّ تردّي العلاقات بين الولايات المتّحدة وسورية، إنعكس سلباً على لبنان. فتوقّف تنفيذ إتّفاق الطّائف، وما زال. لكنّه انعكس أيضا، على إدارة الولايات المتّحدة لعلاقاتها مع سورية وأصدقائها في المنطقة. لقد كان بقدرة الولايات المتّحدة، أن تتّخذ إجراءات أكثر عدائيّة ضدّ دمشق، لكنّها، لم تفعل. فواشنطن لا تدير الملفّات الدّوليّة، إرتجاليّاً أو ظرفيّا. هي لا تأخذ قرارات استراتيجيّة في هذه المنطقة، بمعزل عن علاقاتها مع حلفائها الأوروبّيّين. واشنطن تدرك تماماً عمق الرّوابط الأوروبّيّة مع هذه المنطقة، وحريصة على مصالح حلفائها فيها. ولذلك، فقراءة التّطوّرات في العلاقات الأميركيّة الأوروبّيّة، يصبح حاجة ماسّة، ليس فقط من أجل فهم أفضل لواقع المجتمع الدّولي، بل أيضا، لفهم مدى تأثير هذا الأمر على مصالح لبنان، وبناء تفكير سليم في متابعة عمليّة بناء السّلام في بلدنا، بعد الحرب الأهليّة. 

لقد سعينا إلى إقامة هيئة أهليّة، تدرس بعمق، مكمن التّحديات المستمرّة لبناء السّلام الأهلي في لبنان، بعد الحرب الأهليّة فيه. نقوم بهذا الجهد، منطلقين من واقع إعتراف العالم عبر الأمم المتّحدة، بحاجة الدّول التي عانت من الحروب الأهليّة، مثل لبنان، إلى دعم خاصّ. وهي لذلك، أقامت برنامجاً مستقلّاً في الأمانة العامّة للأمم المتّحدة، يعنى ببناء السّلام بعد النّزاع. لكنْ، من المؤسف، أنّ هذه الإدارة الأمميّة لهذا البرنامج، إستسلمت سريعا إلى حقيقة أنّ السّلام، وفي أيّ ظرف من الظّروف، لا تصنعه حتّى الآن، ألمبادئ المتّفق عليها، والمعلنة في ميثاق الأمم المتّحدة، بل تصنعه القوى الكبرى، التي رسمت منذ الحرب العالميّة الثّانية، مسار عمليّات بناء السّلام في العالم. تلك الدّول، لا ترغب حتّى الآن، أن تقوم الأمم المتّحدة بلعب دورها الكامل، لبناء السّلام في لبنان. هذا الدّور يفرض قبل كلّ شي، تنفيذ التّوجيهات التي أقرّها المجتمع الدّولي، تحت عنوان بناء السّلام بعد النّزاع، وحدّدها بقراراته العديدة عن لبنان، وتتّصل بكلّ النّظم السّياسيّة، والإداريّة، والسّياسات العامّة للدّولة المعنيّة. وعليه، هي انصرفت إلى ما تسمّيه ألمساعدات الإنسانيّة.

على أثر الهجوم الياباني على بيرل هاربور، وعلى مواقع الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وهولندا) في الشّرق الأقصى، وإعلان ألمانيا الحرب على الولايات المتّحدة، عُقد مؤتمر قمّة بين تشرشل وروزفلت في واشنطن، بين 22 كانون الأوّل/ديسمبر 1941، و14 كانون الثّاني/يناير 1942، أُطلق عليه مؤتمر أركاديا. ضمّ المؤتمر القيادات العسكريّة البريطانيّة والأميركيّة. وكان الغرض منه، بحث الإتّجاه الاستراتيجي المشترك، للجهود الحربيّة الأنجلو- أميركيّة، ضدّ ألمانيا في أوروبّا، واليابان في المحيط الهادئ. قرّرت أميركا في حينه، إعتماد سياسة الهجوم، بدلاً عن سياسة الدّفاع. ويمكن القول، أنّه منذ ذلك الحين، تحوّلت الولايات المتّحدة عن سياساتها الإنعزاليّة القديمة، نحو سياسةٍ أكثر تفاعلاً مع الأحداث الخارجيّة. كما تمّ اتّخاذ قرارات حاسمة، تتجاوز المنافسة الوطنيّة بين بريطانيا والولايات المتّحدة، حيث اتّفق الجانبان على أنشاء هيئة أركان مشتركة، وصفها المؤرّخ وكاتب سيرة مارشال مارك أ. ستولر، بأنّها: “هيكليّة ثوريّة أخرى، وغير مسبوقة.” ويمكن القول فعلا، أنّه منذ ذلك الحين، تحوّلت العلاقات الأميركيّة البريطانيّة، إلى علاقات مترابطة عميقة، مستمرّة حتّى اليوم. 

الولايات المتحدة أيّدت لاحقاً إصرار بريطانيا على دعوة فرنسا، للإنضمام إلى نادي الكبار كانت بريطانيا تريد أن تحفظ في مرحلة ما بعد هذه الحرب

أدّت الأحداث اللّاحقة إلى عدّة تغيّرات في نظام العلاقات الدّوليّة. ففي مؤتمر القمّة الرّابع بين الرّئيسين روزفلت وتشرشل، ألذي عقد بين 14، و24 كانون الثّاني/يناير 1943، في كازبلانكا (ألدّار البيضاء-ألمغرب)، وحضره الجنرال شارل ديغول، حصلت أوّل مبادرة أميركيّة للعب دور القيادة في العالم. وتشير المراجع، إلى أنّ بريطانيا، لم تكن متحمّسة في حينه، إلى ربط نهاية الحرب، بالإستسلام غير المشروط، لألمانيا. لكنّ تشرشل، فوجئ ببيان الرّئيس روزفلت، بعد هذا المؤتمر، يعلن فيه هذا الشّرط. أيّد تشرشل طبعا، ألموقف الأميركي. كانت هناك تفسيرات للموقف الأميركي، لكنّ المؤرّخين اعتبروا هذا الموقف، نقطة الإنتقال الحاسمة لمنصب القوّة العالميّة الرّائدة، من بريطانيا إلى الولايات المتّحدة. ففي عام 1943، كانت الولايات المتّحدة، قد أظهرت قدرة إستثنائيّة لخوض حرب عبر المحيطين الرّئيسيّين، وعلى جبهات متعدّدة. كما أنّ الحلفاء، باتوا يعتمدون بشدّة، على الولايات المتّحدة. كان هذا هو المؤتمر الأخير بين قادة البلدين، والذي كان لرئيس الوزراء البريطاني فيه، سلطة أو نفوذ كبير، على الرّئيس الأميركي.

 هذا التّحوّل في قيادة القرارات، لم يؤثّر على التّرابط الذي قام بين بريطانيا والولايات المتّحدة منذ مؤتمر أركاديا. فالبلدان، حافظا على مبدأ التّوافق بينهما إلى الحدّ الأقصى. وصمّما على التّمسّك بهذا التّرابط. وقد أيّدت بريطانيا، ألإصرار الأميركي، خلال مؤتمر موسكو الثّالث الذي عُقد بين 18 تشرين الأوّل/أكتوبر، و11 تشرين الثّاني/نوفمبر 1943، على دعوة الصّين إلى توقيع إعلانٍ ثلاثيٍّ مشترك، حول الأمن العامّ في العالم.  جمع ذلك المؤتمر وللمرّة الأولى، وزراء خارجيّة الولايات المتّحدة، والمملكة المتّحدة، والإتّحاد السّوفياتي. فقرّروا في 30 تشرين الأوّل/أكتوبر 1943، إنشاء منظّمة عالميّة، لإدارة الأمن العامّ الدّولي بعد الحرب. عارضت موسكو في حينه، دعوة الصّين لتوقيع هذا الإعلان، لاسيّما، وأنّها كانت وقّعت معاهدة عدم إعتداء مع اليابان التي كانت في حرب مع الصّين. إلّا أنّها خضعت أخيرا، لإرادة حلفائها الآخرين. 

إقرأ أيضاً: هل يصلح «القضاء» الاوروبي ما أفسده «القَدَر» اللبناني؟!

ومن الواضح، أنّ دعوة الصّين في حينه، كان لها عدّة أهداف. بعضها آنيُّ، والآخر بعيد الغرض. فالهدف الآنيُّ المباشر، إتّصل بالشّكوك التي ظلّت تراود روزفلت وتشرشل، بشأن النّوايا السّوفياتيّة، واحتمال توقيع السّوفيات لإتّفاق سلامٍ منفردٍ مع اليابان وألمانيا، بمعزلٍ عن الحلفاء. فقد رأى الحليفان أنّ هذا الإعلان، يردع موسكو من اتّخاذ خطوات منفردة. كما أنّه يساهم في احتواء الطّموحات اليابانيّة في الشّرق الأقصى والباسفيك. لكنّ الولايات المتّحدة، كانت مقتنعة أيضا، بأنّ القوّات الصّينيّة، ستنتصر في الحرب ضدّ اليابان، خاصّة، وأنّها كانت بقيادة حلفائها القوميّين ألذين يحظَون بدعمٍ كاملٍ منها. ألأمر الذي يعزّز موقعها وموقع بريطانيا في تلك المنطقة. تغافلت الولايات المتّحدة عن دور الحزب الشّيوعي، ألذي كان قد وافق على الرّضوخ، لقيادة القوميّين لتلك الحرب، بناءً لضغوط سوفياتيّة، والذي سيقلب المعادلة بعد الحرب.

أوروبّا التي اضطرّت للخضوع للتّحولات التي حصلت في تلك الحرب ما زالت فاعلة بغية الحفاظ على المصالح الوطنيّة الخاصّة والدّور التّاريخي لها في التّحكّم بمصير وثروات الشّعوب

 وبالمقابل، فإنّ الولايات المتحدة، أيّدت لاحقاً إصرار بريطانيا، على دعوة فرنسا، للإنضمام إلى نادي الكبار. كانت بريطانيا تريد، أن تحفظ في مرحلة ما بعد هذه الحرب، دوراً لأوروبّا الغربيّة التي كانت قد سادت تاريخ العلاقات الدّوليّة، قبل تلك الحرب. كان هذا الموقف البريطاني، تأكيداً على، أنّ أوروبّا التي اضطرّت للخضوع للتّحولات التي حصلت في تلك الحرب، ما زالت فاعلة. كلّ ذلك، بغية الحفاظ على المصالح الوطنيّة الخاصّة، للقوى الأوروبّيّة، والدّور التّاريخي لها في التّحكّم بمصير وثروات الشّعوب، بما في ذلك، في الشّرق الأوسط. لم تمانع بريطانيا بانضمام قوىً أخرى، لكنّها، لم تقبل بالتّأكيد، أن تخرج أوروبّا من اللّعبة. ومنذ ذلك الحين، إعتمدت الولايات المتّحدة سياسة التّعاون مع فرنسا وبريطانيا، بما في ذلك، بموضوع الشّرق الأوسط. 

إستمرّت هذه السّياسة منذ تلك الحرب وحتّى تاريخه. وعليه، فإنّ أوّل مبدأ في مبادئ بناء السّلام بعد النّزاع في لبنان، يفرض عدم الرّهان على أيّ تمايزٍ أميركيٍّ فرنسيٍّ بريطانيّ بشأن الشّرق الأوسط، والنّظر نظرة واحدة على مواقفهم منه،  وكذلك من المفاهيم اللّيبراليّة التي تجمع بينهم.

السابق
هزتان ارضيتان في حمص تصيبان لبنان «المهزوز» أمنياً ومالياً وسياسياً!
التالي
دردشة مع نوري عبد الرزاق (2)