بيروت-باليرمو

زيتونة باي - بيروت

غالبًا ما يُنظَر إلى الأعمال الإجرامية بأنها تُمارَس على هوامش المجتمع، ولكن ذلك غير صحيح في أماكن كثيرة. ويُعدّ لبنان وصقلية مثالَين على ذلك، حيث يمكن استقاء الدروس من التفاعل المستمر بين الجريمة والمجتمع، وحيث استمرّت الأعمال الإجرامية من خلال الاندماج في أنشطة الدولة.

أوجه التشابه بين لبنان وصقلية كثيرة، وربما تحمل مؤشرات عن الأسباب التي جعلت القضاء يواجه صعوبة في فرض القانون على مجتمعات بُنيت، من نواحٍ كثيرة، على أُسس متعارضة مع الدولة. لقد تعرّض كلاهما، على مرّ القرون، إلى الغزو على أيدي قوى متعدّدة، ولذلك تجذّرت لديهما موروثات سياسية متناقضة، لا بل متصادمة. في صقلية ولبنان، نَزَعت الروابط الاجتماعية التقليدية إلى الحلول مكان الوساطة التي تقوم بها مؤسسات الدولة الحديثة، فيما شكّل الدين أداةً للنزعة غير الليبرالية المسبِّبة للشلل، ومحرّكًا ظرفيًا للإصلاح. وفي الحالتَين، كان الرد التقليدي المفضّل على الانتهاكات السائدة في كل مكان التزام الصمت بصورة عامة، ولو مع استثناءات لافتة.

قال الكاتب الصقلي الكبير، ليوناردو شاشا، في إحدى رواياته الأخيرة بعنوان The Knight and Death (الفارس والموت)، على لسان إحدى شخصياته: “في طفولتنا، اختبرنا، بدل أن نعرفها حقَّ معرفة، قوة يمكننا تعريفها اليوم بأنها إجرامية تمامًا، ولكنها قوةٌ يمكننا أن نقول أيضًا، للمفارقة، إنها كانت في صحة جيدة، بالمعنى الإجرامي دائمًا، وبالمقارنة طبعًا مع القوة الراهنة التي تعاني من الفصام… غنيٌّ عن القول أنني أفضّل الفصام على الصحة الجيدة”.

كانت هذه الشخصية في رواية شاشا تشير بالطبع إلى المافيا بوصفها القوة الإجرامية بالكامل، ولكن إشارتها إلى “القوة الراهنة التي تعاني من الفصام” حملت دلالات أكبر. في الواقع، كان للمافيا والطبقة السياسية اللتين أحكمتا سيطرتهما على لبنان في نهاية الحرب الأهلية في العام 1990 مسارٌ مشابه جدًّا. فقد استغلّت كلتاهما المراحل الانتقالية الكبرى في تاريخ البلاد كي ترسّخا، في مشهد انفصامي، شبكاتهما الإجرامية في آليات الحوكمة الشرعية.

كانت المحطة الأساسية بالنسبة إلى الـ”كوزا نوسترا”، أي المافيا الصقلية، حين قام مَن كانوا يسعون وراء توحيد إيطاليا بطرد آل بوربون من مملكة الصقليتَين في جنوب إيطاليا في العام 1860. توصّلت المافيا إلى اتفاقات ضمنية مع السلطات السياسية والأمنية من خلال الحفاظ على النظام، ولاحقًا المساعدة في تأمين أصوات في الانتخابات. وبالفعل، شاركت المافيا بنشاط في إرساء سلطة الدولة الإيطالية الجديدة في صقلية، فيما كانت السياسة الحكومية “تتأرجح بشكل لا يمكن التنبّؤ به بين قمع المافيا تارةً ورعايتها طورًا”، بحسب تعبير جون ديكي في كتابه Blood Brotherhoods: The Rise of the Italian Mafias (أخويات الدم: تنامي المافيات الإيطالية).

في لبنان، خرجت البلاد من الحرب في العام 1990 ولكن بقي الحال على ما كان عليه خلال النزاع. فالجهة الراعية الأساسية لمنظومة ما بعد الحرب لم تكن الدولة اللبنانية، مثلما كانت الدولة في إيطاليا، بل النظام السوري. وقد أتاح ذلك لمعظم زعماء الميليشيات الطائفية رسم معالم جمهورية السلم وفقًا لأهواء مصالحهم السياسية والمالية وشبكات محسوبياتهم التي دعمها السوريون بكل طيبة خاطر، لأنهم انتزعوا هم أيضًا مكاسب هائلة من الفساد الذي وسم مرحلة إعادة إعمار لبنان. لم يرتكز لبنان في مرحلة ما بعد الحرب على تفاهم بين الدولة والمكوّن الإجرامي، بل سيطرت على الدولة بالكامل قيادة سياسية طائفية أمّنت استمراريتها المالية في سنوات الحرب من خلال سلوكٍ اقتصادي إجرامي.

أما في صقلية، فقد تلقّت المافيا ضربة قوية بين العامَين 1986 و1992، حين أقام القضاء الإيطالي، بقيادة قضاة من صقلية، محاكمة كبرى في باليرمو لنحو 475 عنصرًا في المافيا. ويعود نجاح المحاكمة بصورة أساسية إلى الشهادات التي أدلى بها منشقّون عن المافيا، مثل توماسو بوشيتا الذي وصف المافيا بأنها كيان موحّد ذو هرمية محدّدة وبنية قيادية. وكان هذا الكلام ثوريًا في وقتٍ كان لا يزال فيه عددٌ كبير من الأشخاص، لأسباب نزيهة أو مُريبة، يشكّك في مفهوم المنظمة الإجرامية الواحدة والجامعة.

أكّد بوشيتا ما كان يعتقده القاضيان اللذان انخرطا في مكافحة المافيا، تشيزاري تيرّانوفا وروكو كينيتشي، وهو ما استخدمه لاحقًا خليفاهما جيوفاني فالكوني وباولو بورسيلّينو وغيرهما، لإقامة محاكمة ماكسي الموسّعة التي تكلّلت بالنجاح. وقد واجه هؤلاء الرجال الأربعة مخاطر جمّة، إذ اغتيلوا جميعهم على يد المافيا.

لم تُنهِ محاكمة ماكسي نفوذ المافيا، لكن الغضب الشعبي العارم عَقِب اغتيال فالكوني وبورسيلّينو أرغم الحكومة الإيطالية على إرسال الجيش إلى صقلية، وبذل قصارى جهدها لإيجاد واعتقال الزعيم الأكبر للمافيا، سالفاتوري “توتو” رينا، ثم خلفه برناردو بروفنزانو، ما ألحق أضرارًا بالغة في المنظمة. وسُرعان ما سلكت الطبقة السياسية الإيطالية المسار نفسه. فقد واجه أبرز ممثّليها، جوليو أندريوتي، اتّهامات بارتباطه مع المافيا، وانهارت أحزاب كبرى بعد ما عُرف بفضيحة تانجينتوبولي (أي مدينة الرشى) في مطلع التسعينيات، والتي كشفت عن طرق التمويل غير المشروعة للأحزاب السياسية الإيطالية الكبرى.

واجه لبنان وضعًا مماثلًا ربما في شهر آب/أغسطس 2020، حين وقع انفجار في مرفأ بيروت أسفر عن دمار نصف المدينة وعن مقتل أكثر من 200 شخص. كانت الكثير من الأحزاب اللبنانية متورّطة في أفعال سمحت بحدوث هذه الكارثة. لكن القادة السياسيين عمدوا إلى احتواء السخط الشعبي من خلال الضرب على وتر الحساسيات الطائفية، بحيث أصبح قاضي التحقيق طارق بيطار في مرمى الاستهداف من القوى السياسية بعد سعيه إلى استجواب قادتها. إذًا، تفوّقت صقلية على لبنان من حيث تمتّعها بسلطة قضائية كانت مستعدة لبذل المستحيل على الرغم من المخاطر المهولة، إضافةً إلى سياسيين يمتلكون حدًّا أدنى من احترام الذات.

إن النموذج الذي أظهرته صقلية وطبّقه لبنان بإتقان، هو أن المنظمات الإجرامية العالمية الناجحة تستند إلى ميثاق بين من يتولّون الحكم ومن يرتكبون الجرائم، يقضي بأن يُكلَّف المجرمون بمسؤوليات محدّدة في الدولة، وأن تعتمد الدولة على مساعدة المجرمين في الشؤون المحظورة قانونيًا. في صقلية، نسّقت المافيا مع ممثّلين عن شخصيات في الطبقة الحاكمة في روما، فأمّنت الأصوات لهم في الانتخابات مقابل الحصول على المنافع والخدمات السياسية. كان ابنا العم “سالفو” وسالفاتوري ليما من بين أبرز المستفيدين من هذا النظام الشاذ.

لكن في لبنان، نقترب أكثر من الجمهورية الإجرامية الكاملة. فهنا، من يرتكبون الجرائم يتولّون أنفسهم مناصب رفيعة في الحكم، ويتغلغلون في أجهزة الدولة كافة، بدءًا من المؤسسات الأمنية ومؤسسات الدفاع الوطني، ومرورًا بالسلك القضائي، ووصولًا إلى المؤسسات التعليمية وحتى الاتحادات الرياضية. واقع الحال أن جرائمهم كاملة للغاية بحيث أن الكثير من أفعالهم لا تُعتبر إجرامية بنظر معظم الأشخاص في المجتمع. يتحدّث اللبنانيون عن “شبكات محسوبيات” السياسيين، لكن في ظل أي نظام سياسي خاضع للقانون، يُعتبر نهب الدولة لتعزيز حظوظ المرء السياسية ممارسة غير مشروعة.

على الرغم من العلاقة المضطربة التي تجمع بين الصقليين والدولة الإيطالية، فقد استطاعت الدولة تحقيق إنجازات عندما قرّرت شنّ عملية واسعة النطاق ضد المافيا. وقد ثبُتت هذه القدرة سابقًا في عهد بينيتو موسوليني حين عيّن تشيزاري موري محافظًا لباليرمو، فعمد إلى تطبيق تدابير شرسة أدّت إلى إضعاف شبكات المافيا على نحو كبير. يبدو تحقيق مثل هذه النتيجة مستحيلًا في لبنان، حيث باتت الدولة بمثابة غطاء كبير يحمي المتنفّذين. لفترة وجيزة في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019، اهتزّت أركان نسختنا اللبنانية من الـ”كوزا نوسترا”، قبل أن يستعيد السياسيون توازنهم وقبل أن تغادر لبنان أعداد كبيرة من ثوّار الطبقة الوسطى المنادين بالتغيير.

لم يسمع معظم الصقليين بلبنان، ومعظم اللبنانيين لا يعرفون الكثير عن صقلية. لكن، وبشكل غريب، ثمة يدٌ خفية تمتدّ عبر البحر الأبيض المتوسط لتجمع بين هَذين المكانَين المُلفتَين. وإذا كنتَ يقظًا قليلًا فستشعر بهذه اليد تنسلّ إلى جيوبك لتُفرغ ما فيها.

السابق
بالفيديو: وليم نون لـ«جنوبية»: إستدعاء أهالي الضحايا «مسخرة» ومرفوض!
التالي
من بريطانيا الراعي يتحدث عن «طمع بالأرض اللبنانية»