وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: زيارة حزب الله للبطريركية.. استراتيجية جديدة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

زيارة وفد من حزب الله بقيادة رئيس مكتبه السياسي للبطريرك الماروني بطرس الراعي، تكشف في توقيتها الحرج وخطابها الدبلوماسي المتزن وشكلها الودي،  عن أكثر من مؤشر ودلالة: 

أولهما: أن حزب الله بات يتعامل مع ملف رئاسة الجمهورية بشكل مباشر. ولم يعد بحاجة إلى وسيط مسيحي ينوب عنه، أو يوكل إليه هذا الملف مثلما كان الأمر مع ميشال عون. هذا يعني أن حزب الله سحب هذا الملف من يد حبران باسيل،  لا لجهة أن باسيل لم يعد مرشحاً لدى حزب الله فحسب، بل لجهة سحب التوكيل منه في إدارة هذا الملف أو التفاوض عليه، كما كان الأمر مع عمه. وهو أمر أظهر لأول مرة ضآلة حجم باسيل، وهامشية دوره في الأمور المفصلية مثل انتخاب الرئيس. وسيظهر بوضوح أيضاً في تسمية رئيس الحكومة الجديد، وفي التشكيلات الحكومية المقبلة. 

زيارة وفد من حزب الله بقيادة رئيس مكتبه السياسي للبطريرك الراعي تكشف في توقيتها الحرج وخطابها الدبلوماسي المتزن وشكلها الودي عن أكثر من مؤشر ودلالة

هذا الوضع أحرج باسيل وتسبب له بجرح نرجسي، حاول تعويضه بصخب التصريحات والتهديدات والزيارات المكوكية، عل ذلك يثير مخاوف حزب الله وقلقه من ردات فعل غير محسوبة منه، تؤدي إلى انقلاب باسيل على تفاهم مار مخايل.  لكن كل ذلك كان دون جدوى، إذ بدا واضحاً أن حجم ومكانة باسيل في عهد رئاسة ميشال عون بالنسبة لحزب الله هو غيره بعده. وقد أظهرت براغماتية الحزب أن باسيل بات ورقة خاسرة لديه، وعوائدها أكثر من كلفتها بكثير، ما تطلب تعديلاً ضمنياً في عناوين تفاهم مار مخايل، وربما تطلب تخلياً عنه بالكامل. ما يدل على أن الحزب هو الذي انقلب على التفاهم وليس باسيل، وأن صفحة جديدة في التعامل والتنسيق مع الحلفاء قد بدأت.

هذا الوضع أحرج باسيل وتسبب له بجرح نرجسي حاول تعويضه بصخب التصريحات والتهديدات والزيارات المكوكية

ثانيهما: أن زيارة حزب الله للبطريركية المارونية، بهذا الصخب الإعلامي والتودد العلني، يوحي باعتراف حزب الله بمكانة البطريركية، وأثرها في تقرير إسم رئيس الجمهورية. هو أسلوب جديد في فتح اتصال مباشر من دون وسائط أو وكلاء مسيحيين مع اللاعبين المؤثرين والفاعلين في الداخل المسيحي، لغرض إيصال رسائل وتلقيها في آن.

هذا يعني أن الحزب سيتوسع في مد خطوط التواصل المباشر مع القوى والجهات النافذة في لبنان، بعد أن قرر أن يباشر بنفسه إدارة ومتابعة ملف رئاسة الجمهورية. وهو أداء بدا مغايراً لسلوكه حين كان ميشال عون رئيساً للجمهورية، حيث كانت أكثر الملفات ذات الخصوصية المسيحية موكلة بل مفوضة إلى التيار العوني.

ثالثهما:  حين يكون غرض الزيارة للتباحث مع البطريركية في شؤون رئاسة الجمهورية، فإن هذا يدل على أن حزب الله، لم يعد قادراً على فرض مرشحه الخاص، والذهاب به إلى النهاية مهما كانت العواقب مثلما فعل في فرض ميشال عون رئيساً، رغم عدم قانونية ودستورية حملته، ورغم الكوارث التي حلت بلبنان جراء عهد هذه الرئاسة.

هذا يعني أن الحزب سيتوسع في مد خطوط التواصل المباشر مع القوى والجهات النافذة في لبنان بعد أن قرر أن يباشر بنفسه إدارة ومتابعة ملف رئاسة الجمهورية

بالتالي لم تعد لعبة عض الأصابع هذه المرة تنفع، ولم تعد طريقة “من بعدي الطوفان” تفيد، بحكم أن ما يحل في لبنان من كوارث اقتصادية وانهيارات في مؤسسات الدولة بات له ارتدادات مؤلمة وموجعة على قاعدة حزب الله وجمهوره، التي ترتد بدورها سلباً على صلابة ومتانة الأرضية التي يقف عليها الحزب. بخاصة بعدما تبين عجز حزب الله، عن الحد من آثار الأزمة الاقتصادية والتقليل من أضرارها على البيئة الشيعية المؤيدة له، وعدم قدرته على الوفاء بوعوده التي قطعها لها للتحفيف من كوارثها عليهم.  

بالتالي بات حزب الله، رغم تصلبه الظاهري، في موقع المفاوض لا موقع الذي يفرض رأيه. أي يبحث عن تسوية وأنصاف حلول، رغم أنهما لم يتبلورا بعد.  ورغم أن سقوف الحزب ما تزال عالية وغير واقعية، لكن هنالك نغمة مختلفة يمكن تلمسها في خطاب حزب الله، توحي بأن حزب الله يريد إنجاز ملف الرئاسة، لا بأقصى الأرباح والمكاسب، بل بأدنى الخسائر وبأقل التراجع.

هذا يفسر عبارة حسن نصر الله بأن حزب الله لا يريد رئيسا يطعن المقاومة في ظهرها. فالعبارة في صيغتها المنطقية تقال على الشكل الآتي: لم يعد يعنينا من يأتي، ولا نريد رئيساً محسوباً علينا، ولسنا مصرين على أي مرشح لنا، لكن لا نريد عهداً رئاسياً مربكاً لنا ويكون مصدر قلق وتصعيد ومواجهة.

رغم كل ذلك، فإن حزب الله، ورغم إظهار نفسه في موقع المفاوض والراغب بالتسويات، فإن يضع معادلة في غاية الصعوبة بل هي مستحيلة. فالدعوة إلى التوافق على رئيس للجمهورية بين جميع القوى الفاعلة، قد توحي في ظاهرها بالتراجع، إنما تدعو في عمقها إلى المقايضة بين أمرين:

هذا يفسر عبارة حسن نصر الله بأن حزب الله لا يريد رئيسا يطعن المقاومة في ظهرها

الأمر الأول رئاسة الجمهورية: بأن لا تعود من ملحقات نفوذ الحزب وجبهاته الدبلوماسية الأمامية، بل موقعاً عاماً محايداً بين القوى الفاعلة والمتنفذة، والإتيان برئيس يتوافق عليه الجميع.  هذا يفسر إصرار الحزب على رئيس توافقي لا رئيس منتخب. لتصبح السياسة في لبنان لا وفق قواعد التمثيل والانتخاب الحر والنصوص الدستورية الملزمة، بل وفق ما تمليه موازين القوى الراهنة. ما يعني أن التوافق في ظل الترتيب الحالي في لبنان سيكون وسيبقى لصالح حزب الله مهما كانت نتائجه ومخرجاته. 

هذه المقايضة التي يطرحها حزب الله، بطريقة تذاكي غريبة تبدو في ظاهرها تنازلا عن شيء مقابل شيء آخر يساويه لكنها في حقيقتها رابحة لحزب الله من جهتي المقايضة

  الأمر الثاني هو وضعية حزب الله الداخلية، سواء أكان في سلاحه وشبكاته الأمنية ونشاطاته العابرة للحدود وتدخلاته العسكرية في أكثر من بلد، فضلا عن تكوينه الاقتصادي المنفصل عن اقتصاد البلد. أي إبقاء وضع لبنان كما هو من دون أي تغيير، وإبقاء الملفات المتعلقة بحزب الله مقفلة وخارج التداول.  هذا يعني هذه المرة، لا الاكتفاء بقبول ثنائية سلاح الحزب والجيش فقط، بل القبول بوضعية دولة حزب الله بكل مؤسساتها داخل الدولة اللبنانية.  فحزب الله لا يحرص على حماية سلاحه فحسب، بل على الاحتفاظ بهيكلية تجاوزت هيكلية الحزب السياسي، وعلى نشاط والتزامات تشبه أنشطة والتزامات دولة مستقلة.  هي وضعية تعني بقاء الدولة داخل الدولة، والاستمرار بوضعية الدولة العاجزة عن ممارسة سيادتها وتطبيق قانونها وشرائعها. أي الإستمرار بحال اللادولة.

هذه المقايضة التي يطرحها حزب الله، بطريقة تذاكي غريبة، تبدو في ظاهرها تنازلا عن شيء مقابل شيء آخر يساويه، لكنها في حقيقتها رابحة لحزب الله من جهتي المقايضة، وخاسرة لكل من يؤمن بمشروع الدولة السياسة ومرجعية القانون من الجهتين أيضاً.  هي مقايضة أشبه بالبائع الذي يبيع الشاري بضاعة من ملك الشاري.  هي مقايضة ظاهرها بريء، لكنها في عمقها رفع مستوى الاعتراف بحزب الله من حزب سياسي إلى دولة ذات سيادة.          

السابق
المخرجة ربى عطية «تُعمّر» «بيت اتنين تلاتة» في «مونو»
التالي
بعدسة جنوبية.. اعتصام لروابط التعليم الأساسي أمام وزارة التربية: «الكلمة للاساتذة»!