«الميليشياوية».. داء الدول العربية

شكلت الميليشياوية التحدى الأخطر والأكبر الذى يواجه الدولة الوطنية العربية خاصة فى العقد الأخير عقب ما عرف بالربيع العربى, حيث أصبحت الميليشيات عقبة أساسية أمام تحقيق الاستقرار السياسى والأمنى فى بعض الدول العربية نظرا لأن الميليشيات المسلحة تمثل كيانات موازية وتحديا لمؤسسات الدولة الوطنية التى من المفترض أن تحتكر فقط السلاح واستخدام العنف وذلك وفقا للقانون، كما أن الميليشيات المسلحة ترتكز على أسس طائفية ومذهبية تمثل تهديدا للاستقرار السياسى والتماسك المجتمعى وتؤجج العنف الدينى، إضافة إلى أن هذه الميليشيات المسلحة لا تعبر عن أجندات وطنية، وإنما تعبر وتنفذ أجندات خارجية لمصلحة بعض الدول الأجنبية، سواء الإقليمية أو الدولية, على حساب مصالح وأهداف شعوبها، ولذلك فإن مصادر تمويل هذه الميليشيات بالأموال والأسلحة تأتى من هذه الدول التى تستغل وتوظف تلك الميليشيات لتحقيق مصالحها ونفوذها الإقليمى وهو ما زاد من منسوب التوتر وعدم الاستقرار فى الشرق الأوسط.

برزت الميليشياوية فى العديد من الدول العربية، خاصة فى العراق ولبنان وليبيا واليمن وسوريا، وأصبحت سرطانا فى جسد تلك الشعوب وحائلا دون تقدمها السياسى والاقتصادى وتهز استقرارها الأمنى والاجتماعى، وأدخلت هذه الدول فى حلقة مفرغة من عدم الاستقرار السياسى والامنى والتدهور الاقتصادى.

اقرأ أيضاً: في المسألة القوميّة مجددًا.. رؤى نقديّة

فى الحالة العراقية تواجه العملية السياسية عقبات كئود نتيجة لتحدى الميليشيات والفكر الميليشياوى للدولة، فبعد إجراء الانتخابات المبكرة فى العاشر من أكتوبر الماضى، والتى جاءت نتيجة لمطالب المحتجين فى الشارع العراقى بمواجهة الفساد وإنهاء سيطرة الطبقة السياسية على المشهد السياسى منذ عقدين وإلغاء المحاصصة الطائفية وتحسين الأحوال المعيشية، قامت الميليشيات بوضع عراقيل وعقبات، خاصة الإطار التنسيقى، أمام الإقرار بنتائج تلك الانتخابات بعد أن خسرتها نتيجة للتصويت العقابى ضدها من الشعب العراقى، ولجأت إلى استخدام العنف والاحتجاج تارة بل واستهداف رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى ومحاولة اغتياله، وإلى المحكمة العليا تارة أخرى، ولكنها لم تفلح. كما أن ولادة الرئاسات الثلاث، رئيس البرلمان ورئيس الدولة ورئيس الحكومة، تواجه ولادة متعثرة، نتيجة للتعارض بين رؤية التيار الصدرى الحائز على اكبر عدد من الأصوات، والذى يريد تشكيل حكومة أغلبية وطنية قوية فى مقابل وجود معارضة سياسية لها داخل البرلمان، لإخراج العراق من أزماته، وبين رؤية الإطار التنسيقى الشيعى الذى يعبر عن فكر الميليشيات، ويريد حكومة توافقية، أى استنساخ للحكومات السابقة، وبالتالى لم يستوعب دروس الاحتجاجات التى اندلعت فى أكتوبر 2020 وراح ضحيتها أكثر من 600 قتيل رفضا لهذه الحكومات التوافقية، كما لم يستوعب درس الانتخابات وخسارته، إضافة إلى أنه وفقا لقواعد الديمقراطية الحقيقية فإن الطرف المنتصر هو الذى يفرض شروطه ويشكل الحكومة، وليس الطرف الخاسر الذى يريد توجيه تفاعلات المعادلة العراقية وفقا لأهوائه وذلك من أجل الحفاظ على مصالحه ومكتسباته. وبالتالى إلغاء المحاصصة الطائفية وتكريس مفهوم المواطن ونزع أسلحة الميليشيات والقضاء على الفساد وإنهاء التدخلات الخارجية والإقليمية هى السبيل الوحيد لخروج العراق من الدوامة.

فى ليبيا تأجلت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التى كانت مقررة فى 24 ديسمبر الماضى، بسبب غياب الدولة الوطنية المركزية وتصاعد قوة الميليشيات فى المشهد واستخدامها العنف والسلاح لتوجيه العملية السياسية بما يضمن استمرارها وبقاءها ومصالحها، حيث تعمل هذه الميليشيات لمصلحة أجندات خارجية كما أنها تشكل أكبر عقبة أمام استعادة الدولة الوطنية ووحدة واستقرار ليبيا، والمضى قدما فى تنفيذ خريطة الطريق وإجراء الانتخابات وكتابة دستور جديد وتوحيد المؤسسات الأمنية والسياسية، وبالتالى لا حل سوى إنهاء ظاهرة الميليشياوية فى ليبيا وهو بطبعه تحد كبير.

فى لبنان تغولت الميليشياوية على حساب الدولة الوطنية، حيث أصبح حزب الله الفاعل الرئيسى فى تفاعلات المشهد اللبنانى وشكل دولة فوق الدولة اللبنانية وتسببت سياساته فى العمل لمصلحة أجندات طائفية خارجية على حساب المصلحة اللبنانية، فى تأزيم الوضع السياسى، حيث الحكومة عاجزة عن الاجتماع، وانهيار الوضع الاقتصادى، مع تهاوى سعر الليرة وغياب السلع الأساسية، وتأزيم علاقات لبنان الخارجية خاصة بأشقائه الخليجيين، وعلى رأسهم السعودية، بسبب اختطاف الحزب القرار اللبنانى وهجومه غير المبرر على السعودية، وهو ما يفاقم من معاناة الشعب اللبنانى. وبالتالى لا حل فى لبنان سوى بإنهاء الظاهرة الميليشياوية التى يجسدها حزب الله رغم صعوبة هذا التحدى.

فى اليمن، الذى لم يعد سعيدا، سيطر الفكر الميليشياوى للحوثيين بعد اختطافهم الدولة اليمنية ومحاولة فرض الأمر الواقع وتغيير هوية المجتمع على أسس طائفية لمصلحة قوى إقليمية، وهو ما أطال من أمد الحرب وتفاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية وفشل التسويات السياسية فى ظل موقف دولى وأممى متراخ ومتخاذل تجاه الميليشيا الحوثية.

القاسم المشترك فى أزمات الدول الأربع هى الميليشياوية التى أصبحت التحدى الأساسى والداء الأكبر أمام الدولة الوطنية العربية، بل وتهدد وحدة وسلامة هذه الدول وهو ما يتطلب حلولا جذرية لإنهاء ظاهرة الميليشيات، من خلال نزع أسلحتها وتسريحها أو دمجها فى المؤسسات الأمنية الوطنية، وبسط سيادة الدولة الوطنية، كذلك تكريس مفهوم المواطنة فى مواجهة الطائفية، وهذا هو الطريق الوحيد لإخراج هذه الدول من أزماتها.

السابق
«هيمارس» تفتك بالجنود الروس..63 قتيلاً!
التالي
الامطار تعود غداً..انخفاض في الحرارة ورياح ناشطة!