عندما «يستقوي» الضعفاء!

شخصية ضعيفة
دوّن التاريخ البشريّ الكثير من الأمثلة، و العديد من النماذج حول ثقافات، لم تشكّل سوى "محطات" حملت مآسٍ جمّة، و نقلتها إلى قلب المجتمعات بغية تطويعها، و سوقها إلى مجهول زاخر بالأوهام، أو بالأحرى إلى عالم هذيان.

وما وجود ثقافة الاستقواء، إلا خير دليل و مثالاً جلياً على عمليات استلاب، أمعنت في تدجين الكثير من الشعوب، من خلال “فبركة” أساطير، نالت من العقول و أفرغتها من وظيفتها.

و إذا ما قاربنا هذه السيرورة، من الناحية التحليلية، لوجدناها تحاكي عملية “نكوص” رمزية، لأنها تُلقي بالشعوب في ماضٍ بعيد، هو أقرب إلى البدائية.  

تتخّذ ثقافة الاستقواء من عملية الاستلاب “ملاذها”، و يتعمّد من يتبنّاها النَيل من وعي الشعوب بقصد “تغييبه”. و كأنه يقوم بترويج مادة نفسية مخدّرة، تخلق لدى من يتعاطاها شعوراً بالنشوة أو الاكستاز، فيدمن عليها.

 كما تحوي هذه الثقافة،  كل الأواليات التي تتحكّم في العلاقة بين المعتدي والضحية، ونذكر على سبيل المثال،  الاحتقار والنبذ و التهميش، و كلّ ما يمكن أن يضع هذه العلاقة في خانة  “السامة”، فتعكس تفاوتاً في “ميزان القوى” ، إن جاز التعبير، وتُرسي بالتالي سلوكاً جرمياً ينال ليس فقط من حياة الآخر، و إنما من تماسك المجتمع، و استقرار الوطن. 

ما وجود ثقافة الاستقواء إلا خير دليل و مثالاً جلياً على عمليات استلاب أمعنت في تدجين الكثير من الشعوب من خلال “فبركة” أساطير نالت من العقول و أفرغتها من وظيفتها

ويأتي تقدير الذات “الأعمى”، ليترجم وجوداً لمشاعر تحقير الذات، فتطلق شعوراً هذيانياً بالقوة عند من يفتقدها.

ومن هذا المنطلق،  تظهر عملية الاستقواء على الآخر،  كأنها “قشّة” بالنسبة إلى  غريق في مستنقع من الهذيانات.

إقرأ أيضاً: الحوثيون وايران وطالبان..3 انظمة قمعية للمرأة وتركيع المجتمع!

وتبدو المجتمعات التي ارتضت أن تصنع من نفسها “كبش محرقة” فداءً للزعيم، أرضاَ خصبة و ملائمة لمَن يعطي الحق لنفسه في تقرير مصير أفرادها، فيغرس فيها ما استطاع من أوهام، على مستوى الانتصارات والانجازات،  مستثمراً بذلك عقدة النقص و رهاب الدونية، اللذين كرّستهما تنشئة رجعية على مدى سنوات كثيرة. 

تبدو المجتمعات التي ارتضت أن تصنع من نفسها “كبش محرقة” فداءً للزعيم أرضاَ خصبة و ملائمة لمَن يعطي الحق لنفسه في تقرير مصير أفرادها

و أما بالنسبة إلى مفهوم السيطرة، الذي يعدّ نواةً لعقدة الاستقواء، فإنه يشكّل عاملاً دينامياً، له خصوصيته و فعاليته في التعويض عن “ترهّل” قوة الذات. و من ثم يؤدّي النَيل من كرامة الآخر  و تحقيره، دوراً رئيسياً في التعويض عن هذا الترهّل، بهدف “كسب” بعض القوة و الصلابة تجاه الذات و الآخر. 

كما تجدر الإشارة، إلى أن من يستقوي على الآخر، هو نفسه كان “مستضعفاً” في مرحلة سابقة من حياته. بمعنى أنه اختبر شعوراً بالضعف تسبّب به آخر.

وممّا لا شكّ فيه، تأتي الفاشية لتتبنّى ثقافة الاستقواء، في عملية تطويع المجتمع، فتتعمّد  عزل الفرد عن كيانه الخاص به كفرد، وتلصقه بجماعته، عبر إيهامه  بأن ابتعاده عنها يجعل منه ضعيفاً و “لا حول له ولا قوة”.  بمعنى آخر، توهمه بأن قوته تكمن في جماعته، و يقوى بها.

لذلك،  تتقصّد الفاشية  غرس عقدة الاضطهاد لدى مواليها، لتغذّي لديهم هذيان “العظمة”. وعلى هذا النحو، يمكن القول أن الفاشية تبرع في توظيف كلّ ما هو “نفسيّ”، في تعزيز سيطرتها و تأكيدها. 

 لذلك يعدّ الاستقواء، أولوية دفاعية ضد الشعور المؤلم  بالاضطهاد، والضعف، وسوء تقدير الذات، و قلة الثقة في النفس. و يتبدّى تلقين الأساطير للناس، مساراً تنهجه الفاشية في عملية الأدلجة، باعتبارها تزخر بالأوهام، فنراها تختلق الأكاذيب، بمعنى أنها تأتي بما هو غير موجود أو “تزوّره”،  و تزرعه في رؤوسهم لتنجز الإطباق عليهم. ومن المعروف، أن الاستقواء بالأساطير، يمنح الإيديولوجيا صفة قدسية و وهمية في الوقت عينه.

كذلك يجب عدم اغفال فكرة أساسية، مؤداها أن تكوين الأساطير عبر التاريخ، كان يحصل باسم “الدين”.  بمعنى آخر، شكّل إلقاء النظرة الدينية على العالم  “مدماكاً” لبنائها. و ما جرى منذ أزمنة طويلة، وما يجري حتى يومنا هذا، من تطويع للشعوب، يتمّ من خلال توظيف ما يمكن استثماره للديني، في سبيل عملية استلابها.  وهذا ما قصده كارل ماركس في قوله “الدين أفيون الشعوب”.
وما “توأمة” الإيديولوجيا و التيولوجيا، سوى “مقصلة” وضعت على “عنق” المجتمعات للإجتثات من عقلانيتها. 

تكوين الأساطير عبر التاريخ كان يحصل باسم “الدين”  بمعنى آخر، شكّل إلقاء النظرة الدينية على العالم  “مدماكاً” لبنائها

وبالعودة إلى ثقافة الاستقواء، فما يجري  من تبرير ذاتي، سواء كان على المستوى الفردي أو حتى الجماعي؛ أو الاثنين معاً، يعطي الحق لصاحبه في التمادي بإيذاء الآخرين مدجّجاً، ليس فقط بالأفكار الهذيانية، و إنما بكلّ ما يستطيع حمله، من وسائل يوظفها في خدمة أذية مجتمعه. و ما التبرير الذاتي للاستقواء، إلا انعكاساً لقناعات مَرَضية، بأن الزعيم هو الذي حدّد له هذا الدور،  لذلك يعدّ كل ما يقوم به “واجباً”. خلاصة  القول،  تنشر ثقافة الاستقواء حالة “فصام” جماعية، لأنها تسلخ ضحاياها عن عالمها  العقلانيّ، لتلقي بهم في بيئة “القطيع”، حيث لا مكان للعقل و لا للمنطق. 

أخيراً، لم تأتِ ثقافة الاستقواء، إلا لتنصّب من يدّعي، بأنه المنقذ على رؤوس موالٍ بعد أن أفرغتها. 

السابق
الحوثيون وايران وطالبان..3 انظمة قمعية للمرأة وتركيع المجتمع!
التالي
«شيعة لبنان..جدل فائض القوة ومشروع الدولة»..ندوة جديدة لمنتدى «جنوبية»