حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: المنظومة من «Loya girga» الى «Causa nostra»

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.


 تستمر ازمة لبنان متدحرجة، متفاقمة، متشعبة، لتصبح شاملة تطال انهيارا مستمرا ومتصاعدا، لسعر صرف الليرة مقابل العملات الاجنبية، ولتستديم كسادا في قطاعات الانتاج المختلفة، وانسدادا لآفاق تطورها، وتبديدا لما تبقى من ودائع المودعين في المصارف اللبنانية، بحيث فقدت المصارف وظيفتها الأصلية المفترضة، بأن تَكونَ  مؤسساتٍ ماليةٍ تلعب دور القاطرة، في توسيع الاقتصاد وتكبير حجمه، وتشجيع الاستثمار وخلق فرص عمل جديدة، والمساهمة في النمو، وخلق ديناميات لتمويل تنمية مستدامة، لتتحول الى دكاكين ربوية، تطالها شبهات الفساد والاحتيال وإساءة الامانة، والتنكر لمصالح زبائنها والمستثمرين في صناديقها.

وتعجز المنظومة الحاكمة في السلطة، عن أن تقدم مقترحات جدية، او أن تزعم امتلاك رؤية لاعتماد خطة إنقاذ، او أن ترسم خارطة طريق للخروج من الأزمة، وأن تستنبط حلولاً لاستعادة النهوض الاقتصادي والعافية الانتاجية.

لا ينحصر إفلاسُ منظومة السلطة بإعلان عجزها وإرباكها عن ممارسة دورها بل يتخطى مستوى وقاحتها، حد الاستنكاف عن إدارة المرافق العامة وتأمين الخدمات الأساسية التي تقوم بها أية سلطة تستحق إسمها

 لا ينحصر إفلاسُ منظومة السلطة بإعلان عجزها وإرباكها عن ممارسة دورها، بل يتخطى مستوى وقاحتها، حد الاستنكاف عن إدارة المرافق العامة، وتأمين الخدمات الأساسية التي تقوم بها أية سلطة تستحق إسمها.

كما يتبدى من ناحية أخرى، إخفاقُ المنظومة بشكل شامل وكلي، بأن تُسَيِّر مؤسسات الدولة، وأن تملأ فراغ شغور سلطاتها الاجرائية، وشللَ وتعطيلَ أعمال سلطاتِها النيابية، فيما تفشل في تصريف أعمال هيكلياتها الإدارية، وفي تفعيل دور أجهزتها الرقابية، وسلطاتها القضائية، أو أن تستوفي رسومَها المالية، وأن تفرضَ رسومها الجمركية، على معابرها الدولية، او أن تُديرَ مرافقَها العامَّةِ، وشبكاتِ خدماتِها في التعليم والصحة والاستشفاء والاتصالات، و المواصلات والنقل وسلامة الطرقات والامن والدفاع والرعاية الاجتماعية. السلطة عاجزةٌ او منكفئةٌ طوعاً عن ممارسة سلطاتِها، لكنّها لا تبرح مقاعد الحكم وكراسي الرئاسات، بل تتنازع فيما بينها على هذه الكراسي والمواقع،

ولعلنا نشهد واقع أغربِ وضعيةِ سلطةٍ في التاريخِ الإنساني!!!لا ينحصر عريُّ المنظومة وإفلاسُها فيما تقدم أعلاه، من فشل وتفاهة وعجز وتنكر، لأبسط واجبات الحاكم تجاه المحكومين، بل يطالُ أيضاً سرديات القوى السياسية التي تشكلت منها منظومة السلطة، والتي قادت البلاد الى الانهيار والجحيم، فالى جانب الافلاس المالي والانهيار النقدي والخراب الاقتصادي، والسرقة غير المسبوقة لجنى أعمار شعب بكامله، في النظام المصرفي، انهارت ايضا بشكل فضائحي سرديات ومرويات وافكار وبرامج قوى المنظومة واحزابها السياسية، حتى بتنا أمام أحزاب سياسية، لا تقوى على الإستمرار في ممارسة نفاقها السياسي، وادعاءاتها الايديولوجية ومزاعمها الاصلاحية، وباتت خطاباتها ترداد لا يتم ترجيع صداه في آذان سامعيها، ولا تدخل معانيها الى ألباب فطين او متابع.

الممانعةُ كتحالف اقليمي يستند الى تحالف اقليات بقيادة طهران ويتبنى مقولة المقاومة الشاملة في وجه الامبريالية الاميركية والكيان الصهيوني  ليس افضل حالا من الحريرية السياسية

فالحريرية كمشروع سياسي واقتصادي تعاني ازمة في جوهرها على المستويات كافة؛ الاقتصادية والمالية، وتعاني أزمة أكبر بعلاقتها مع جمهورها وحتى في تخندقها كقيادة للشارع الاسلامي السني، ولعل الزعم فقط ان سبب انهيارها، هو سوء  علاقتها براعيها الاقليمي، وانها ستعود معافاة مبادرة، بمجرد تَغَيُر الرياح الاقليمية وتصحيح العلاقة مع القيادة السعودية وتنقيتها، هو زعم زائف قد يداري الوجدان، لكنه يغتال الحقيقة والواقع.

أمَّا الممانعةُ كتحالف اقليمي، يستند الى تحالف اقليات بقيادة طهران، ويتبنى مقولة المقاومة الشاملة في وجه الامبريالية الاميركية والكيان الصهيوني  ودول الخليج العربي، فليس افضل حالا من الحريرية السياسية لا خطابا، ولا مصداقية ولا عقائديا، فلم يكن أحدٌ يتصور ان منطق هذا الحلف سيتداعى كانهيار شامل للمفاهيم والثقافات ؛ من ولاية الفقيه والثورة على الحجاب  ونزع عمامات الملالي في طهران، الى ترسيم الحدود والشراكة التجارية مع كيان  إسرائيل، الذي هتفت الممانعة بموتها لأربعين سنة ماضية،  وزعمت قدرتها على “ازالتها كغدة سرطانية من الوجود”.

الحريرية كمشروع سياسي واقتصادي تعاني ازمة في جوهرها على المستويات كافة؛ الاقتصادية والمالية وتعاني أزمة أكبر بعلاقتها مع جمهورها

وما ترسيم الحدود مع عدو مجاور الا اعتراف مستهجن بحقه بالوجود، وما معنى القبول باستثمار حقل قانا بشكل مشترك معه، الا تحويل اسرائيل من عدو غاصب، الى شريك تجاري!!

إقرأ ايضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: انتهاك الدستور خطيئة.. لا يصح التربح منها

فعن اية مقاومة يتحدثون؟!لا يقتصر التهافت في الخطاب والأفكار على  مقولات حزب الله وتيار المستقبل، بل يطال بشكل فضائحي تيار عون وباسيل.

وهو تيار تأرجح بين امتشاق سيف محاربة الفساد و بين خوض معركة تحصيل حقوق مزعومة للمسيحيين،  وفي كلا الامرين يتعرى المنطق العوني مفضوحا، فبعد ست سنوات من امساك عون وباسيل بأغلبِ مفاتيح قرار السلطة في لبنان، يتبدى لكل صاحب بصر وعين، ان الفساد اصبح راسخا وعلنيا ووقحا، فيما واقع المسيحيين وحقوقهم ومستوى عيشهم ليس فيه ما يسر صديق، او يثير كيد حاقد حسود.

بعد ست سنوات من امساك عون وباسيل بأغلبِ مفاتيح قرار السلطة في لبنان يتبدى لكل صاحب بصر وعين ان الفساد اصبح راسخا وعلنيا ووقحا

من الواضح ان هذا الفشل يتمظهر معمما، ليطال ايضا باقي اطراف المنظومة واحزابها السياسية، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، لذلك فان المنظومة  بمجملها، قد استنفدت كل حيويتها وخدمت عسكريتها ووصلت الى أزمة لا فكاك منها.اما سبب هذه الأزمة المستفحلة فهو التحول العميق في طبيعة علاقة الحاكم بالمحكوم، وفي تغيير صلات الزعيم باتباعه، وهو تحول فتح الطريق اليه امران متلازمان، التسوية الرئاسية التي اوصلت عون الى رئاسة الجمهورية، وهيمنة حزب الله على لبنان وانصياع وطن الارز ليصبح جرما في فلك ايران.في طبيعة العلاقة  القديمة للمنظومة اللبنانية بقواعدها، كان سائدا نمط اجتماع سياسي، يشبه نمط “اللويا جركا” الافغاني “Loya girga” الذي يقوم الزعيم طبقا لآلياته، بادارة اتباعه واعضاء عصبيته بشكل ابوي، ويحرص على تأمين الحد الادنى من حاجاتهم الاساسية، في الغذاء والصحة والامن والتوالد والحماية، وقدر معقول من التعليم والحفاظ على كرامتهم الانسانية وصورتهم الاجتماعية، والنموذج هذا يحتوي اليات زبائنية لإعادة توزيع السلطة والثروة، بحيث تتضمن العصبية القبلية او الطائفية، مجالا لاستتباب شراكات غير متكافئة او متوازنة، لكنها فعلية وحقيقية، بين مختلف افخاذ القبيلة او رموزها، وهو ما يؤمن استتباب سلطة الزعيم وتوحد القبيلة خلف خياراته.

وغني عن القول ان موارد وارزاق رعايا القبيلة او الطائفة، تأتي من نشاطات مختلفة قد تكون زراعية او ريعية او من تجارات شرعية او غير شرعية، كما يمكن ان تكون من عمليات فساد يتعلق بهدر او استغلال مرافق الدولة، او من ثمار انتهاك الاملاك والاموال العامة واختلاسها. مع نضوب موارد الدولة وتفاقم العجز المتراكم في ميزان المدفوعات، وانسداد خطوط التمويل والاستدانة لتغطية نفقات السلطة، وعجزها عن ايفاء التزاماتها وديونها، انتقلت المنظومة من النمط الافغاني الى نمط  مافيوي على الطريقة الايطالية   (la mafia sicilienne ) مافيا سيسيليا،  ويدعى ال causa nostra .. 

والفارق واضح بين النمطين، فالمافيا لا صلة لها برعايا تجمعهم عصبية تشاركية تحفظ مصالحهم ونمط عيشهم وتهتم بخدماتهم وبتأمين مواردهم واعمالهم وارزاقهم، قاعدة المافيا ليست سوى افراد العصابة تحديدا وليس جمهورا يتألف من قاعدة شعبية واسعة، وعلاقة زعيم المافيا بافراد عصابته، هي علاقة الآمر بالمأمور، وارباح المافيا ومواردها تأتي من اعمال غير شرعية، وتجارات مشبوهة ومن عائدات الجريمة المنظمة، وقد شهد لبنان اتساعا لافتا، لانخراط اطراف المنظومة في أعمال التهريب، والاتجار بالمخدرات وعمليات تبييض الاموال، وتخريب قمم الجبال واستباحة اوديته وانهاره وشواطئه، والاستيلاء على الاملاك العامة والبلدية…الانقلاب المتدرج لطبيعة المنظومة التي تمسك السلطة من ال  “Loya girga” الى  “Causa nostra”،  يطال اعادة تشكيل المنظومة عبر فكها واعادة تركيبها،  وعبر تشريع دورها الجديد وظروف وشروط ادائها لوظيفتها، بحيث يتم اخراج بعض اطرافها وادخال اطراف اخرى، اكثر انسجاما وفعالية مع الطبيعة الجديدة.

انتقلت المنظومة من النمط الافغاني (لويا جيرغا) الى نمط  مافيوي على الطريقة الايطالية   (la mafia sicilienne ) مافيا سيسيليا  ويدعى ال causa nostra .. 

في ايطاليا قامت حركة “الايادي البيضاء” سنة ١٩٩٢، المؤلفة من صفوة من القضاة الشجعان والذي قادهم القاضي انطونيو دي بيترو، الذي خاض حملة افضت الى اعتقال اكثر من 1300 شخص من السياسيين والحزبيين والنواب ورجال الاعمال، واخضاع اكثر من 1400 شخص من الصناعيين واصحاب الاموال وكبار موظفي الدولة، بالاضافة الى اكثر من 150 نائبا ورؤساء سابقين للحكومات، الى التحقيق. وبالاجمال، اعتقل ثلاثة الاف شخص، ونصف نواب ايطاليا المنتخبين جرت ادانتهم، مما ادى الى تفكيك المافيا الايطالية، وقد دفع عدد من القضاة حيواتهم ثمنا لتحقيق العدالة،  والسؤال الاول هو، هل يوجد في لبنان قاضيا يضحي بحياته من اجل لبنان؟!

  أما السؤال الثاني فهو؛  لماذا لم تسقط هذا المنظومة؟  ولماذا لم تنجح ثورة ١٧ تشرين في تفكيك المنظومة وترحيلها حتى الآن؟ وللإجابة على هذا السؤال المفصلي، لا بد من دراسة شروط التغيير،  وآليات الاستيلاء على السلطة واقامة بديل ثوري لها، وهو ما سنعالجه في المقالة القادمة.

السابق
«تهريب» مطلق النار في العاقبية «تحت أنظار» الحكومة..و«مجلس قبلي» في السراي!
التالي
ماذا لو وقعت جريمة بلدة العاقبية ضد القوات الدولية في بيئة مختلفة..؟