«الديكتاتور» الصغير في «المونديال» الكبير!

المغرب فوز المونديال

في داخل كل منا “ديكتاتور” صغير.. هذا للأسف ما نلاحظه ونلمسه عند كل حدث سواء كان هذا الحدث سياسياً أو إجتماعياً أو فنياً أو حتى رياضياً. من نافل القول أن تعدد الأراء شيء جداً طبيعي وجيد وجميل، وطبيعي كذلك أن يدافع كل شخص عن رأيه وإختياراته، إذا كان من ضمن الأصول المتَّبعة إنسانياً وأخلاقياً، ومن أهمها إحترام الرأي الآخر حتى في حال الإختلاف، وعدم تسخيف أي رأي بغض النظر عن شخصية صاحب الرأي أو ثقافته أو مكانته الإجتماعية.

في مثل هذه المناسبات يكثُر المنظِّرون الذين يكتبون ويدلون بدلوهم ليس فقط بالمباريات والأمور الفنية والتكتيكية وهنا نتحدث بالنسبة للعبة كرة القدم بل بكل ما يمر ويسترعي الإنتباه من ممارسات وتصرفات


نقول هذا بمناسبة “المونديال”، وما طرحه من كثرة تعليقات، نظراً لطبيعة هذا الحدث العالمي الفريد من نوعه، إذ قلَّ ما يجتمع الناس على مختلف إنتماءاتهم وهواياتهم، على مناسبة سواء سياسية أو ثقافية أو إجتماعية كما يجتمعون في “المونديال” الكروي، الذي يختلط فيه الرياضي بالوطني بالسياسي وحتى بالإجتماعي، من خلال التعليقات والأراء والممارسات، التي يقوم بها الكثير من الناس بطريقة مقصودة أو عفوية، سواء من هم على تخصص في الشأن الرياضي، أو من أناس عاديين تستهويهم هذه الكرة الساحرة بالفعل، التي تجعل منها اللعبة الأكثر شعبية في العالم.
في مثل هذه المناسبات يكثُر المنظِّرون، الذين يكتبون ويدلون بدلوهم، ليس فقط بالمباريات والأمور الفنية والتكتيكية، وهنا نتحدث بالنسبة للعبة كرة القدم، بل بكل ما يمر ويسترعي الإنتباه من ممارسات وتصرفات، سواء صدرت عن لاعبين أو مدربين أو إعلاميين، أو حتى عن أناس عاديين، خاصة في ظل إنتشار وسائل التواصل الإجتماعي، التي هي ككل وسيلة من وسائل الحياة، يمكن إستخدامها بشكل جيد ومفيد كما العكس.

في موضوع المغرب راح البعض من هؤلاء يغوصون في التاريخ ويتحدثون عن أمازيغية وإفريقية المغرب وكأن هذا ينفي ذاك أو كأن وظيفة التاريخ أن يلغي الحاضر بدل تدعيمه وتقويته

في “المونديال” الحالي، الذي بدأ أصلاً بإشكالات مع بعض الدول الأوروبية، بإسم حقوق الإنسان وغيرها من الشعارات المعلبة، بعض هؤلاء الناس مثلاً إستثارهم الشعور القومي العربي، سواءً ما ظهر منه دعماً أو حماساً للفريق المغربي وإنتصاره، أو ما برز من تعاطف وتضامن مع فلسطين وقضيتها العادلة، عبر رفع العلم الفلسطيني أو الهتاف والترويج لفلسطين، سواء في الملاعب أم أمام بعض كاميرات وسائل الإعلام العالمية. في موضوع المغرب راح البعض من هؤلاء يغوصون في التاريخ، ويتحدثون عن أمازيغية وإفريقية المغرب، وكأن هذا ينفي ذاك أو كأن وظيفة التاريخ أن يلغي الحاضر بدل تدعيمه وتقويته، أو أن وظيفة الحاضر، هي أن ينسف التاريخ بدل الإفادة من دروسه وتراثه، أو كأن التضامن والتعايش الإنساني بات بحاجة لتبرير، مع أننا كلنا في النهاية بشر.
كذلك في موضوع فلسطين راح هذا البعض، يزايد على الناس بأن دعم فلسطين يتطلب أكثر، ولا يتأتى من هتاف أو ترويج عبر الإعلام، وكأن هناك من لا يعلم أو يرفض ذلك الأمر، ناسين أو متناسين بأن هذه المناسبة، إنما شكلت لهؤلاء الناس متنفساً يعبرِّون من خلاله، عن مشاعرهم المكبوتة بفعل الأنظمة “الديكتاتورية” الظالمة.

البعض الآخر إستفزه كذلك رسم إشارة الصليب من قِبَل بعض اللاعبين لدى تسجيلهم هدف مثلاً كما سجود الفريق المغربي شكراً لله لدى فوزهم في المباريات


البعض الآخر، إستفزه كذلك رسم إشارة الصليب من قِبَل بعض اللاعبين لدى تسجيلهم هدف مثلاً، كما سجود الفريق المغربي شكراً لله لدى فوزهم في المباريات، وذلك بحجة العلمانية لدى البعض، ونتيجة لما هو ناجم، عن تعصب ديني لدى البعض الآخر من طرفي المعادلة، وغيرها الكثير من الممارسات والتصرفات، التي من الطبيعي أن تصدر عن أناس تعد بمئات الآلاف، في مثل هذه التظاهرات الإنسانية، يتجمعون في مدينة واحدة، متعددي الثقافات والديانات والعادات الإجتماعية، وهو شي إيجابي بالمناسبة، ويعطي صورة جميلة عن التعارف والتآلف الإنساني، الذي يجب أن يكون عليه العالم، وما يسوده من سلام ووئام.
لسنا هنا بوارد مصادرة آراء الناس، أو الحجر والتنديد بأي منها، فلكل إنسان الحق في أن يكون له، توجهاته الفكرية والدينية والسياسية، والتعبير عنها بحرية وسلاسة، ما دامت لا تؤذي أحداً، بل على العكس ما نحن بصدده هنا، هو نقد محاولة البعض من “المثقفين” أو “المسيَّسين” أو أشباههم، محاولتهم فرض نمط معين من التفكير على الناس، ومصادرة حريتهم حتى في إحساسهم بالفرح أو الفخر والتباهي بعِرقهم أو دينهم، نحن هنا بصدد إنتقاد “الأسلوب” الذي يتبعه البعض في طرح آرائهم، من تعالٍ وفوقية في الطرح، وتسخيف لأفكار وممارسات الناس خاصة البسطاء منهم، الذين يتصرفون بعفوية وعلى سجيتهم من دون “فلسفة” أو تصنُّع، نحن نرفض محاولات البعض أن ينفث “عُقَدِه وفشله وكرهه” لواقعه على الآخرين، ومحاولة رمي طاقته السلبية على غيره، قد نتفق أو نختلف مع بعضنا في الكثير من التصرفات، وقد يكون لنا شخصياً عشرات الملاحظات، على بعض الممارسات والأقوال والأفكار التي طُرحت أو حصلت، ولكن هذا لا يعطيني الحق في تسخيفها، وإعتبار القائمين أو القائلين بها أناس أدنى مني علماً وثقافة وفهما، من حق كل منا أن ينتقد وبقوة، كل ما يراه غير سوي في حياتنا من وجهة نظره، ولكن بأسلوب راقٍ وأخلاقي.

لسنا هنا بوارد مصادرة آراء الناس أو الحجر والتنديد بأي منها فلكل إنسان الحق في أن يكون له، توجهاته الفكرية والدينية والسياسية والتعبير عنها بحرية وسلاسة


دعوا الناس تفرح، دعوها تطلق العنان لمشاعرها وأفكارها وآرائها في الحياة، تعالوا نتخلى عن أسلوب “الأستذة” مع الناس، ولا نكون “طغاة” صغار، يتولون تطبيق ما يريده الطغاة الكبار، على مستوى حياتنا اليومية والخاصة، يكفي الناس ما تعانيه من ظلم وكدر ويأس في حياتها العامة، أنشروا الفرح والسلام والأمن والأمان، لنكن إيجابيين حتى في نقدنا للآخر، فَجَلَّ من لا يُخطئ، لكن الخطأ لا يبرر الحقد والسلبية والتقريع القاسي والتنمر، بل يستوجب التوجيه والنصح والإصلاح، فالتفهم والتفاهم هما أساس إقامة المجتمعات السليمة، وليس التعالي والغرور والتنظير على الناس من فوق.

دعوا الناس تفرح دعوها تطلق العنان لمشاعرها وأفكارها وآرائها في الحياة، تعالوا نتخلى عن أسلوب “الأستذة” مع الناس ولا نكون “طغاة” صغار


هذه هي الثقافة التي يجب أن تسود، أقله في حياتنا الخاصة، بدايةً حتى تتحول مع مرور الوقت إلى حالة عامة، وهذه ما يجب أن تكون عليه مهمة المثقفين الحقيقية، وهي أن يكونوا ناشري وعي، ودعاة حوار وثقافة إنسانية راقية، لا تنسف الهوية والشخصية، لكنها أيضاً بعيدة كل البعد عن التعصب الأعمى في كل مجالات الحياة، لأن الإنسانية نقيض العصبية والعنصرية، وهما ضدان لا يلتقيان.
وإذا كان الخليفة عمر بن الخطاب قد قال “متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”، فالحري بنا اليوم أن نسأل “من نصَّبكم أوصياء على الناس، تصادرون أراءهم وتسخفون أفكارهم”، ونقول إفتحوا النوافذ للشمس والحرية للفكر والقول، دعوا الناس تعبر عن نفسها ولو أخطأت، فهي كفيلة مع مرور الأيام، بتصحيح أخطائها دون خجل أو وجل، ما دامت تسبح في فضاء الحرية.

إفتحوا النوافذ للشمس والحرية للفكر والقول دعوا الناس تعبر عن نفسها ولو أخطأت فهي كفيلة مع مرور الأيام بتصحيح أخطائها

تعالوا ننقي نفوسنا ونطهِّرها من “الديكتاتوريات” الصغيرة المعششة داخلها، فالأوطان القوية المتماسكة لا يبنيها سوى الأحرار من بنيها، ولأن ” الحياة هي إنتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء” كما قال كمال جنبلاط، فلنكن أحرار أقوياء حتى تُمنح لنا الحياة ونستحقها.

السابق
رسالة من لقمان (26): حسبنا التأكيد على قناعات جبران وكلودين
التالي
هكذا بلغت المغرب نصف نهائي كأس العالم.. هل تهزم فرنسا؟!