الجيل «زد» يقود التغيير في إيران: لماذا يخشاهُ النظام، وكيف يُخطِّط لمواجهته؟

احتجاجات ايران

تحمل الموجة الجديدة من الاحتجاجات التي تشهدها المدن الإيرانية منذ سبتمبر 2022، سمات مشتركة تجمعها مع موجات سابقة من الاحتجاج، كان قد شهدها الشارع الإيراني على مدى الأعوام الخمسة الماضية (مثل احتجاجات 2017-2018، و2019، و2020). لكنّها تتميّز أيضاً بسمات فريدة رفعت من مستوى القلق في صفوف القيادة الإيرانية. ولعب جيل الشباب “زد” Generation Z -“وهو الجيل الذي يلي جيل الألفية، ويتكون من مواليد منتصف التسعينيات إلى منتصف العقد الأول من الألفية الثانية”- الدور الأبرز في توجيه وإدامة موجة الاحتجاج الأخيرة؛ ما دفع مختلف مراكز التفكير التابعة للنظام إلى البحث عن سبل لمواجهة هذا الجيل، واحتوائه. 

أنماط متباينة من الاحتجاجات والمحتجين، والغضب واحد

كانت احتجاجات عام 2009 التي عرفت باسم “الحركة الخضراء” الأهم من حيث عدد المشاركين. واشتعلت تلك الاحتجاجات على خلفية تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية، وطالبت بإصلاح النظام السياسي، وكانت تقودها شخصيات محددة، وتُديرها مراكز اتخاذ قرار ظاهرة؛ ما سهّل على النظام عملية تفكيكها، وإخمادها عبر الانقضاض على مركز القيادة والتوجيه. لكنّ احتجاجات الأعوام الخمس الماضية تختلف جذريّاً عن احتجاجات العام 2009؛ فإذا كانت “الحركة الخضراء” تطالب بإصلاح النظام، فإن موجات الاحتجاج الأخيرة تجاوزت فكرة الإصلاح إلى المطالبة بإسقاط النظام.

اقرأ أيضاً: بعد وفاة أميني.. إيران تنفذ ثاني عملية إعدام مرتبطة بالمظاهرات!

وتتّسم الموجات الجديدة من الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ نحو خمس سنوات ماضية بأنها “احتجاجات عمياء”؛ فهي لا تتبَنّى أجندة سياسية محددة المعالم، وتشتعل بشكل عَفويّ، وانفعاليّ، نتيجة مُحفِّز مُباشر مُعيّن، وتفتقر إلى القيادة التقليدية، وتتميّز بشدّة الغضب، والراديكالية المفرطة. ولذلك نجدها تطالب بإطاحة النظام السياسي بشكل كامل، وواضح، ولا تطالب بإصلاحه. 

وعلى الرغم من وجود بعض السمات المشتركة بين الموجة الأخيرة من الاحتجاجات لعام 2022، والاحتجاجات التي سبقتها على مدار الأعوام الخمس الماضية، فإن الموجة الجديدة تميّزت ببعض السمات الخاصة، والفريدة؛ إذ اتّصف الحراك الجديد بالوضوح في معارضته المباشرة للقائد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، وركّزت الشعارات الأساسية على مناهضته بشكل شخصي، علاوة على مناهضة النظام من حوله. وعلى الرغم من أنّ الدعوة إلى إسقاط النظام شكّلت أحد شعارات الطبقة الوسطى الإيرانية منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي إلى يومنا هذا، إلّا أنها لم تنجح في الوصول إلى الطبقات الأخرى في المجتمع الإيراني، كما حدث في الموجة الأخيرة من الاحتجاج.

وشهدت احتجاجات سبتمبر 2022 وما تلاها مشاركة ضعيفة من الفئات الكادحة والمعوزة، ووجوداً محدوداً للحركات العمالية، والفلاحيّة. بينما شهدت مشاركة واسعة لفئات الشباب والنساء التي شكلت العنصر الأساس فيها، إن كان على صعيد المشاركة الميدانية (حيث تشير أرقام رسمية إلى أن نحو 75% من المشاركين في الاحتجاجات كانوا أقل من 25 عاماً)، أو على صعيد الشعارات التي استهدفت موضوعات تهمّ الجيل الشابّ، والنساء أكثر من غيرهم، مثل قضايا الحجاب والحريات الاجتماعية. 

ويمكن ملاحظة دور خاص للشباب من “الجيل زد” في الاحتجاجات من خلال التطورات الميدانية والتحليلات الصادرة عن مراكز التفكير الإيرانية والغربية؛ حيث شكل هذا الجيل اللبنة الأساسية للمشاركين في الاحتجاجات الأخيرة. 

ومن حيث التِّعداد، يُشكّل “الجيل زد” نحو 7% من المجتمع الإيراني، بواقع يبلغُ نحو 6 ملايين نسمة. ويُقصَد بتعبير “الجيل زد” عادةً المواليد بين عامي (1997 و2010). ويتّصف هذا الجيل، الذي تلقّى مستوىً عالياً من التعليم، واتّصل بشكل كبير بالعالم الافتراضي من خلال شبكات التواصل، بسمات جعلت مراكز التفكير الرسميّة تُنذِر من تداعياتها على المستوى الميداني منذ عدّة أعوام. 

وعملت جائحة كورونا على تعزيز ظاهرة “الجيل زد” في إيران؛ حيث اضطرّ النظام السياسي إلى توفير خدمة الإنترنت لأطياف أوسع من الشعب الإيراني، شملت الطبقات الأكثر فقراً، ومدن الهامش والأطراف، والقرى النائية، نتيجة تطبيق مُمارسات “التعليم عن بُعد”، و”العمل عن بُعد” في أجواء الإغلاقات التي سادت أثناء الجائحة. وأدّى ذلك بطبيعة الحال إلى انفتاح أطياف أوسع من الشباب الإيراني على مواقع التواصُل، وشبكة الإنترنت، خاصة بين طلبة المدارس. كمّا أدّت الآثار الاقتصادية للجائحة إلى رفع نسب البطالة، والفقر، وزيادة مستويات السخط الشعبي. وكانت الأجهزة الأمنية الإيرانية استشعرت منذ البداية مخاطر مثل هذا الانفتاح على الشبكة العالمية، وطالب رموز الدولة العميقة منذ البداية بتجاهل دعوات الإغلاق، والتعامل مع فيروس (كوفيد 19) بمستوى أقلّ من الخوف والارتباك، والإبقاء على الأسواق والمدارس والجامعات مفتوحة، تجنُّباً لمثل هذه النتائج غير المرغوبة.   

وكانت الدراسات الرسمية في السابق تزعمُ بأن “الجيل زد” هو بالأساس جيل غير سياسي، وغير معني بالعملية السياسية، وأنه يرفع مطالب اجتماعية بحتة، لكنّ عدة تطورات حدثت خلال السنوات الماضية، كشفت عن توجهات هذا الجيل السياسية، كما أظهرت مساعيه لتنظيم نفسه ضمن آليات تنظيم مختلفة كلياً عن الآليات التقليدية، لتكون محورها الهوية الافتراضية في مقابل الهوية الجماعية التقليدية التي يكتسيها الفرد نتيجة تأثره بمؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية التقليدية. 

وورد ضمن تقديرات مؤسسات رسمية أن “الجيل زد” لا يمتلك أي اهتمام بالأيديولوجيا الإسلامية التي يتبّناها النظام السياسي الإيراني، ولا يعترف بالدولة المركزية في الخطاب السياسي الإيراني، كما أن دراسات ميدانية أظهرت اتسام هذا الجيل بالغضب، وبعدم الخوف من التعبير عن مطالبه السياسية. وعلى صعيد التوجُّهات السياسية الميدانية، يمكن الإشارة إلى غياب شبه كامل لـ “الجيل زد” من المشاركة في العمليات السياسية الرسمية، وعلى رأسها الانتخابات؛ إذ تشير المعطيات إلى أن الجولات الأخيرة من الانتخابات شهدت مقاطعة كاملة من “الجيل زد”، كما شهدت مقاطعة قوية من الطبقة الوسطى المقربة من هذا الجيل. وشهدت الساحة السياسية الإيرانية مشاركة فاعلة لـ “الجيل زد” في تحرُّكات سياسية راديكالية، وخشنة، كان من أهمها موجة الغضب التي قادتها حركة “ري ستارت” ضدّ رموز النظام السياسي الأيديولوجي في عام 2017-2018. 

وعلى صعيد مختلف، أظهر “الجيل زد” رغبة قوية في تنظيم صفوفه، من خلال آليات ونظم جديدة خارج خريطة الآليات والمؤسسات التي أنشأها النظام السياسي الإيراني. وذلك من خلال التجمع في شبكات التواصل الاجتماعي، حول شخصيات بعيدة عن بؤرة النظام السياسي، وعن الثقافة المجتمعية السائدة. وتشير الأرقام في هذا الصعيد إلى إقبال واسع من “الجيل زد” على متابعة شخصيات ورموز ثقافية وسياسية مختلفة عن الشخصيّات النمطيّة التي يُروِّج لها النظام، وإقبال واسع على الشخصيات التي تدخل في جدال مع النظام السياسي القائم، وتُظهِر مقدراً أعلى من “الشجاعة” في مهاجمته.

وتزعم وسائل الإعلام الرسمية للنظام الإيراني أنّ الموجة الجديدة من الاحتجاجات مؤامرة تديرها أجهزة استخبارات ودول أجنبية بغاية استهداف النظام السياسي الإيراني. لكنّ الحقيقة أن هذه المواجهة كانت متوقّعة تماماً، إذ لطالما حذّرت مراكز التفكير المقربة من مؤسسات صنع القرار الإيراني، وعلى مدى الأعوام الماضية من تنامي الفجوة بين الجيل الجديد، ومؤسسات الثورة. وأكّد عديدٌ من الدراسات والتحليلات المنشورة وجود تغييرات هيكلية في البنى السياسية والاجتماعية داخل إيران، تعتبرها تلك التحليلات مسؤولة عن تشكيل هذه الفئة السكانية الغاضبة، والمنقطعة عن النظام. 

وفي ظل تراجُع دور مؤسسات الإعلام الرسمية وشبه الرسمية الإيرانية، لصالح تنامي دور شبكات التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام البديلة، تعمّقت حالة الانسلاخ الاجتماعي عن الخطاب السياسي الرسمي وآلياته. وعلى سبيل المثال، تشير الأرقام الرسمية إلى أن عدد الأعضاء في تطبيق “إنستغرام”، باعتباره أكبر شبكات التواصل الاجتماعي انتشاراً في إيران، ارتفع من 24 مليون شخصاً إلى 48 مليون شخصاً خلال 4 أعوام فقط (2018-2021)، فيما ارتفع عدد الصفحات التي يتابعها أكثر من نصف مليون متابع إلى 7000 صفحة في 2021؛ حيث تشكل صفحات الشخصيات المعروفة نحو 31% منها؛ ما يعني صعود جيل جديد من الشخصيات المؤثرة على صياغة الرأي العام. وهذه الأرقام تدعمها أرقام مشابهة، تُظهر تزايُد حضور الإيرانيين على تطبيق “تليغرام” للتواصل الاجتماعي بشكل كبير على الرغم من الحظر المفروض على التطبيق.

أما بالنسبة لفئة النساء، باعتبارها أحد المكونات الأساسية للفئات المحتجة، فتعتبر ضمن الفئات الأكثر غضباً، وتحشيداً ضمن الجيل “زد”. وشهدت فئة النساء خلال الأعوام الماضية المزيد من المشاركة في التعليم العالي؛ إذ شكلت النساء في بعض الأعوام نحو 60% من خريجي الجامعات، فيما تشير أرقام رسمية إلى وجود 2.2 مليون طالبة جامعية من أصل 4 ملايين طالب وطالبة في 2020، وأن عدد النساء الحاصلات على شهادات جامعية بلغ 7 مليون امرأة في عام 2021 وهو في مسار تصاعدي. ومقابل هذا الانفتاح على التعليم العالي، والذي أدى إلى خلق قوة اجتماعية مؤثرة، تحمل وعياً حضرياً كبيراً، فإن أرقام سوق العمل تبدو محبطة؛ إذ تشير معطيات رسمية إلى أن النساء في إيران لا يشكلن سوى 20% من سوق العمل، وأن نسبة البطالة بين النساء المتخرجات من الجامعة في 2021 بلغ 55%، وهو عدد كبير إذا ما أخذ بالحسبان نسبة البطالة الرسمية التي بلغت في العام نفسه 9.8%، ونسبة البطالة بين الرجال الخريجين من الجامعات حيث استقرت عند 28% حسب أرقام مركز الإحصاء القومي الإيراني.

وحصيلة ذلك هو صعود “الجيل زد” باعتباره جيلاً يبدو بعيداً عن فضاءات الثورة، وأيديولوجيتها العقائدية، ومنخرطاً في فضاءات اجتماعية وسياسية مختلفة تماماً، تتّسم بالعولمَة، والحداثة، وتبنّي موقف مُحايد من الأديان، والصّراع الحضاري والأيديولوجي. وبينما لم تستطع وسائل الإعلام، والتنشئة الاجتماعية الإيرانية الرسميّة التواصل مع “الجيل زد”، فإن أفراد هذا الجيل انتظموا من خلال شبكات تواصل اجتماعي تحمل بؤر تأثير منفصلة عن الأيديولوجيا الرسمية. وفي حين كانت المؤسسات الرسمية تؤكد ابتعاد هذا الجيل عن النشاط السياسي، فإن سلوكيات الجيل على مدى الأعوام الماضية (مقاطعة الانتخابات، واستهداف رموز النظام) أظهرت توجهات سياسية قوية وراديكالية لدى هذا الجيل الذي يرفض القواعد السياسية الرسمية في إيران، ويبتعد حتى عن المعارضة الرسمية المتمثلة في التيار الإصلاحي والمعتدل. كما يبدو رافضاً للتنظيمات التقليدية للمعارضة الإيرانية الخارجية. وأدت القطيعة الكبيرة بين رؤى “الجيل زد” وتطلعاته، والرؤى والتطلعات الرسمية إلى جانب فشل مؤسسات النظام الإيراني في تلبية حاجاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى ولادة جيل غاضب لا يتفاهم مطلقاً مع منطق النظام السياسي، كما أكد ذلك عزت الله ضرغامي وزير السياحة في حكومة إبراهيم رئيسي. 

ردة الفعل الرسمية: مزيج من إعادة التموضع، والتأكيد على المبادئ 

أظهرت أجهزة النظام الرسمية موقفاً مُتشدداً حيال موجة الاحتجاجات الأخيرة، لا على صعيد السلوك الميداني فحسب، وإنما على صعيد المواقف؛ ففي حين شهدت خطابات القائد الأعلى، علي خامنئي، تصعيداً حيال المحتجين الذين وصف احتجاجاتهم بالحرب المركبة التي تديرها أجندة غربية ضد إيران، يشير معظم المواقف الصادرة عن المؤسسات الثورية والمؤسسات السياسية إلى مثل هذه اللهجة. إذ أكد قادة الحرس الثوري أنهم لن يظهروا رأفة بعد الآن مع المحتجين. وأعلنت سلطة القضاء أنها تتابع إصدار أشد الأحكام القضائية بحق المحتجين بتهمة (المحاربة)، وتؤكد ضرورة إصدار الأحكام في أول فرصة باعتبارها مطالبة شعبية. ووّقع نحو 230 نائباً من نواب البرلمان رسالة علنيّة بهذا الصدد تُشير إلى ضرورة التشدُّد حيال المحتجين، وانتقاد التسامح الذي تبديه الشرطة الإيرانية. 

لكن وراء كل ذلك، أثارت الموجة الجديدة من الاحتجاجات مخاوف حقيقية داخل أوساط النظام. ولعلّ أحد أهم أسباب هذه المخاوف هو جهل النظام السياسي بآليات عمل الاحتجاجات الأخيرة، وعدم قدرته على التعامل مع التحدّيات الجديدة التي أوجدتها وسائل التواصل الاجتماعي، والمجالات المنافسة لخطابه السياسي والاجتماعي. وفي نفس الوقت، تتزايد مخاوف صناع القرار الإيراني حيال الفجوة بين المتزايدة بين الجيل “زد” والقيم والمبادئ الثورية التي يتبناها النظام، وتداعيات هذه القطيعة على مستقبل النظام السياسي في إيران.

وفيما حاول خامنئي تجاهل متطلبات هذا الجيل في خطاباته التي ألقاها بعد الاحتجاجات، باستثناء الإشارة في أحدها إلى ظاهرة هجرة الكثير من النخب بسبب ضعف الفرص (مع أنه ألقى في الخطاب نفسه اللوم على هذه النخب المهاجرة، مؤكداً أنها لن تلقى مصيراً جيداً في الغرب)، فإن مراكز قوة أخرى أظهرت تجاوباً محدوداً مع الاحتجاجات، وأقرّت بضرورة مراجعة الواقعين السياسي والاقتصادي في البلاد. وجاءت أهم تجليات هذا التجاوب من رئيس البرلمان، محمد باقر قاليباف، الذي أكّد في أكثر من موقف ضرورة تلبية المطالب التي يقدمها الجيل الجديد بعيداً عن حالة الاحتقان الراهنة، مشيراً إلى نية مراكز صنع القرار التعامل بإيجابية مع هذه المطالب، من خلال القيام بإصلاحات جدية في النظام السياسي القائم. وهو موقف أشار إليه عدد من مستشاريه وكوادر مركز أبحاث البرلمان. بينما تظهر مواقف عدة رموز في الحكومة، ومن ضمنهم الرئيس الإيراني نفسه، ونائبه محمد مخبر، ووزير السياحة ضرغامي، وعياً متنامياً بضرورة تفهُّم موقف الجيل الجديد، والعمل على سد الفجوة بين مطالب الجيل الشاب والواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المتخلف.

ويشير العديد من المواقف إلى أن النظام السياسي الإيراني يفكر في انتهاج عدد من التعديلات في السلوك الرسمي، وهو ما جسَّده إيقاف نشاط شرطة الأخلاق مؤخراً؛ إذ سبق أن أشار أمين المجلس الأعلى للثورة الثقافية إلى أن شرطة الأخلاق لا تمثل طموحات الثورة الإيرانية. وكان عدد من نواب البرلمان قد شددوا على ضرورة مراجعة قوانين شرطة الأخلاق باعتبارها مؤسسة أساءت إلى صورة النظام، وأثارت حفيظة المجتمع، ولم تؤد إلى نتائج مرجوة. ومن المفترض، وعلى المدى القريب، أن يقوم النظام السياسي في إيران ببعض الخطوات الميدانية الإضافية، وإن كانت رمزية، لإظهار رغبته في إصلاح بعض المسارات، بغية تقريب الجيل الجديد من النظام السياسي، خصوصاً إذا أخذ بالحسبان احتمال أن يكون الانتقال السيادي في إيران قريباً، في ضوء أخبار عن مرض القائد الأعلى، والتحضير لخلافته. 

مع ذلك، لا تشير المعطيات إلى وجود أي نيّة للقيام بإصلاحات حقيقية في أعلى الهرم السياسي في إيران. وتقتصر الحلول المتوقّعة على مبادرات محدودة، وذات طبيعة دعائية تهدف إلى تهدئة “الجيل زد”، والعمل على جرّه نحو مشروع سياسي يتماشى مع أهداف النظام السياسي الإيراني. ولا تبدو المعطيات الاقتصادية المؤثرة على رؤية “الجيل زد”، والتي تسببت أساساً بابتعاده عن المجال السياسي والثقافي الرسمي، قادرة على التحسُّن السريع، بما يضمن استرضاء متطلبات هذا الجيل ورغباته، إذ إن الأزمة الاقتصادية الإيرانية بفعل العقوبات والفساد المستشري يمنعان حصول إصلاحات حقيقية تضمن تحسين المستوى الاقتصادي، والتوزيع العادل للفرص الاقتصادية.

وعلى مستوى أعمق، فإن الوعي الرسمي بأهمية شبكات التواصل الاجتماعي، باعتبارها رديفاً مستقلا لمؤسسات الإعلام الرسمية في مخاطبة العقول الإيرانية تجلى بشكل واضح. وتمثل هذا الوعي من خلال تأكيد رموز أيديولوجية تابعة للنظام على انصياع هذا “الجيل المارق” لتعليمات شبكة من المواقع والقنوات المأجورة التي استهدفت العقول الإيرانية، وخدعتها بدعاية مضللة. وأكد خبراء مستقلون يعملون في فلك النظام أن الخطاب السياسي والثقافي الإيراني خسر التنافس على مستوى الإعلام، بسبب تغييبه لمطالب الجيل الجديد، وبسبب بقاء الخطاب والآليات الإعلامية متخلفاً عن الركب التقني. 

وتمت ترجمة هذا الوعي باتخاذ خطوات أصبحت تقليدية، مثل حجب المواقع، وتضييق الإنترنت، والتأكيد على ضرورة إنشاء شبكة إنترنت محلية، والاستغناء عن الشبكة العالمية للإنترنت عبر محاكاة النموذج الصيني أو الروسي أو الاستعانة بهما لبناء نسخة محلية. لكن المعطيات أظهرت أن “الجيل زد” تمكن من تجاوز هذه الخطوة، وبقي متصلاً بشبكات التواصل الاجتماعي على الرغم من الحجب المفروض. إذ تشير الأرقام إلى أن معدل استخدام برامج شبكات خاصة افتراضية (VPN) ارتفع بنسبة 3000% خلال الشهرين الماضيين، بينما تضاعف عدد زيارات القنوات في تطبيق “تليغرام” المحجوب خلال أكتوبر 2022 إلى 2.8 مليار زيارة في الشهر، مقارنة بنحو 1.2 مليار زيارة فقط في سبتمبر. 

وإلى جانب ذلك، فإن وعي النظام بقدرة التقنيات الجديدة على تجاوز أية حدود مفروضة على الإنترنت (ستارلينك والبرامج المطورة لمحاربة الحجب مثلاً) دفع صانع القرار الإيراني والعقل السياسي والإعلامي الإيراني إلى التفكير بضرورة تغيير مناهج التعامل مع الجيل الجديد من خلال خلق خطابات جذابة له، وتفادي مواجهته على صعيد المتطلبات الاجتماعية. وأمكن رؤية نماذج لهذا التوجّه في الصحافة التابعة للمحافظين، مثل صحيفة “جمهوري إسلامي”، وصحيفة “اطلاعات” الرسميتين، وصحيفة “رسالت” المقربة من تيار رئيس البرلمان الإيراني، وصحيفة “صبح صادق”. لكنّ التحدي الأكبر هو ما إذا كانت العصبة المهيمنة على مقاليد الحكم جاهزة لتنفيذ مثل هذه التعديلات؟

ما بعد ثورة الجيل “زد”: إلى أين تتجه إيران؟

تُفيد مختلف التقارير الميدانيّة بأنّ أعداد المشاركين في احتجاجات سبتمبر 2022 وما يليها أقلّ بكثير من أعداد المحتجين أثناء احتجاجات نوفمبر 2019. كما أنّ عدد المدن التي شهدت احتجاجات أقل أيضاً. مع ذلك هناك اعتقاد متزايد بأنّ الموجة الجديدة من الاحتجاجات سوف تتركُ أثراً أكبر على المشهد السياسي الإيراني. وتتضح هذه المفارقة بمقارنة مطالب المحتجين في الحالتين؛ إذْ كانت مطالب المحتجين في 2019 تتركّز في الجوانب الاقتصادية، ولا تمس جوهر الثورة الإسلامية، أما المطالب التي رفعها المحتجون في موجة الاحتجاجات الأخيرة فاستهدفت قيادة الثورة، ومنظومتها الأيديولوجية، والعقائدية، والأمنية بشكل مباشر.

وفي ضوء ذلك، بات على النظام السياسي الإيراني بعد احتجاجات سبتمبر 2022 أن يختار بين الوفاء لرؤى الثورة وأيديولوجيتها، ومنظومتها العقائدية، والأمنية، واعتبار المحتجين عملاء ينفذون رغبات أعداء الثورة، وبين القيام بإصلاحات حقيقية، تمسّ جوهر الثورة، وبما يلبّي الحدّ الأدنى على الأقل من متطلبات “الجيل زد” ذات الطبيعة الراديكالية التي لم تعد مقتصرة على تحسين الوضع الاقتصادي، وتوزيع الفرص، ومكافحة الفساد، بل تخطّت كل ذلك إلى المطالبة بتقويض الهياكل الأيديولوجية، والعقائدية لنظام الثورة الإسلامية في إيران. 

وأظهرت المواقف الرسمية الإيرانية، وعيَ مؤسساتِ النظام، ومراكزِ صنع القرار فيه، بحقيقة تخلفها عن تلبية توقُّعات الأجيال الصاعدة، ومُواكبة رؤاهم لأكثر من عقدين. وأظهر مجموع المواقف الصادرة عن المؤسسات الرسمية، والمؤسسات الإعلامية، ومراكز التفكير المقربة من مراكز صنع القرار، انقساماً واضحاً بين الدعوة إلى التشدُّد حيال المحتجين، من منطلق الوفاء المُتصلِّب بمبادئ الثورة، والدعوات الخجولة إلى استيعاب الجيل الجديد، وتنفيذ بعض الإصلاحات من منطلق الحرص على بقاء النظام السياسي.

وعلى أية حال، يمكن توقُّع ثلاثة سيناريوهات محتملة قد تحدد آفاق اتجاه العلاقة بين الجيل “زد” والنظام الحاكم في إيران، وذلك على النحو الآتي: 

1. سيناريو الاستجابة المرنة. يفترض هذا السيناريو قدرة مؤسسات الثورة على استيعاب الجيل الجديد الصاعد، وامتصاص غضبه، وأن يعمل النظام السياسي في إيران على إجراء إصلاحات اجتماعية وثقافية، واتخاذ خطوات عملية مثل: إلغاء شرطة الأخلاق، وتوسيع الحريّات الاجتماعية بما يتناسب مع متطلبات الجيل الجديد، وإجراء إصلاحات سياسية تتضمن إشراك الجيل الجديد جزئياً في العملية السياسية. كما يفترض السيناريو استطاعة النظام تحسين الحالة الاقتصادية، والعمل على رفع مستوى الرضا لدى الجيل الشاب الممتعض من البطالة، ومن عدم التوزيع العادل للفرص الاقتصادية. 

وعلى الرغم من أن أجزاء من البيت الحاكم في إيران تُروِّج لضرورة تبنّي هذه الفكرة، وتشير إلى احتمال تبنّي النظام مثل هذا المنهج، إلّا أنّ التطورات إلى الآن لا تُشير إلى توجه النظام نحو تطبيق هذا السيناريو، ولا يزال النهج المهيمن لدى الحاكميّة في إيران يمضي باتجاه المواجهة. ويبدو أن الصوت الأعلى في النظام إلى الآن ينادي بتبني أساليب قمع أشدّ وطأةً ضدّ المحتجين، وينظر إلى الاحتجاجات باعتبارها مؤامرة أجنبية. وهذا ليس من باب الخطاب السياسي، أو الدعاية الرسميّة، بلْ إنّ مواقف، وسلوك القيادة الإيرانية العليا، سواء في مكتب القائد الأعلى خامنئي، أو قيادة الحرس الثوري تُشير إلى أنها تعتقد بالفعل بأنّ اليد الطُولَى في موجات الاحتجاج الأخيرة، هي لأجهزة الاستخبارات الغربية، وعملائها من المعارضة الإيرانية في الخارج والداخل، والذين يسعون إلى الإطاحة بالنظام السياسي في إيران من خلال حرب مُركّبة، أو مُتعدّدة الأوجه. 

2. سيناريو المعالجة الأمنية. يفترض هذا السيناريو لجوء المؤسسة الرسمية في إيران إلى علاقتها مع إدارة الجيل الجديد من خلال كبت متطلباته الاجتماعية والسياسية، وقمعه بداعي التصدي لمؤامرة دولية، ومن ثمّ العمل على تضييق استخدام الإنترنت في إيران، وحجب مواقع التواصل الاجتماعي التي تعتبرها مؤسسات الثورة أذرع “الحرب المركَّبة” التي تقودها أجهزة الاستخبارات الغربية ضدّها. ويواجه هذا السيناريو الذي تروج له أذرع متنفذة في المؤسسة السياسية الإيرانية، معارضةً من داخل المؤسسة الرسمية، ممّن يرون أنّ الكبت لا يعالج مشكلة القطيعة بين الثورة والجيل الجديد، وإنما يخفيها فقط، لتظهر في مرحلة قادمة، وبشكل مختلف، وربما أكثر عنفاً، وراديكالية. 

كذلك، يواجه هذا السيناريو الذي يبدي النظام السياسي إرادة في تفعليه من خلال حجب شبكات التواصل الاجتماعي، أزمةَ فاعليّة مُتزايدة؛ إذ يصعب بالفعل تطبيق مثل هذا السيناريو بفاعليّة في ضوء توافر التقنيات الجديدة التي تُضعِف قدرة أجهزة النظام على حجب مواقع التواصل، وتوفِّر للجيل الجديد بدائل متنوِّعة للتحايل على هذا الحجب. وفي مرحلة مقبلة قريبة، قد تتوافر تقنيات أكثر تقدُّماً بحيث تجعل سياسة الحجب غير فاعلة إطلاقاً. كما أن المعالجة الأمنية الميدانية، ومحاولات قمع القيادات الميدانية للحراك الجديد، أثبتت بأنها غير فاعلة حتى الآن، وذلك في ضوء غياب نمط القيادات التقليدية عن هذه الموجة من الاحتجاجات، وظهور عصر ما يُعرف بـ “القيادة الشبكيّة اللامركزية”.

3. سيناريو الأزمة المُمتدّة. يفترض هذا السيناريو أن الأزمة ستعيد إنتاج نفسها على مرّ الزمن؛ إذ ستستمر المواجهة بين “الجيل زد” المارق والمؤسسات الرسمية في ضوء صعود التقنيات الجديدة التي تكرّس ظاهرة الوعي المختلف لدى هذا الجيل، وتُعمِّق القطيعة بينه، وبين نظام الثورة، وهياكله السياسية والاجتماعية. وكذلك في ضوء إخفاق النظام السياسي في التصدي لاحتجاجات “الجيل زد” على المديين المتوسط والبعيد، سواء عبر استيعاب مطالب الجيل الجديد، من خلال إصلاحات جزئية تمتص الغضب، وتقلل الفجوة، أو عبر قمع الحراك والقضاء عليه بقوة؛ ما يعني اتجاه إيران أكثر فأكثر نحو سيناريو الدولة الهشّة.

السابق
استرداد الثقة وعودة الأمل.. زياد حايك مرشّح لرئاسة الجمهورية «صُنع في لبنان»
التالي
سيدة الجبل تطالب بحماية بيروت ومطارها: على بكركي أن تقفل أبوابها بوجه النواب والقوى السياسية