وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: ليست مراوحة سياسية بل جريمة قتل

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع.

المراوحة السياسية القائمة في لبنان، التي تعمق الفراغ وتعممه على كل قطاعات الدولة، وتغيب أي إطلاق لبرنامج إنقاذ من كارثية الحياة القائمة، وتعطل كل مبادرة جدية ومخلصة وتحولها إلى لعبة حصص.  هذه المراوحة ليست صفة للحياة السياسة، أو ميزة لعبة سلطة يجيد اللاعبون الفاعلون الداخليون التفنن والتذاكي وفق قواعدها، أو مشهد ديمقراطي يؤكد تعددية القوى وغياب الاستبداد وحرية الموقف والتحالفات، أو حالة صمود ومقاومة ضد الحصار الخارجي وإملاءاته. 

هذه المراوحة ليست صفة للحياة السياسة أو ميزة لعبة سلطة يجيد اللاعبون الفاعلون الداخليون التفنن والتذاكي وفق قواعدها

  ما يحصل في لبنان صفة لواقع قائم، لم يعد بإمكانه الخروج من وضعية مقفلة وحالة انسداد محكم. هي صفة عجز تمنع هذا الواقع من الخروج من أزماته ومشكلاته مهما حاول منظمي هذا الواقع ومدبري أمره أن ينقلوه إلى وضعية أخرى.  هو عجز ليس سببه قوة قاهرة استبدادية لاغية أو مقيدة للإرادات ، وليس سببه أيضاً مانعاً خارجياً استعمارياً أو مؤامراتياً، يحول دون تحقيق الإرادات الداخلية أغراضها وتستثمر نتائج فعلها الحر.  بل هو، أي العجز، صفة ذاتية للواقع نفسه، أي صفة واقع يعيد باستمرار إنتاج إنسداداته ومراوحته، وانهياره بإرادة اللاعبين والفاعلين السياسيين أنفسهم وباختيارهم الحر.  إنها حالة واقع سياسي غافل عن آثار فعله وجريمته، يدمر نفسه بنفسه، ويمارس انتحاراً إرادياً وطوعياً، ظناً من قواه وقياداته ورموزه أنهم بذلك يصنعون التاريخ ويخلقون المجد.    

ما يحصل في لبنان صفة لواقع قائم لم يعد بإمكانه الخروج من وضعية مقفلة وحالة انسداد محكم.

المراوحة حالة تصلب لم يعد بالإمكان كسرها أو تليينها، تتحول الحياة السياسية معها إلى لعبة فوز وربح أو انتصار وهزيمة، بين اللاعبين السياسيين من قوى وقيادات، بحيث تكون غاية الحياة السياسية لا إدارة الشأن العام والارتقاء به إلى مستويات جديدة، ولا تعود حياة الناس اليومية ومشكلاتها وتعقيداتها محلاً للاهتمام ومداراً للنجاح وإثبات الجدارة، بل تتحول الانتصارات والمكاسب إلى هاجس ذاتي وملكية شخصية يدعيها كل طرف لنفسه وحده دون غيره.

هي صفة واقع سياسي مشخصن إلى أبعد حد، تتعطل معه الحياة العامة، ويصير الموقع حقاً وامتيازا خاصين، قابلين للتصرف بنحو مطلق وبطريقة مزاجية من قبل حائزيها وماسكي زمام أمرها. فلا يعود هنالك ضابطة سابقة ومعياراً ثابتاً يحكم التصرف والسلوك. فصاحب الموقع والامتياز والمكسب هو الذي يضع المعيار والضابطة، لتلاءم سلوكه وتطابق أخلاقيته وتحفظ مكاسبه. بالتالي لا يعود الشخص، من حزب أو قيادة أو جهة، وسيلة حكم أو طريقة تدبير وأداة تنظيم، ولا يعود وكيلاً مؤقتاً لتنفيذ مهام عامة، بل يصبح الشخص هو الوسيلة والغاية معاً، هو المقصد والهدف النهائي، ليكون سقوطه الشخصي سقوطاً للكل ونهاية للجميع، بالتالي يختزل هذا الشخص، الفرد أو الحزب أو التنظيم، الحياةَ كلها بحياته ووجود المجتمع بوجوده ونهايته وموته بموت الأوطان والمجتمعات.  

هي صفة واقع سياسي مشخصن إلى أبعد حد تتعطل معه الحياة العامة ويصير الموقع حقاً وامتيازا خاصين قابلين للتصرف بنحو مطلق وبطريقة مزاجية من قبل حائزيها وماسكي زمام أمرها

مع تشخصن السياسة ولعبة السلطة، ينقلب ترتيب الاشياء الطبيعي والمنطقي والأخلاقي، في علاقة الحاكم والمحكوم وفي معنى الهوية والهويات، وفي علاقة مكونات المجتمع مع بعضها البعض. فلا يعود الولاء لوطن أو دولة بل لشخص، ولا يعود الصالح العام مدار النجاح بل كسر إرادة الخصم وتحطيمه وربما سحقه، ولا يعود هنالك مجال للتضحية أو أنصاف الحلول، بحكم أنها بنظر الشخص السياسي علامات ضعف ووهن أمام الموالين والخصوم معاً، ولا تعود الدولة ودستورها غاية عليا بل وسيلة وساحة صراع ولعبة سلطة، ولا تعود الهوية الجامعة مدارا للانتماء والتشدد، بل الهويات المجزأة والمفتتة التي تعوض ضيق أفقها ووضاعتها، بهلوسات متخمة وأوهام قوة وادعاءات تفوق ساذجة.

هو في حقيقته لحظة نهاية قريبة للدولة ومشهد موت بطيء للكيان اللبناني نُجَمِّلُ جريمة قتل

ما نسميه مراوحة سياسية في لبنان، والإصرار المقزز في تسويغ التعطيل والفراغ دفاعاً عن “المكاسب” و”الإنجازات”، هو في حقيقته لحظة نهاية قريبة للدولة، ومشهد موت بطيء للكيان اللبناني نُجَمِّلُ جريمة قتله، بكثير من الورود والزينة والرايات والأهازيج والرقص وادعاءات النبوغ وقصائد المجد. 

أسوأ ما في المشهد حين يصوَّر الفاعلون السياسيون في لبنان مع نخبهم المأجورة لهم، بأن ما يحصل هو تعبير عن طبيعة الأمور، أي إن الأمور لا تكون إلا على هذه الطريقة وهذه الوضعية، وأن هذه هي حقيقة وطبيعة السياسة والحكم والسلطة، ولا تصح جميعها إلا بهذا الأداء والوضع.  الأسوأ من ذلك، حين يتكيف المحكومون والموالون والتابعون والمناصرون وسائر نعوت أفراد القطيع، ويصبح المشهد معتاداً ومألوفاً وطبيعياً عندهم وجزءً من ضرورات حياتهم. أما الأسوأ من ذلك كله على الإطلاق، وهو حاصل بالفعل في لبنان، حين يعارض ويقاوم ويمانع هؤلاء، أي أفراد وجماعات القطيع، تغيير المشهد أو حتى تعديله، ويبذلون أرواحهم وكل ما لديهم لبقائه وديمومته.          

السابق
الكبير روميو لحود الى جنان الخلود
التالي
مفاجأة المونديال.. السعودية تتقدم على الارجنتين!