هل «العونيّة» إضطراب نفسي- ذهني- قيمي؟

غسان صليبي

في نهاية الثمانينات غادر العماد عون مسرعا قصر بعبدا، لاجئاً الى السفارة الفرنسيّة، بعد قصف السوريين القصر الرئاسي بالطيران، بمباركة أميركية. وادى ذلك الى هيمنة النظام السوري على لبنان لنحو خمس عشرة سنة إضافية. بعد يومين يغادر الرئيس عون قصر بعبدا في نهاية ثمانياته، على مهل ومحاطا بمؤيديه، بعدما وقّع إتفاقية الترسيم مع إسرائيل، وبمباركة أميركيّة أيضًا. وقد ضمنت هذه الاتفاقية استحواذ “حزب الله” على النفوذ الإقتصادي الى جانب النفوذ العسكري والسياسي في لبنان، ربما لأكثر من خمس عشرة سنة مقبلة.

في الحالة الأولى، رحل مهزومًا. وفي الحالة الثانية يرحل مدّعيًا تحقيق “انتصار تاريخي”. لكنه في الحالتين ترك وراءه بلدًا شبه محتل تتراكم فيه الأزمات السياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة. في المرحلة الاولى، فضّل ان يوقِع البلاد تحت الهيمنة السورية، على ان يوقّع هو اتفاق الطائف. في المرحلة الثانية وقّع اتفاقية الترسيم مع إسرائيل، موقِعا البلاد تحت هيمنة “حزب الله” وإيران شبه الكاملة.

لم يحصل في تاريخ لبنان أن ارتبط إسم مسؤول سياسي بذكرى حربين قبل الطائف، وذكرى انهيار وطن بعد الطائف. كأن الخراب يلاحق الرجل ويرافقه اينما حل ومهما فعل. عندما كنّا نتناقش، مجموعة أصدقاء، حول الطريقة التي يرسل بها “حزب الله” تعليماته الى عون، كنت أجيب ان الحزب لا يحتاج الى إرسال تعليمات الى عون، كما يفعل مع باقي حلفائه. فعون يخرّب دون تعليمات، وهذا أقصى ما يتمنّاه “حزب الله” الذي بنى سلطته الأمنيّة والسياسيّة والإقتصاديّة البديلة، على خراب البلاد، على هذه المستويات كافة.

لم يحصل في تاريخ لبنان أن ارتبط إسم مسؤول سياسي بذكرى حربين قبل الطائف وذكرى انهيار وطن بعد الطائف كأن الخراب يلاحق الرجل ويرافقه اينما حل ومهما فعل

بهذا المعنى، عون “ممانع” بطبيعته، يمانع تطبيق الطائف، يمانع اشتغال المؤسسات الدستوريّة من خلال التعطيل او التعدي على الصلاحيات. وهو في علاقة عداوة مع الجميع، مع بري والحريري وميقاتي وجعجع وفرنجية وجنبلاط، مع السياديين والمستقلين والتغييريين، وسابقا مع الانتفاضة. اي مع الاطراف الرئيسيين كافة في البلاد، ما عدا “حزب الله”. فـ”حزب الله” عرف تمامًا ما يطمح اليه الرجل، فقدّم اليه رئاسة الجمهوريّة والى اتباعه المواقع، بشرط طبعًا ان يتنازل عون للحزب عن الواقع في مجمله. فمعادلة “تفاهم مار مخايل”- واني اكرر ما سبق وقلته- كانت باختصار: الواقع لـ”حزب الله” والمواقع لـ”التيار الوطني الحر”.

سعى كثيرون لفهم سلوكيات العماد عون ودوافعه. البعض رأى فيها نتيجة اضطراب نفسي، بحجّة ان الرجل كان يعاني من مشكلات نفسيّة ويخضع للعلاج. البعض الآخر اعتبر ان عون يعي تمامًا ما يفعله، وهو يسعى بكل تصميم وتخطيط لتأمين مصالحه ومصالح عائلته عبر خداع جمهوره من خلال خطاب ديماغوجي، يقول فيه للشعب ما يشتهي هذا الشعب سماعه، محرّكًا لديه نقمته على هذا الزعيم أو ذاك، هذا الطرف أو ذاك، مرفقًا حملاته بمبادئ ومثاليات تجعله قيّمًا ورقيبًا على سلوكيات الآخرين.

عزّز هذا التفسير الأخير، مواقف وسلوكيات صهره جبران باسيل، الذي رأّسَهُ عون على “التيار الوطني الحر”. فتصرفات باسيل سعيًا وراء مصالحه على حساب المصلحة العامة فاقعة، الى درجة انه أصبح الشخصية الأكثر مكروهيّة للشعب اللبناني، وهذا ما عبّرت عنه إنتفاضة 17 تشرين، وما لا يزال يعبّر عنه معظم الشعب اللبناني إزاء كل تصريح يطلقه باسيل أو تصرّف يقوم به. حتى ان الكثير من العونيين استاؤوا من تصرّفاته وتركوا “التيار” أو طُرِدوا منه. لكن الجميع بقي يفرِّق بين عون وباسيل منزّهًا عون عن كل تصرفات باسيل السيئة. فكان الرد من عون نفسه، إذ صرّح ان باسيل هو “تلميذه”.

الارتباك الأكبر عند العونيين جاء نتيجة التناقض في مواقف عون وسلوكياته. هو ضدّ الإقطاع ومع العائليّة. هو مع العلمانيّة وفي الوقت نفسه يحرِّض طائفيًّا ومذهبيًّا. هو مع الدولة ويترك “الدويلة” تسيطر على الدولة. هو ضد النظام السوري و”حزب الله” ويتحالف معهما في إطار محور “الممانعة”. هو ضدّ سلاح الميليشيات ومع سلاح “حزب الله”. هو “قوي” ويخضع كلّيًّا لمشيئة “حزب الله”. هو مع استقلاليّة القضاء ولا يوقّع التشكيلات القضائيّة ويتدخّل في شؤون القضاء ولا سيما في قضيّة تفجير المرفأ، الى ما هنالك من مواقف وتصرفات متناقضة. ما يدفع الى التساؤل بسخرية، ما اذا كان عون عونياً.

من أين يأتي كل هذا التناقض؟ الذين هم ضد عون يتّفقون على انه “انتهازي” و”مصلحجي”، يغيّر في مواقفه بحسب الظروف وبما تقتضيه مصلحته ومصلحة صهره وعائلته وحاشيته. لكن ماذا عن تفسير العونيين لهذه التناقضات الفاقعة؟

يبدو للكثيرين ان العونيين لا يلحظون التناقضات، لذلك درجوا على القول “لا تناقش عونيًّا”. اختبرت شخصيًّا هذا “القصور” الذهني عند بعض العونيين. من الأمثلة التي يمكن ان اعطيها، اني سألت مرة عونيًّا متّزنًا عقليًّا من حيث الظاهر، كيف يمكن لتيار ينادي في نصوصه بالعلمانية، التحالف مع حزب ديني مثل “حزب الله”، وظننت اني “أفحمته” بسؤالي. لكن العوني أجابني بسرعة وبكل ثقة: “حزب الله مع الدولة المدنيّة”. واضح أن صاحبنا لم يلحظ التناقض الذي أشرت اليه. هل المسألة هي مجرد “قصور ذهني” معمّم بهذا الشكل على العونيين؟

إقرأ ايضاً: أبو فاضل لـ«جنوبية»: عهد الأنا والصهر وتأليه الذات دمر المؤسسات !

يقول شاب عوني في تسجيل مصوَّر: “ما حدا بيعرف ميشال عون، ما حدا بيعرف ميشال عون شو بدّو، ما حدا قادر، حتى المآمنين بميشال عون ما بيعرفوا قد ربع ما لازم يعرفوا، ميشال عون أكبر بكتير من اننا نعرفوا، شو بدّو، شو كان هدفه، شو بدّو يحقّق، ميشال عون اسطورة… نحنا ما حدا…ما حدا بحقّلوا يعطي رأيه فيه، ميشال عون بدّو لبنان، مين عمل متل ما عمل ميشال عون؟”.

عندما تنظر الى هذا الشاب العوني وهو يتكلّم، ترى في عينيه الصدق والتأثُّر والحرص على إقناع من يستمع اليه. ينطلق الشاب العوني من مسلّمة، ان لا أحد يعرف ماذا يريد ميشال عون، ما هي أهدافه وما الذي يريد تحقيقه، أي هو يقر بأن هناك أشياء غير مفهومة في مواقف ميشال عون وسلوكياته. لكنّه بدل ان يحاول ان يفهم او ان يلحظ تناقضًا فيها، يعتبر ان ميشال عون أكبر بكثير من ان نعرفه. هذا التأليه لعون يلقى تفسيره سريعًا بالدونيّة التي ينظر من خلالها هذا الشاب الى نفسه: “نحنا ما حدا…ما حدا بحقللوا يعطي رأيه بميشال عون”.

هذا الشاب العوني يعيش عقدة نقص تمنعه حتى من الافتراض انه يحق له إبداء رأيه في ميشال عون، أو حتى الإعتقاد بأنه يمكنه ان يعرف ميشال عون، “هذه الأسطورة” كما قال. دون ان يعلم بالطبع ان كلمة اسطورة تعني في القاموس: “خرافة، حديث ملفق لا اصل له”.

لأن ما قاله هذا الشاب يمكن ان تسمعه من الكثير من العونيين الذي شكّلوا في فترة زمنيّة غير بعيدة، الأغلبيّة الساحقة عند المسيحيين، لا أعتقد انه يمكن الإكتفاء، لفهم الظاهرة العونيّة، بالقول بأن العونيين يعانون جميعهم من عقدة نقص. اني أفترض ان أسباب الظاهرة العونيّة تتجاوز ما يمكن ان نسميه بالاضطرابات النفسيّة والذهنيّة عند العونيين، لتطال مشكلة سوسيولوجية مجتمعية، كان يعاني منها معظم المسيحيين في نهاية الحرب وما بعد الطائف مباشرة، وهي خسارتهم لهذه الحرب وللمواقع الدستوريّة التي كانت مخصّصة لهم قبل الطائف، وما رافق ذلك من تناقص مستمر في عددهم.

في 30 تشرين الأول 2022 يخرج ميشال عون من قصر بعبدا فهل يخرج معه ما تبقّى من “العونيّة” من عقول بعض المسيحيين قبل ان يخرج من تبقى من المسيحيين من لبنان؟

ادّت هذه المعاناة على ما اعتقد، الى اضطراب في القيم التي يحملونها، والتي لم تستقر على حال، وهي تتأرجح، بل تخلط عشوائيا، بين تصوراتهم للبنان الأمس ولبنان اليوم ولدورهم فيه. بين لبنان “المارونية السياسية” التي تحكم بفوقية ثقافية علمانية غربية، ومن خلال اشتغال المؤسسات الدستورية، ولبنان “الشيعية السياسية” التي تحكم بفوقية عسكرية- دينية ذات مرجعية إيرانية، ومن خلال تعطيل المؤسسات الدستورية. ولا يمكن ان ينتج من ذلك سوى هجانة في القيم وفي الفكر، وتناقضات في المواقف والسلوكيات، عبّر عنها أفضل تعبير “التيار العوني” في فترة تمثيله لأغلبية المسيحيين.

تراجعت “العونيّة” في الوسط المسيحي في السنوات القليلة الماضية، إلاّ انها لا تزال حيّة، رغم ما تسببت به من مآسٍ للبنانيين عامةً وللمسيحين بشكل خاص. في 30 تشرين الأول 2022 يخرج ميشال عون من قصر بعبدا. فهل يخرج معه، ما تبقّى من “العونيّة” من عقول بعض المسيحيين، قبل ان يخرج من تبقى من المسيحيين من لبنان؟ السؤال مشروع بعد ترسيم الحدود مع إسرائيل، الذي حصّن مواقع عون وباسيل من خلال تقوية وتوسيع دائرة هيمنة “حزب الله” على لبنان.

السابق
أبو فاضل لـ«جنوبية»: عهد الأنا والصهر وتأليه الذات دمر المؤسسات !
التالي
رحيل عون..هل يردد اللبنانيون مقولة صفير «كابوس وإنزاح»؟!