حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الحرب أولها كلام.. وأواخرها أوهام

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

لم تبدأ الحرب الاهلية في لبنان، سنة ١٩٧٥ ولا هي انطلقت، بما اصطلح على ان بدايتها كانت الكمين الذي تعرضت له بوسطة عين الرمانة، كما انها لم تبدأ بحادثة اغتيال الشهيد معروف سعد قبل أكثر من شهرين من حادثة البوسطة، اثناء اشكال بين الجيش اللبناني ومظاهرة لصيادي الاسماك في صيدا، خرجوا يعترضون على قيام شركة صيد اسماك، تدعى “بروتيين” كانت ستحتكر جنى البحر وتهدد ارزاقهم…
الحرب اللبنانية بدأت في نهاية ايار ١٩٧٣ بعد حدوث تطورين بالغي الدلالة؛ الاول حادثة اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة كمال عدوان وكمال ناصر وابو يوسف النجار، في شارع فردان في بيروت، من قبل فرقة كوماندوس اسرائيلية، بقيادة ايهود باراك الذي غدا فيما بعد، رئيسا لوزراء اسرائيل، وقد ادت تداعيات الاغتيال بتاريخ ١٠ نيسان ١٩٧٣، الى انكشاف عجز السلطة اللبنانية وقواها الامنية وجيشها عن حماية العاصمة وقاطنيها، وسمحت الازمة السياسية التي اندلعت بسبب الهجوم الاسرائيلي، سمحت واوجدت الذريعة لتمركز قوات فلسطينية نظامية مقاتلة، في مخيمات بيروت وفي مكاتب المنظمات الفلسطينية على اطراف المخيمات…

كانت الحادثة الاولى ولادة للحادثة الثانية، حيث عمدت قيادة الجيش اللبناني، بعد اشكالات متفرقة بين الجيش والفدائيين في ذلك الوقت، لمحاولة اقتحام مخيمات بيروت بعد تطويقها ودفع ارتال دبابات وآليات للدخول اليها، وذلك بتاريخ ٢ ايار ١٩٧٣، وقد فوجئ الجيش اللبناني بحجم المواجهة على تخوم المخيمات، وتم احباط كل محاولات تقدمه او خرقه للدفاعات التي جعلت دخوله المخيمات امرا عصيا…

وقد توجهت هذه المواجهة باتفاقية “ملكارت” التي اتت لتوسع نطاق اتفاقية القاهرة، وتعطي المنظمات الفلسطينية مزيدا من حرية الحركة والانتشار.
وبمعزل عن الأزمة السياسية والانقسام الاهلي،١ الذي ساد تلك المرحلة والاجواء التي اكتنفتها، لم يصل لبنان الى نهاية ايار من تلك السنة، حتى اتجهت كل القوى السياسية اللبنانية، وخاصة احزاب اليمين التي كونت “الجبهة اللبنانية” لاحقا، الى اتخاذ قرارات التحضير للحرب، وتأمين استيراد السلاح واقامة معسكرات التدريب، وتشكيل الميليشيات، وتعبئة الطاقات من اجل حرب قادمة لا محالة.

اما احزاب اليسار والحركة الوطنية فقد استندت في رحلتها الى الحرب المتوقعة، الى دعم عربي من ليبيا والعراق وسورية، والى امداد لوجستي وتقني من المنظمات الفلسطينية المختلفة.

كلام الحرب بدأ على جبهة احزاب الحركة الوطنية والفصائل الفلسطينية، باعتبار لبنان قاعدة ارتكازية لحرب الشعب العربية من اجل تحرير فلسطين

والحرب أولها كلام، وكلام الحرب بدأ على جبهة احزاب الحركة الوطنية والفصائل الفلسطينية، باعتبار لبنان قاعدة ارتكازية لحرب الشعب العربية من اجل تحرير فلسطين، بعد تشكيل الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية، او ما اطلق عليه لاحقا من اعتبار لبنان “هانوي العرب”.

اما على الجبهة المقابلة فقد كان الشعار يقول ” لبنان للبنانيين، احبه او غادره” والشعار هنا الذي يبدأ بامر بديهي هو لبنان للبنانيين، لم يقصد تأكيد ما هو مؤكد، بل كان يفسره شعارٌ آخر اقترن به يقول “لن يبقى١١١١ فلسطيني على ارض لبنان” لكن كلام الحرب لم يكن فقط ضد كل ما هو فلسطيني، بل ضد كل لبناني يظهر من اختبار لبنانيته وتفحصها، انه منتقص الهوية والانتماء، او قليل الوفاء للبنان، وهذه النواقص قد تكون انحيازا الى مشروع الوحدة العربية، او التعاطف مع احزاب قومية كالناصرية والبعث، او تبني عقيدة الامة السورية، او الانتماء لليسار الدولي، والمنظومة الاشتراكية في حينها، كما كان يحلو للشيخ بيار الجميل ان يتحدث عنها، كان يكفي الارتياب بوجود احد هذه الاعراض في فساد لبنانية مواطن ما، او شريحة سياسية او اجتماعية، حتى يكون الحكم عليها بعدم حب لبنان، والعمل على طردها خارج كيان لبناني متجدد، يكون نقي الهوية والانتماء و صافي العواطف والاحاسيس.

وانطلاقا من ذلك طور الراحل بشير الجميل مقولته الشهيرة عن سقوط الصيغة اللبنانية، او بمعنى آخر سقوط العيش المشترك الاسلامي المسيحي، حين ردد في مناسبات عديدة ما معناه ” ان الصيغة اللبنانية سقطت في لبنان، الذي هو بزعمه ملجأ حرية للاقليات في الشرق، ومبرر وجوده ان يضمن حقوقهم، سقطت الصيغة اللبنانية حين تم تهميش وقمع اقليات العراق ومصر وسورية، وحين انتقصت حقوق هذه الأقليات وأدوارها بالمشاركة السياسية في سلطات بلادها.

وانطلاقا من هذه المعطيات طرحت وتم التداول بمشاريع التقسيم والفدرالية وتم استحضار النموذج السويسري لقيام كانتونات لبنانية تدير تعددا طائفيا موجودا، واثنيا مزعوما، كما تم تدارس خرائط للبنان مفترض، على الورق تارة وعلى ارض المعارك تارة اخرى، بحيث يقتطع منه مناطق في الاطراف، ويجري تطهير مناطق اخرى في القلب والوسط.

وبمعزل عن محاولة اعادة التاريخ او تلفيقه، وهو امر تتم ممارسته في لبنان بشكل متكرر، من قبل اطراف سياسية واحزاب مختلفة، لا لخلل في المعلومات او تضارب في الوقائع، بل لاستحضار التاريخ كشاهد زور على فعل سياسي راهن ودعوة تحريضية متجددة.

تكررت الدعوة الى انفراط عقد الشراكة الاسلامية المسيحية مرة اخرى بعد احداث الجبل المؤلمة سنة ١٩٨٣

تكررت الدعوة الى انفراط عقد الشراكة الاسلامية المسيحية مرة اخرى بعد احداث الجبل المؤلمة سنة ١٩٨٣، كما بعد استتباب السيطرة لنظام الاسد في لبنان، انطلاقا من منتصف ثمانينات القرن الماضي، ورفع شعار “امن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار”، بحيث تم تحديد نطاق هذا المجتمع من كفرشيما الى المدفون.

في المرة الاولى كان تعاطف فئة لبنانية مع قضية فلسطين، وتحالف احزاب يسارية او قومية مع المنظمات الفلسطينية، سببا موجبا من قبل بعض الاحزاب في الشارع المسيحي للدعوة للخروج من الشراكة الاسلامية المسيحية، وللتشكيك بلبنانية هذه الشريحة وانتمائها لوطنها لبنان. في المرة الثانية وبمواجهة وصاية الاسد على لبنان، جرى امر مماثل تماما، فقد اعتبر أصحاب النزعة الانفصالية ان الوصاية السورية تطال حقوق المسيحيين دون غيرهم، وانها تقمع وتستهدف خنق قياداتهم واحزابهم وناشطيهم ونخبهم، وقد فات هؤلاء، او تجاهلوا عمدا، ان القبضة السورية و أساليب القمع والارهاب التي استعملت لتطويع الشارع الاسلامي وقواه السياسية، ونخبه ومؤسساته الاهلية وعائلاته السياسية، كانت اشد قسوة وعنفا، باضعاف مضاعفة في الجانب الاسلامي، مقارنة بالجانب المسيحي.

في كلا الحدثين المفصليين ؛ اي في الصراع مع منظمة التحرير الفلسطينية واخراج قواتها من لبنان، وفي الصراع مع نظام الاسد ورفع الوصاية السورية عن لبنان، طرح اصحاب النزعة الانفصالية المسيحية فك الشراكة بين المسلمين والمسيحيين، وتغيير صيغة العيش المشترك كحل لمعضلة الوجود الفلسطيني اولا ثم كحل لدحر الوصاية السورية والتخلص منها.

وعلى مدى عقود مديدة، كان مطلوبا من مسلمي لبنان ان يدفعوا ثمن الوجود الفلسطيني في مواجهة اسرائيل، دمارا في قراهم وتهجيرا من بيوتهم نتيجة لغارات اسرائيل واعتداءاتها، ثم أن يدفعوا ثمن اجتياح اسرائيل للبنان بذريعة اخراج الفلسطينيين، ثم أن يدفعوا ثمن اخراج اسرائيل من لبنان، وفرض انسحاب جيشها عبر مقاومة اشعلوها، كما كان عليهم ان يدفعوا ثمن مواجهة نظام الاسد منذ دخوله حربا في طرابلس وبيروت وصيدا والبقاع، وثمن اسقاط الوصاية السورية ودحرها قتلا واغتيالا ومواجهات، في لحظات خروجها.

الازمة كل الازمة، هو بسبب وجود اطراف طائفية اسلامية داخل منظومة الحكم تتمثل بحزب الله و بري وجنبلاط والحريري

لم تكن هذه العودة الى الماضي وتذكر لغة الحرب وخطاباتها، واستحضار حماقات مشاريعها ومخططات اطرافها أمرا، ايجابيا مسليا، ولا مطلبا ضروريا، لولا عودة لغة الفدرالية وتبني اعادة النظر بالصيغة اللبنانية وصولا الى العودة لمشاريع التقسيم واعادة النظر بحدود الكيان اللبناني والتلويح بالتخلي عن الشراكة الاسلامية المسيحية عبر شعار جديد هو الطلاق او الفراق.

وهو امر يستعاد طرحه اليوم، كحل يقدم للمواطن المسيحي للخروج من الانهيار الاقتصادي، واطلاق عجلة النهوض الاقتصادي والتصحيح المالي، وكأن الانهيار المالي وفشل الدولة وخراب ادارتها ومؤسساتها وانعدام خدماتها، كان بسبب الشراكة الاسلامية المسيحية، وان الازمة كل الازمة، هو بسبب وجود اطراف طائفية اسلامية داخل منظومة الحكم تتمثل بحزب الله و بري وجنبلاط والحريري، وان الإنفصال عن هؤلاء وحصر تأثيرهم بطوائفهم فقط، سينقذ مسيحيي لبنان وتتم استعادة الدولة والازدهار والتعافي الاقتصادي والمالي.

الحقيقة ان مسؤولية بقية اطراف المنظومة من الاحزاب الطائفية المسيحية، لا تقل قدرا من مسؤولية باقي اطراف المنظومة

لا حدود لتزوير الوقائع، ولتحريف الحقائق وتعميم الخدع، تهربا من المسؤولية وتنصلا من الخضوع للمساءلة والمحاسبة، وطبعا قد يتبادر الى اذهان البعض انني اعفي اطراف المنظومة، من زعماء الاحزاب الطائفية الاسلامية، من مسؤولياتهم او اقلل من اثر حزب الله والنتائج الكارثية لسطوته على قرار لبنان، لكن الحقيقة ان مسؤولية بقية اطراف المنظومة من الاحزاب الطائفية المسيحية، لا تقل قدرا من مسؤولية باقي اطراف المنظومة، واذا كان مطلوبا تقديم ادلة على صحة هذا الامر، فيكفي التذكير بكارثتي الكهرباء والسدود، وتجارة الفيول في وزارة الطاقة، كما يكفي التذكير بكارثة انهيار العملة الوطنية والخسائر في القطاع المصرفي ومصرف لبنان، وهي قطاعات كانت حصرا بادارات مسيحية…

قد تستند الدعوة الى الطلاق او الفدرالية أوحتى التقسيم، الى امكانية ان تكون حلا لمعضلة سلاح حزب الله وتحكمه بقرارات الدولة ومؤسساتها، والى تطويع لبنان لكي يكون جرما في محور الممانعة الذي تقوده ايران، عبر حلف الاقليات التي نظمت عقده طهران، من ناكورني كاراباخ الى الناقورة، وان تمتع حزب الله بقاعدة شيعية صلبة يصعب خرقها، يجعل من الافتراق امرا لا بديل عنه؟!

انحياز اكثرية شيعية وازنة الى تأييد حزب الله، وصلت بعد حرب تموز ٢٠٠٦ الى نسبة ٧٠% ، ثم انخفضت الى حدود ٣٥% في ٢٠٢٢

بهذه الطريقة يتم تحميل الجمهور الشيعي مسؤولية الازمة والانهيار الاقتصادي، ثم مسؤولية انفراط عقد الشراكة الوطنية والعيش المشترك فهل هذه هي الحقيقة؟!

مما لاشك فيه ان انحياز اكثرية شيعية وازنة الى تأييد حزب الله، وصلت بعد حرب تموز ٢٠٠٦ الى نسبة ٧٠% ، ثم انخفضت الى حدود ٣٥% في ٢٠٢٢، لاشك ان ذلك سبب انسدادا سياسيا لبنانيا، لكن هذه الحقيقة لا يمكن ان تخفي حقيقة ثانية، قد تفوقها اهمية وتتقدم عليها اثرا، في احكام قبضة ايران على لبنان واستتباعه، وهو التأييد الواسع الذي منحه الجمهور المسيحي للتيار العوني، والذي وصل ايضا الى نسبة ٧٠% ، سنة ٢٠٠٥ ثم انخفض لاحقا الى ٥٠% في ٢٠٠٩ ليستقر في ٢٠٢٢ عند حدود ٢٥%.

لم يذهب لبنان الى قفص الممانعة ويصبح مرتهنا لاستراتيجيتها، على صهوة حصان منفرد اسمه حزب الله، بل دخلت عربته حلف الاقليات، يجرها حصانان واحد تهتف له الجماهير الشيعية، واخر يهتف له جمهور مسيحي عوني

لم يذهب لبنان الى قفص الممانعة ويصبح مرتهنا لاستراتيجيتها، على صهوة حصان منفرد اسمه حزب الله، بل دخلت عربته حلف الاقليات، يجرها حصانان واحد تهتف له الجماهير الشيعية، واخر يهتف له جمهور مسيحي عوني، ولم تكن الحصة الشيعية في السلطة كافية وحدها لحزب الله، ليستطيع التحكم بالدولة اللبنانية، واشهار سطوة دويلته عليها، لولا وضع الحصة العونية المسيحية في رصيده ودعما لخياراته.

نعم المنظومة بكافة اطرافها مسؤولة عن انهيار الاعمال وقطاعات الانتاج، وعن الفقر والجوع والمرض وانعدام الدواء وانقطاع الخبز والوقود والكهرباء، وانفراط عقد الخدمات في التعليم والصحة والنقل والاستشفاء والادارة والقضاء، المنظومة هي المسؤولة، والحل باسقاطها لا بانفكاك الشراكة الوطنية، وزعزعة اقانيم العيش المشترك، او تهديد وحدة البلاد وسلمها الاهلي.

الفدراليون وانصار الوطن القومي المسيحي موجودون منذ القدم، من حقهم ان يطرحوا افكارهم في بلد ديموقراطي واعلام حر، ما هو مزيف هو ان يقدموا اهواءهم حلا لكل ازمة، اية ازمة، والفدرالية او الطلاق لا تعيد تعافي الاقتصاد، ولا تضعف سطوة حزب الله ولا تستعيد للبنان ازدهارا او نموا مستداما، ولا تردم الفجوة المالية في قطاعه المصرفي او في مصرفه المركزي!

السابق
الوفد اللبناني يرفض الدخول إلى مقر «اليونيفيل» بالناقورة.. بسبب الزوارق الاسرائيلية!
التالي
لعد 12 عاماً من المفاوضات.. توقيع الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل