الترسيم.. بين وهم «المبالغة» وعقم «المزايدة»!

ياسين شبلي

كعادتهم .. إختلف اللبنانيون على جلد الدبّ قبل إصطياده، و” الدبّ ” هنا هو إتفاق ترسيم الحدود البحرية مع العدو الصهيوني قبل أن يوقَّع . البعض الممانع يعتبره إنتصاراً للبنان، ويعزو هذا النصر لموقف المقاومة وتهديداتها ومسيَّراتها،  على عادة هذا البعض في “تجميع” الإنتصارات كهواية، كما كان البعض منا يهوى جمع الطوابع مثلاً أو العملات القديمة. البعض الآخر المعارض للممانعة ولسلاح حزب الله وممارساته ، يعتبره تفريطاً قامت به “العصابة الحاكمة” بتغطية من هذا الحزب لحماية نفسها، وتجديد أوراق إعتمادها لدى أميركا والغرب في ظل “غضب” المجتمع الدولي عليها جراء فجورها، في حقل الفساد الذي أودى بالبلد إلى الهاوية، مستغلة أزمة الوقود وحاجة العالم لحلول بديلة. 

الخلاف اللبناني يتأتى كالعادة، من إختلاف الموقف السياسي لكل طرف، وليس من نظرة موضوعية وواقعية للإتفاق التي تقوم على حسابات الربح والخسارة، جراء موازين القوى على الأرض

من الواضح بأن هذا الخلاف اللبناني يتأتى كالعادة، من إختلاف الموقف السياسي لكل طرف، وليس من نظرة موضوعية وواقعية للإتفاق التي تقوم على حسابات الربح والخسارة، جراء موازين القوى على الأرض، كذلك الوضع الداخلي لكل بلد، كما الوضع الإقليمي والدولي وإتجاهاتهما، إذ أن كل هذه العوامل، تلعب عادة الدور الحاسم في تقرير مصير أي مفاوضات، تحدث بين طرفين متنازعين أو أكثر. المفارقة هنا أن من ينسب “الإنتصار” فقط للمقاومة، عندما يأتي الحديث عن الخط 29 تراه “يتلطى” وراء موقف الدولة، وهو الذي لا يعترف عادة للدولة سوى بإسمها ربما، أما ذاك الذي يعارض عادة سلاح المقاومة، ويقلِّل من تأثيره على القرار الإسرائيلي،  ف “يزايد” على حزب الله بالخط 29، ويتهمه بالتفريط ويجعل من خطابه وسلاحه محط سخرية وكأنه يطالبه بإعلان الحرب، وفي المحصلة فإن المبالغة بإعتبار ما حصل هو إنتصار للبنان، هو بالضبط  ك”المزايدة” بالخط 29 في هذه الظروف، لا يوصلان إلى شيء بإستثناء ربما ” التمريك ” السياسي المتبادل.

لولا فساد هذه العصابة بكافة مكوناتها  ما كنا لنصل إلى هذا الدرك والهوان بحيث نرى في التنازل عن حقوقنا “نصراً”

فالنظر بموضوعية ولو نسبية إلى الموضوع، يوصلنا إلى أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، في ظل حكم هذه “العصابة” والظروف الداخلية اللبنانية المهترئة – ومن كان ينتظر شيئاً أكثر من هذه العصابة، هو بلا شك ساذج سياسياً –  وفي ظل موازين القوى على الأرض، مترافقة مع الضغط الخارجي أولاً، وتقاطع المصالح اللبنانية – الإسرئيلية – الدولية لأول مرة على الحل ثانياً، وهذا ما قد يكون من حسن حظ لبنان، وإلا لكانت الأمور إتخذت منحىً آخر، وهنا فقط يمكن القول بأن سلاح المقاومة، كان له دور ربما في تقليل الخسائر لا أكثر ولا أقل، وبهذا يكون لبنان قد حصل على “نصف إنتصار” بحصوله على جزء من حقوقه، إذا أصرينا على الحديث عنه والتلطي وراء ” إنتصارات “، ويكون العدو قد حصل على “إنتصار ونصف”، على إعتبار أن العدو ليس لديه ما يخسره، فالأرض في النهاية أرضنا والمياه مياهنا، وكل ما يحصل عليه العدو هو من لحمنا الحي كلبنانيين وفلسطينيين وعرب. قد يعتقد البعض بأننا نبرِّر ل “العصابة الحاكمة” عندنا تصرفها هذا، وقد يعتقد البعض الآخر بأننا إنهزاميون نرضى بالفتات، ونرتضي التخلي عن بعض الحقوق مقابل بعضها الآخر، والحقيقة بأن ما نقوله هو أكبر إدانة لهذه العصابة، التي سرقتنا في البر وباعتنا في البحر، ليصح فيها تسمية “العصابة البرمائية”، فلولا فساد هذه العصابة بكافة مكوناتها  السياسية والإقتصادية والقضائية والإعلامية، وحتى الدينية والشعبية بغالبية المنتمين إليها، كي لا نعمم، التي حولت اللبنانيين إلى متسولين للمال والخبز والدواء والوقود والهجرة، ولو عبر قوارب هي أشبه بنعوش، ما كنا لنصل إلى هذا الدرك والهوان، بحيث نرى في التنازل عن حقوقنا “نصراً”.

كل ذلك حصل ويحصل في ظل شعارات رنانة طنانة عن المقاومة والممانعة والصمود والتصدي، والصبر والبصيرة من جهة ، وشعارات أخرى عن إستعادة حقوق طائفة من هنا ومذهب من هناك من جهة أخرى، وشعارات عن السيادة والحرية والعدل والمساواة من جهة ثالثة

ولولا هذه  العصابة التي هي في الحقيقة، وفي نظرة عميقة للواقع المعاش، لا تختلف عن عصابة الصهاينة، فهي تستبيح الأرض والحقوق في البر والبحر، وتنتهك الكرامات وتتعامل مع شعبها كما تتعامل العصابة الصهيونية مع الفلسطينيين وربما أسوأ، لولاها لما كنا نبدو إنهزاميين نرضى بأقل من حقوقنا كاملة، ونرى في المطالبة بهذه  الحقوق “مزايدة” ، لو كنا نعيش في دولة طبيعية لها سيادتها وهيبتها، في ظل سلطة شعبية منتخبة بقانون طبيعي وليس بهجين ومفصل على مقاس أفراد العصابة، ما كنا لنستكين ونرى في كل أمر يحصل وهو أقل من طبيعي، نرى فيه إنتصاراً لنغطي فشلنا، ونعتِّم على حدود طموحنا، الذي بات في أدنى مستوياته.لقد قتلت فينا هذه العصابة كل حس بالطموح والتقدم والمنافسة، مع الشعوب الأخرى المجاورة منها والبعيدة، قتلت فينا كل إحساس بالتميز، وبتنا شعباً، إما يعيش الوهم عبر المبالغة في تشخيص الواقع، أو اللامبالاة عبر السخرية من أنفسنا والتنمر عليها وكلا الموقفين عقيم، كل ذلك حصل ويحصل في ظل شعارات رنانة طنانة عن المقاومة والممانعة،  والصمود والتصدي، والصبر والبصيرة، من جهة ، وشعارات أخرى عن إستعادة حقوق طائفة من هنا ومذهب من هناك من جهة أخرى، وشعارات عن السيادة والحرية والعدل والمساواة من جهة ثالثة، تخاض تحت لافتاتها المعارك السياسية الضارية، طمعاً بوزارة من هنا أو حصة من هناك. لذلك نقول بأنه إن كان هناك من “نصر” فهو بالتأكيد للعصابة الحاكمة، التي ترى في هذا الترسيم “إكسيراً” يمدها بغاز الأوكسيجين، كي تجدد نشاطها وتستعيد حيويتها وتعيد تأهيل نفسها، لذلك ترى المطبلين لهذا النصر هم أنصار هذه العصابة الصغار، الذي يأكلون من مالها ويتكلمون بلسانها، ويضربون بسيفها، بالتواطؤ مع إعلام هو جزء لا يتجزأ من هذه العصابة. 

المواطن العادي البسيط  فهو كما كان دائماً الغائب الأكبر، هو واقع بين مطرقة العصابة الصهيونية وسندان العصابة المحلية

أما المواطن العادي البسيط  فهو كما كان دائماً الغائب الأكبر، هو واقع بين مطرقة العصابة الصهيونية وسندان العصابة المحلية، ولم يعد لديه ما يخسره على أية حال، وبات الأمر عنده سيَّان، سواء تم إستخراج الغاز أم لا، ما دام لن يكون له من هذه الثروة نصيب، وقد يكون كل ما يعنيه من الأمر ربما، هو إبعاد شبح الحرب عنه، ولو  في الفترة الحالية على الأقل. وقد يكون هذا هو ” النصر ” الذي يتحدثون عنه ويمِنِّون على الناس به ويريدون لها أن تقيم الإحتفالات والأفراح والليالي الملاح إبتهاجاً، وتسجد لهم حمداً وشكورا على هذا الإنجاز العظيم، مثلهم مثل ذلك الحارس الذي إنتهت مدة خدمته، فقامت إبنته بترويع البلدة حتى يعود إلى عمله، وذلك في فيلم “بنت الحارس” لفيروز ونصري شمس الدين والأخوين رحباني، الذي عُرض أواخر ستينيات القرن الماضي ، ويبدو أن عرض “الفيلم” لا يزال مستمراً.    

    إقرأ أيضاً : «مرحلة حرجة».. موقف أميركي بخصوص مفاوضات الترسيم!

السابق
هذا ما سجّله دولار «صيرفة»
التالي
بعد أن لامس الـ 40 ألف ليرة.. كيف أقفل الدولار؟