في مدرسة هاني فحص

هاني فحص

تعرفت على السيد هاني فحص الكاتب والاديب من خلال مقالاته وبعض كتبه التي كنت احصل عليها من بعض الاصدقاء يوم كنت التهم كل كتاب او مقال يقع تحت عيني لندرة الكتب آنذاك واقتصار ما هو متوفر منها على المتن الديني، ورغم ان الكاتب الذي بدأت أقرأ له يقبع تحت عمامة سوداء ويلتحف العباءة العربية الا ان ما يكتبه لامس شغاف القلب والعقل معاً.
اصبحت اقرأ كل ما يصلني من كتاباته وكان ذلك في منتصف تسعينيات القرن الماضي لحد ان التقيت به وجهاً لوجه في المؤتمر العالمي للشهيد محمد باقر الصدر الذي اقيم في طهران نهاية التسعينات على ما اتذكر، وكنت يومها اصغر باحث يشارك في المؤتمر بدراسة عن صاحب المناسبة.

عقل أبيض يقبع تحت عمامة سوداء، مدني بعقل متدين، عراقي بجنسية لبنانية، اسلامي دون ان يكون ضمن خانة الاسلام السياسي، سياسي بلا حزب، براغماتي بلا مصالح، غني بلا ثروة، وعاشق بلا سرب نساء


عرفني اليه سماحة الشيخ محمد باقر الناصري رحمه الله قائلاً :-
السيد مجاهد الجابري نجل الشهيد ابوالهيل الجابري.
بصوته الأخاذ اجاب :-
انا اعشق أسرة الجابري من أجل السيد مسلم الجابري لكني أكره مسلم الجابري،(وكان مازحاً بهذه الجملة) .
كانت هذه أول مفارقة اسمعها من السيد هاني فحص رجل المفارقات الجميلة التي كانت السمة الأوفر حظاً في شخصيته كما يبدو لي على الاقل .
عقل أبيض يقبع تحت عمامة سوداء، مدني بعقل متدين، عراقي بجنسية لبنانية، اسلامي دون ان يكون ضمن خانة الاسلام السياسي، سياسي بلا حزب، براغماتي بلا مصالح، غني بلا ثروة، وعاشق بلا سرب نساء.
هكذا بدت لي شخصيته المركبة بعد ان توطدت علاقتي به بعد عودتنا لبغداد إبان سقوط النظام الديكتاتوري سنة 2003.

كان يأوي الى بغداد كلما سنحت له الفرصة مشاركاً في مناسباتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، وبحكم درجة القربى التي نشأت بيننا كان سماحة السيد يجد بي الاقرب إليه في تلك المناسبات كوني انتمي الى نفس البيئة الدينية والاجتماعية التي ينحدر منها قلبه وعقله، كما كنت سريع النفوذ اليهما.

قرأت له نصاً شعرياً بنبرة لا تخلو من الخوف لكوني أمام إسم ادبي ومعرفي كبير فباغتني باعتراف ظل يسقيني ثقة طوال مسيرتي الشعرية


أتذكر مرة كان يشارك في أسبوع المدى الثقافي ببغداد بحضور مام جلال الطالباني رئيس الجمهورية آنذاك وبعد انتهاء الكلمات الرسمية كانت فقرة الغناء العراقي من نصيب طائر الجنوب الفنان حسين نعمة، همس بأذني سماحة السيد هاني فحص طالباً مني أن أخرج معه الى باحة المسرح الوطني احتراماً لعمامته ومراعاة للنسق الحوزوي الذي يمنع جلوس رجل الدين في وصلة غنائية، قلت له مازحًا:-
سيدنا ليش تحرمني من شجن حسين نعمة وصوته العذب .
قال لي بنبرة لا تخلو من مزاح :-
ما انت راح تسمعه من بره القاعة.
حدثني في كافتريا المسرح عن ذكرياته في بغداد يوم كان يتسلل اليها خلسة من النجف الاشرف في ايام العطل متنكراً بزي مدني لحضور مسرحية او مشاهدة فيلم سينمائي.

مرة كنت ازوره في بيت الاستاذ فخري كريم ببغداد وطلب مني أن أقرأ له بعض قصائدي، قرأت له نصاً شعرياً بنبرة لا تخلو من الخوف لكوني أمام إسم ادبي ومعرفي كبير، فباغتني باعتراف ظل يسقيني ثقة طوال مسيرتي الشعرية.
قال لي “لولا خجلي من اصدقائي فلان وفلان لقلت لك انت أشعر منهما، لكن أرجوك أن لا تنقلها عني الا بعد وفاتي”.

برحيل العلامة السيد هاني فحص تطوي الحوزة العلمية واحدة من آخر صفحاتها المنفتحة على العالم الخارج عن أروقتها وازقتها وأعواد منابرها

بعد وفاته استفقنا على خلو مقعد العلامة هاني فحص من الصف المدرسي اللبنابي في حوزة النجف الاشرف الذي تخرج منه مع دفعه من ألمع طلاب الحوزة العلمية وعلمائها ومفكريها فيما بعد من الطلبة اللبنانيين الذي شكلوا علامات فارقة في المشهد الديني والمعرفي والادبي، كالمفكر والشاعر السيد محمد حسن الامين والعلامة السيد محمد حسين فضل الله والمفكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين وآخرين.
برحيل العلامة السيد هاني فحص تطوي الحوزة العلمية واحدة من آخر صفحاتها المنفتحة على العالم الخارج عن أروقتها وازقتها وأعواد منابرها، لا لكونه يحمل عقلاً مختلفاً عن السائد بين طلبة العلوم الدينية فحسب، انما لكونه ينتمي الى جيل تكّون بطريقة صحيحة من الصعب ان يتكرر، فقد استطاع السيد فحص وجيله تجسيد شخصية الداعية الانساني بكل ما تنطوي عليه القيم المعرفية والاجتماعية والدينية، فالدين في رأس هاني فحص يتحرك دون كوابح، والدعوة اليه لا تأتي من التزمت والطقوس الجامدة انما من الديناميكية التي لا حدود لها على الاطلاق.

رحل العلامة هاني فحص ولحق به بعد سنوات العلامة محمد حسن الامين بعد ان سبقهما فقيها الانفتاح السيد فضل الله والشيخ شمس الدين، كل منهم ترك فراغاً شاسعاً لا يشغله بديل عنهم لا في النجف ولا ببيروت


رحل العلامة هاني فحص ولحق به بعد سنوات العلامة محمد حسن الامين بعد ان سبقهما فقيها الانفتاح السيد فضل الله والشيخ شمس الدين، كل منهم ترك فراغاً شاسعاً لا يشغله بديل عنهم لا في النجف ولا ببيروت التي قدموا منها حاسري الرؤوس ليعودوا اليها برؤوس ممتلئة بالعلم والمعرفة وعمائم المحبة والسلام.

* كاتب وشاعر عراقي

إقرأ أيضاً : درباس يستذكر عبر «جنوبية» السيد هاني فحص: صندوق من ذهب وصاحب نكتة باقٍ «مثل العطر»

السابق
خاص «جنوبية» : اهالي من ضحايا المرفأ «ينتفضون» على مجلس.. «يفتقر للنصاب القانوني»!
التالي
التداول على «صيرفة» بواكب جنون الدولار