وداعا سيدي هاني

هاني فحص اسماعيل فقيه

تعرفتُ على الراحل السيد هاني فحص قبل أكثر من ثلاثة عقود خلت. واللقاء الأول الذي جمعنا كان في منزله في قريته جبشيت، وكان اللقاء مع سماحته يندرج ضمن برنامج حوارات صحافية مع رجال فكر وأدب وشعر، تواليتُ على اجرائها للصفحة الثقافية في جريدة النهار، حيث كنتُ أعمل وأكتب.

وللحوار مع سماحته ما كان ليتم لولا إصرار الاستاذ الكبير الصحافي الراحل غسان تويني على محاورة السيد فحص. واذكر جيداً في ذلك اليوم المميز في عملي ومهنتي الصحافية،حيث استدعاني أستاذي غسان تويني الى مكتبه، وطلب مني وأثنى على ضرورة الحوار مع المفكر هاني فحص، خصوصاً بعدما كنتُ استضفتُ في صفحات “النهار” أغلب الشخصيات الفكرية والأدبية.

بين موعدي اللقاء لقاء التعارف ولقاء الوداع مسافة عمر طافحة بالأمل والعلم والمعرفة قضيتُ قسما منها وبعضها على الهاتف (نتهاتف) بحوار وجوار سماحته

وفي صباح يوم صيفي ١٩٩٢ قصدتُ الراحل في بيته الريفي في قرية حبشيت،بعد موعد مسبق معه.. وصلتُ الى بيته،وكان بانتظاري يجلس على “البرندا” الأرضية، يتصفح جرائد وصحف اليوم..سلام وكلام وتحايا تبادلناها، وبادر سماحته على الفور بطلب سماع أسئلتي الصحافية.

وكان له ما طلب.سألته، كيف تُعرّف نفسك اليوم، بعد هذه الحياة بتجاربها الطيبة والمضنية، هل تغيّر التعريف؟
أذكر جيداً أنه لم يسمح لي باستكمال السؤال حتى بادرني بالجواب:”أنا ابن هذه التربة ابن تلك الأرض المثمرة. ان تكويني ينبثق من عادات الشجر والزهور. أنا عشبة بين تلك الاعشاب، على صدر الارض.وأقول، إن هذه الأرض عشّبتها وهي عشّبتني أيضاً”.

هكذا كان السيد هاني، متواضعاً الى حد التماهي مع عناصر الطبيعة والحياة، لا يحتاح لمساعدة من أحد، سوى الحاجة للأرض وما تحمله في أحشائها من ذخيرة وعي وأمل وحياة للإنسان.

إقرأ ايضاً: هاني فحص في ذكراه..عشِق الثورات ونَاصر حُرية الشعوب بقلمه وفكره

قبيل وفاته بأشهر معدودة، التقيتُ،صدفةً، بالراحل، وكان ذلك اللقاء في نهاية شارع الحمراء في بيروت، حيث كان يهم بالخروج من سيارته ليدخل في مكتب “الطيران” لحجز تذكرة سفر ، فبادرني بصوته المنخفض جداً، لكنني تنبّهتُ ودنوت منه، وسرعان ما ضحك وعاجلني بكلام استفساري، (بدأ الشّيب يغزوك يا شاعرنا الأشقر)، وكرّت ضحكته المعهودة..

أذكرُ وأتذكّرُ جيداً وبفرح وغبطة، بدايات التعارف مع سماحته، كما تخنقني الحسرة كلما تذكرتُ اللقاء الأخير معه الذي كان بمثابة اللقاء الأخير أو لقاء الوداع.

كان السيد هاني متواضعاً الى حد التماهي مع عناصر الطبيعة والحياة لا يحتاح لمساعدة من أحد سوى الحاجة للأرض وما تحمله في أحشائها من ذخيرة وعي وأمل وحياة للإنسان

بين موعدي اللقاء، لقاء التعارف ولقاء الوداع، مسافة عمر طافحة بالأمل والعلم والمعرفة قضيتُ قسما منها، وبعضها على الهاتف (نتهاتف)، بحوار وجوار سماحته، وكان خير دليل للمعرفة والعلم..
وداعاً سيدي هاني.

السابق
هاني فحص في ذكراه..عشِق الثورات ونَاصر حُرية الشعوب بقلمه وفكره
التالي
معارضون سوريون يخشون «صفقة» بين تركيا ونظام الأسد!