وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: رئاسة الجمهورية وخيارات حزب الله الضيقة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

من الواضح أن حزب الله لم ولن يعتمد مرشحاً معيناً لرئاسة الجمهورية المقبلة، على الرغم من توفر لائحة مرشحين جاهزين وغب الطلب. سبب هذا التريث معرفته بأن تجربته السابقة في فرض مرشحه ميشال عون، بمنطق إما ميشال عون رئيساً أو لا أحد، لن يتمكن من ممارستها هذه المرة بفرض مرشحه الحليف أو التابع له، بل لعله لن يفكر بالمغامرة بتكرار هذه التجربة لعدة أسباب:

أولها، تغير المزاج المسيحي تجاه جميع حلفاء حزب الله المسيحيين، ما جعلهم فاقدي عمقهم المجتمعي وشعبيتهم داخل مجالهم المسيحي، أي أصبحوا مرفوضين مسيحياً. ما يعني أن فرض الحزب لأي مرشح حليف أو تابع له، سيُفهم على أنه اعتداء على القرار المسيحي، وإنتهاك للميثاقية التي كان حزب الله يستند إليها في الإتيان بعون رئيساً لجهة كونه الأكثر شعبية مارونيا والأقوى مسيحياً. أما وقد أظهرت الإنتخابات أن الأقوى مسيحياً والأكثر شعبية مارونياً، هو في المقلب الآخر المعادي، وهو سمير جعجع، فإن الميثاقية التي كان الحزب يتحجج بها لم تعد في صالحه، وسيسعى للإتيان بمعيار جديد مختلف، تجعله يقبل برئيس تسوية أو محايد، لا الرئيس الأكثر تمثيلا وشعبية.
ثانيها، أن حزب الله يتحمل الجزء الأكبر من وزر انهيار الدولة وبؤس الحياة والكوارث الاقتصادية، التي نجمت جميعها عن رئاسة عون التي استمر حزب الله بتغطيتها وحمايتها، والتي يجمع الجميع في الوقت نفسه على أنها أسوأ تجربة في تاريخ لبنان. كان يمكن للحزب أن يكرر فرض مرشحه لو نجحت تجربة حكم عون، أما وقد باءت وبالاً وخراباً على لبنان، فإن هاجس حزب الله الحالي هو امتصاص تداعيات الكارثة، التهرب من مسؤوليتها، والتبرؤ ضمنا من أداء عون وصهره.

فرض الحزب لأي مرشح حليف أو تابع له، سيُفهم على أنه اعتداء على القرار المسيحي، وإنتهاك للميثاقية

كارثية تجربة عون، والنقمة الشعبية المتنامية ضد حزب الله بسبب نتائج هذه التجربة، وضعت الحزب في موقع الضعيف معنوياً وشعبياً وحتى سياسياً، على الرغم تمتعه بقوة ساحقة وحيازته لليد الأمنية العليا في لبنان. هي وضعية لم يعد بطش السلاح قابلاً للاستعمال أو التوظيف الداخلي، أو حتى اعتماده ورقة ضغط وعنصر ترجيح ودعم لموقفه السياسي في الداخل. فحزب الله حريص على صورته وفكرته وجدواه وشرعيته، بنفس درجة وقوة حرصه على بناء وتطوير ترسانته العسكرية. لأنه يعلم أن أي سلاح أو قوة إكراه تحتاج إلى عمق اجتماعي، وإلى اعتراف بدور هذا السلاح وإقرار بوظيفته. إعتراف لا يقتصر على مجال حزب الله الشيعي، لأنه بذلك يكون سلاح غلبة وتهديد من طائفة لطائفة أخرى، بل لا بد أن يتخذ قبولاً ورضى عاماً داخل مكونات المجتمع اللبناني، ليحظى بالشرعية السياسية الكافية لوضعية سلاحه ونشاطاته العسكرية والأمنية.

حزب الله حريص على صورته وفكرته وجدواه وشرعيته، بنفس درجة وقوة حرصه على بناء وتطوير ترسانته العسكرية

الشرعية، هذه الكلمة التي يكرهها حزب الله، ومع ذلك هو بحاجة إليها، لأنها الكلمة المفتاح التي تنقل سلاحه من سلاح احتلال أو غلبة أو خارج على القانون، إلى سلاح معترف به وطنياً وغير ملاحق دولياً. إنها كلمة لا يستطيع تجاهلها أو الاستغناء عنها، لأنها بمثابة الخط الفاصل بين اعتبار سلاحه سلاح إرهاب واعتباره سلاح مقاومة. إنها كلمة (أي الشرعية) تلاحق حزب الله باستمرار وتقض مضجعه مهما تضخمت ترسانته وتماسك تنظيمه وتوحد الشيعة حوله، بل مهما أكد الوهية مهمته وقداستها. إنها الخاصرة الموجعة لهذا الحزب، رغم عنفوان خطابه وثقته المفطرة بالنفس، لأنه لا يستطيع السيطرة عليها (أي الشرعية) أو امتلاكها أو التحكم بتقلباتها.

الشرعية، هذه الكلمة التي يكرهها حزب الله، ومع ذلك هو بحاجة إليها، لأنها الكلمة المفتاح التي تنقل سلاحه من سلاح احتلال أو غلبة أو خارج على القانون، إلى سلاح معترف به وطنياً وغير ملاحق دولياً

إنها باختصار، أي الشرعية، نقطة ضعف حزب الله، لأنه لا يستطيع منحها لنفسه بنفسه، ولا يمكن لجمهوره وحده أن يمنحه إياها، أو أن ينتزعها بواسطة سلاحه، بل لا بد من كسبها بالسياسة والتحالفات والتسويات. ما يجعل الشرعية السياسية، بمثابة المنطقة الوحيدة التي يمكن لخصوم الحزب خلق توازن في القوة والفاعلية بينهم وبينه، والمنطقة الوحيدة التي يخضع فيها الحزب لضغوط أو حصار أو حتى ابتزاز، وترغمه على القبول بتسويات من أجل الحصول على اللقب الذهبي والكلمة السحرية: الشرعية.

لبنان مع انتهاء عهد عون في حالة سقوط مروع لم يصل إلى القاع بعد، وعرضة لتفكك اجتماعي وفلتان أمني مخيف

ثالثها، أن لبنان مع انتهاء عهد عون في حالة سقوط مروع لم يصل إلى القاع بعد، وعرضة لتفكك اجتماعي وفلتان أمني مخيف. هي وضعية ستزداد سوء وكارثية مع مجيء رئيس جديد برعاية حزب الله، لأن ذلك يسد على لبنان منافذ وموجبات الخلاص التي تبين أنها أكبر بكثير من قدرات الحزب وإمكاناته، بل هي أكبر من قدرات دولة الولي الفقيه نفسها، ولم يعد لبنان قادراً على تأمينها بنفسه من دون الدعم والتمويل الخارجيين.

إنها معادلة صعبة تضع حزب الله أمام خيارين مؤلمين لا ثالث لهما: إما فرض مرشحه، بالتالي تعريض لبنان لانهيار شامل وانسداد أفق لأي انفراج اقتصادي، فضلاً عن عقوبات وحصار محتملين عليه وعلى لبنان. هو خيار لا يبدو أن حزب الله قادراً على تحمل تبعاته وتداعياته. وإما إفساح المجال لمجيء رئيس على مسافة من الجميع في الداخل، وفي الوقت نفسه بحظى بقبول وتأييد دوائر القرار الدولي، التي في مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية. هو خيار لا يرتاح له حزب الله لكنه هذه المرة مرغم على السير به، لأن البديل عن هذا الخيار هو الكارثة الكبرى التي تشله وتشل قاعدته.

لم تعد معركة الرئاسة المقبلة مشكلة مواصفات أو كفاءات معينة، بقدر ما هي مشكلة دور ومُهمَّة

لم تعد معركة الرئاسة المقبلة مشكلة مواصفات أو كفاءات معينة، أي ليست مشكلة متعلقة بشخص الرئيس مهما كانت خصائصه وتمايزاته، ولم تعد مشكلة برنامح ورؤى، بقدر ما هي مشكلة دور ومُهمَّة، قضية قيادة قادرة على:

إنهاء وضعية وصاية مبطنة، تفكيك شبكة سلطة رديفة ومنافسة للسلطة الشرعية، وتغيير مسار سياسي أخذ يتحول إلى عُرف وثابتة من ثوابت السياسة اللبنانية، بأن حزب الله صاحب الكلمة الأخيرة في تقرير مجريات الحياة السياسية في لبنان.

السابق
ارتفاع اضافي للدولار الاسود.. كم سجل صباحاً؟
التالي
أماني الحنطي ضيف شرف الأبواب السبعة