رحلة الموت.. من جنازة مهيبة إلى تشييع «أونلاين»!

كان المرحوم الحاج أسعد الشيخ علي (الحاج اسعد محمد عيد) معروفا في الضيعة بفراسته، قوي البنية، زنده من فولاذ وقلبه من اسد، صاحب صوت جهوري وعيون تقدح. وكان معروفا باهتمامه في شؤون كثيرة تحدث في الضيعة وليس اقلها أنه مكان مايسترو جنازاتها.

كان فاره القامة، تراه يرتفع عن مستوى رؤوس المشيعين بحوالي نصف متر مما يجعله مثل الرادار يسجل كل حركة تصدر عن المشاركين في الجنازة. اتذكره حين كان يصرخ بالناس أن “وحدوه” فيرد المشيعون وراءه بصوت واحد أن لا إله إلا الله، حتى الكفرة منهم كانوا يوحدونه ليس إيمانا بالله بل خوفا منه ومن نظرات عينيه الجارحتين التي كانتا تراقب كل حركة.

كان الموت مهيبا في تلك الايام يمر ثقيلا، يهز كينونة القرية البسيطة، يعطل الحياة فيها، يشد عضد أهلها كأنهم يتحدون ضده


كان الموت مهيبا في تلك الايام يمر ثقيلا، يهز كينونة القرية البسيطة، يعطل الحياة فيها، يشد عضد أهلها كأنهم يتحدون ضده، ومن دون اعلان تحل الهدنة بين المتخاصمين ويسود الحداد، كأنه السكون يغلف فضاء الضيعة ليحميها من المجهول . ومتى حل ترتسم الدهشة على الوجوه، فالحياة هي القاعدة وهو الاستثناء. كنا في شبابنا نعتقد أننا خلقنا لكي نعيش أما عندما يدب الشيب في الرؤوس ننتبه متأخرين إلى أننا جئنا إلى هذه الفانية لنموت. في الشتاء عندما “تفتح التربة”، كما كان يقول كبارنا، وينشط عزرائيل (وهو ناشط وله اتباع) في قبض أرواح الكبار منا، كنا نشعر بقلق الناس وخوفهم، بغيمة سوداء مشكلة من الغيب والاسرار تلبد الاجواء، واذا خطف الموت طفلا عزيزا كانت روحه ترجع متقمصة في طير غريب “مرسل” يحوم حول بيت الاهل عساه يشد انتباههم ويساعدهم على تحمل الحزن وآلام الفراق. كنا نستأنس بوجوده ويسكننا الفقد عندما يغادر.

نحن قوم نعالج حزننا بساعته بصراخ النسوة علنا وبكاء الرجال سرا في الليالي وبطقوس نتوارثها جيلا بعد جيل. كان الموت مسألة اجتماعية عامة تهم الجميع فيتحد الناس مع أهل الفقيد لمواجهته بالحداد التام والتضامن ومساعدة اهل الفقيد في اعمال الموسم كالحصاد وقطف اوراق التبغ وتحضير الطعام لهم والامتناع عن سماع الموسيقى ودق اللحمة ونشر الغسيل الابيض أو فعل أي أمر يخدش مشاعر أهل الميت. كانت النسوة يلبسن الاسود ويشحرن او ينيلن وجوههن وكن يسكبن الماء أمام أبواب بيوتهن عندما تمر الجنازة امامها اعتقادا منهن أن ذلك يبعد الموت عن ديارهن. كان الموت ثقيلا في تلك الايام اما اليوم فالموت يتساوى مع الحياة، يمر بنا كل يوم، يخطف منا أصحابا واخوة ورفاقا وخلانا وجيرانا.

تحولت الجنازة إلى روتين محسوب بالدقائق والكلام والمال. غاب المشيعون عن المشهد

تحول الفيسبوك إلى جنازة يومية، إلى مقبرة-مجزرة. كانت الجنازات قوافل مهيبة يشارك فيها كل الناس تحمل الميت معززا مكرما إلى مثواه الاخير. كانت النسوة يسبقن الرجال إلى المقبرة لوداع الاحبة، وبقدرة قادر فقدن هذا الحق. اليوم تحول دفن الميت إلى صناعة لها أهلها و”البوكلين” حل مكان من كانوا “يؤاجرون” يحفر القبر ويهيل التراب فوق الميت بدقيقتين وينتهي الأمر هكذا. كأننا يا صديقي الكريم لم نعد نملك الوقت الكافي للوداع. تحولت الجنازة إلى روتين محسوب بالدقائق والكلام والمال. غاب المشيعون عن المشهد. أصبحنا نشيع امواتنا “اونلاين”، من بيوتنا نرسل لارواحهم سلاما عبر شاشة “جلتينة” تصلنا بعالم غير متصالح مع حاله.

إقرأ أيضاً: «حزب الله» في كليمنصو .. وهذا ما يجمعه بوليد جنبلاط!

السابق
«حزب الله» في كليمنصو .. وهذا ما يجمعه بوليد جنبلاط!
التالي
تجنباً لانقطاع المحروقات.. نفّذوا الوعود!