في ذكرى رحيله الـ 14.. «جنوبية» ينشر«الحوار الأخير» مع الشاعر محمود درويش!

في هذه الجلسة كان محمود درويش يقول لي:لا أثق بقلبي وقد يخذلني ويتوقّف في أي لحظة.(وكان يستعد للذّهاب الى أميركا لإجراء عملية جراحية لقلبه)وبالفعل خذله قلبه أثناء هذه العملية الجراحية وفارق الحياة شاعرنا الحبيب.


في هذا الحوار الذي أجريته مع درويش تحدث كثيراً عن قلبه وعن الشعر والقصيدة التي حاول من خلالها إطالة عمر قلبه.
الشّاعر محمود درويش في الذّكرى 14 لرحيله، يحضر قصيدة غياب لا تغيب، عبر استذكار حوار قديم معه.
محمود درويش (13. 3. 1941 – 9. 8. 2008).
في مرآة الكلام والإنتظار: الحضور في فم الغياب .. المدينة الّتي تطلّ على بحر الزّمان
تأتي الذكرى السنوية الرابعة عشرة لرحيل الشاعر محمود درويش (توفي في 9 اغسطس 2008)، ويحضر الشاعر الغائب أكثر، وتفتح الذاكرة باب صورها التي ما زالت تحتفظ بذكرى أيام وقصائد عاشها وكتبها الراحل. ذاكرة مليئة بالحياة والعيش والألم، وفيها تكمن أسرار الشاعر أكثر. ذكرى لا يمكن أن تكون إلّا مرآة تعكس صورة الغائب، تستحضره وتجعله أكثر حضوراً وأكثر تألّقاً، أليست القصيدة هي المُناسبة التي تستحضر شاعرها أينما كان وأينما غاب؟ ومحمود درويش الذي ابتعد بجسده وغابت ملامحه، بقيت قصيدته وأشعاره وكتاباته تستحضره، تستحضر أطيافه، تستحضر علامات وإشارات أحزانه وأفراحه وألمه وتعبه وعاطفته وعشقه. يحضر الشّاعر أكثر في ذكرى غيابه، وتتجمّع الذاكرة وتحتشد، تفتح صور الخيال والوقع الذي كان والذي عاشه الشّاعر.

حديث الشّاعر كان صريحاً وربّماً أليماً لكنّه أعطى الصُّورة الحقيقيّة للمشهد المُستتر


شاعر من طراز درويش لا يمكن استذكاره دون المرور على تاريخٍ بأكمله، تاريخ حياة وشعب وناس، تاريخ الألم والمعاناة، تاريخ الوعي الذي أسّس لحضور الغياب على أكمل وجه. وكم ردّد الشّاعر كلمة الغياب في أشعاره، وكم كان الحضور قاسياً في قصيدته. وما زالت قصيدته، بعد غيابه، تستحضر هذا الغياب، وتتوغّل أكثر في هذا الحضور، الحضور الذي أراده الشّاعر مناسبته اليومية في مساحة حياته التي عبرت.
قبل رحيله بعدّة أشهر، التقيت بصديقي الشّاعر الراحل محمود درويش وأجريت معه حواراً مُطوَّلاً، تناول فيه الكثير من شؤون الحياة ومراراتها، وكان على إحاطة واسعة بأمور غريبة وشديدة الحذر: الظروف التي كانت والتي عبرت والتي لم تعبر، كلّها كانت في أجوبته الطّليقة، في كلامه الهاديء الأنيق .
حديث الشّاعر كان صريحاً وربّماً أليماً، لكنّه أعطى الصُّورة الحقيقيّة للمشهد المُستتر، وكشف عن ظهر قلب لون الوردة المُشتهاة. كان بليغاً في توصيف ما يرى ويشعر ويحس، كان بسيطاً في عاطفته، يقول كل ما يجيش في روحه وقلبه، ولم يتوقَّف عن سرد الحضور والغياب، سرد المشهد اليومي لحياة الإنسان الذي عرفه ويعرفه وسيعرفه. كان يتحدَّث بلغة مفعمة بالنّبرة الصَّافية الَّتي تستحضر كلّ الشّجون وكلّ الأمل، ولا تستثني التّعب الذي حلّ بالحياة وناسها في لحظة أكبر من الحياة نفسها.


اليوم، وفي ذكرى الغياب، رجعتُ إلى ما قاله الرّاحل فوجدت أنه خير ما أستهلّ به الكتابة في ذكرى مرور وحضور، ذكرى غياب شاعر التراب. فرجعتُ الى “الكاسيت” التي سجّلت فيه الحديث مع شاعرنا الغائب، وكنتُ أستمع الى كلامه بإصغاء غريب، كأنّني أسمعُ صوت الميّت في عزّ موته، فكان لا بدّ لي، وربّما من واجبي إعادة هذا الكلام المُسجّل إلى مكانه المُعلن، إلى كل من يُريد أن يسمع ويقرأ ما قاله الشَّاعر، آخر ما قاله قبل أن يذهب ولا يعود. إنّه الحديث الأخير للراحل، فهل كان من حسن حظّي أن أحظى بهذا اللِّقاء مع شاعرٍ اسمه محمود درويش؟

إنّه الحوار الأخير الذي تفوّه به الشّاعر.. انّه حوار الإعتراف والشّوق والكلام المُخملي


إنّه الحوار الأخير الذي تفوّه به الشّاعر. انّه حوار الإعتراف والشّوق والكلام المُخملي الذي يُزين العين والقلب ويدفِّئ الرّوح. قال الراحل كلماته الأخيرة ومضى إلى غيابه، وكان لا بد لي من تدوين هذا الكلام وهذا الإعتراف، وحفظه عن ظهر قلب، ليكون مادّة الحضور الذي دأب الشاعر على تحقيقه في كلّ لحظة عاشها وفي كلّ كلمة كتبها وفي كل قصيدة تحرّكت في روحه.
غياب محمود درويش عن مسرح الحياة يشكِّل خسارة كبيرة للحياة نفسها، ليس لأنه شاعر يمتلك الإيقاع النابض في مساحة الأيام التي أسَّست لخصوصية في الشاعرية فحسب، إنما لأنه أيضاً أعطى لهذه الحياة معنى جديداً، جذبها وأخذها إلى علوٍ يمكن النظر عبره إلى كلِّ التفاصيل والمعاني التي تتشكَّل في حوض الوجود.


موت الشاعر كان متوقّعاً للبعض وخصوصاً للذين يعرفون حقيقة مرضه وحقيقة الخلل الذي أصاب قلبه. وكاتب هذه السطور يعرف عن كثب حقيقة القلب الذي عانى معه الرَّاحل. هذا الموت التّراجيدي الذي خطف أنفاس شاعرٍ حاول مقاومة الموت بكل ما أوتي من حياة وشعر وأمل. كاتب هذه السطور يسير على نفس الدرب الذي ساره الغائب، درب الألم الذي حلّ بليغاً في القلب، القلب الذي فقد نصف عناصره الطّبيعية وبات يعمل وفق نشاط صناعي مُركّب. ربما لأنني أعيش نفس الحالة الصّحية المُتعلقة بمشاكل القلب، (كلانا فقدنا الشّريان الأبهر للقلب). لذلك عرفنا كيف نجلس إلى قبالة بعضنا ونتحدَّث في لحظة حاسمة وكأنّها الزّمن الأخير الذي نلتقي على مفارقه وتقاطعاته الكثيرة.
في آخر لقاء معه، كان يزور بيروت لإحياء أمسية شعرية ضمن معرض الكتاب العربي الدولي. لكن الأمسية لم تتم، فقد اعتذر وقتذاك درويش بسبب الحزن الذي أصابه جراء الأوضاع الأمنية التي كانت تعصف ببيروت.

حب بيروت يشبه حب الحياة والحياة جزء من بيروت وبيروت جزء من الحياة. ستبقى هذه المدينة مرآة صافية مهما عصف الزّمن وناسه في مساحتها الواسعة في إطارها اللّامحدود

التقيته في الفندق واستمر اللقاء أكثر من ساعة. وكنت اتفقتُ مع أحد المصورين على التقاط صور له، لكنه أبدى انزعاجه وقال «لا أحب الصّور»، إلّا أنّه عاد ووافق بناء على إلحاحي. وعند خروج المُصور، شعرت بأنّه استعاد ذاته وتغيّر نبض الكلام في حنجرته. وكأنّه أخذ جرعة وعي ويقظة ساعدته على القول المباشر والصّريح ـ وفي ما يأتي وقائع الحوار:

ـــــــــ كيف ترى بيروت اليوم، كيف تفسر شعورك الآن نحو هذه المدينة التي عشت فيها كثيراً ثم غادرتها مكرهاً أثناء الاجتياح الاسرائيلي العام 1982 وها أنت تعيش في المنافي، وتتحرّك وفق برنامج زمني متقطع، لا يُساعدكَ على التناغم مع مساحة المكان والحياة؟
ـــــــــــ بيروت اليوم مدينة تتألم وتتنهد بحسرة كبيرة، تغوص في ذاتها وتغرق، ترسم حضورها في مساحة الغياب وتحضر أكثر، ترفع مرايا الحضور والغياب وتستمر في بوحها وطربها ولغتها، إنها المدينة التي أعطتنا منديلها الجميل وألبستنا معطفها الدافئ، وأخذتنا إلى ذواتنا أكثر وأكثر ولم تتركنا أبداً رغم بعد المسافة الفاصلة، رغم جغرافيا الغياب والتَّشرُّد والهجير، تركناها بأجسادنا فقط ، وها أنا اليوم، كما في السابق أحمل حريتها في قلبي. شعوري اليوم نحو بيروت شعور تعب وعذاب، أتعذّب لعذابها وأتعب حين أراها في مدار الجنون والموت. شعوري الآن هو تمنيات لعودتها إلى سابق حريتها، إلى مجدها الضَّائع في دهاليز الزَّمن الظَّالم.

بيروت لا تغيب عن مساحة وجـودنا وهي نكهة في فم الوقت تعطيه طعماً يداوم في الشهيّة. الحديث عن بيروت طويل كتاريخها الذي لا ينتهي بانتهاء الكلام


قلت انني أعيش اليوم في المنافي، وهذا صحيح، لم يعد المنفى مساحة محدودة الجغرافيا، وها هو الزمن يدخل في مساحة هذه الجغرافيا ويجعلنا نخرج في كل الاتجاهات، نتوزّع ونتشظَّى ونفترق ونتلاقى ونتسرّب، كأن الذين أرادوا لنا هذا التخبُّط، أرادوا أن نبقى خارج الكادر، خارج مفهوم الوطن. من داخل هذه المنافي، أرى بيروت بكــــلِّ عزيمــــتها، وهي حاجة للشــــــعر، بيروت لا تغيب عن مساحة وجـودنا وهي نكهة في فم الوقت تعطيه طعماً يداوم في الشهيّة. الحديث عن بيروت طويل كتاريخها الذي لا ينتهي بانتهاء الكلام

ــــــ هل ترغب أو تحب العيش مُجدَّداً في بيروت؟
ــــــــــ العيش في بيروت اليوم له مذاق الزّمن الطّيب وله نكهة السّعادة. الكلام عن هذه المدينة يُساعد على الأمل والإقتراب من الحنين الدافئ للروح والقلب، فكيف لو كان المشهد داخل هذا الجوهر العبقري الذي تأنّث وتمّ تسميته بيروت. نعم، إنني أعيش دائماً في بيروت وأنا خارج بيروت، لا يمكنني مغادرة هذه المدينة، وأطيافها هي مساحة الإقامة المستمرة، هي المساحة التي لا تتوقّف.
الرّغبة كما الحب نفسه، ورغبة العيش في بيروت هي نفسها الحالة، حالة حب العيش في هذه العاصمة التي تختصر مدائح البحر . ستظلّ بيروت مدينتنا الوارفة على ظلّ الياسمين، تُعانق البحر والغياب، ونبقى نحن على موعد يومي معها. حب بيروت يشبه حب الحياة والحياة جزء من بيروت وبيروت جزء من الحياة. ستبقى هذه المدينة مرآة صافية مهما عصف الزّمن وناسه في مساحتها الواسعة، في إطارها اللّامحدود.

المكان هو اللغة التي يمكن العيش فيها والدخول أكثر إلى حيث يكمن الوضوح وتصعد الرؤيا


ــــ في برهة وكأنها جاءت من الغيب أو ولدت من رحم غريب غرائبيّ : وقفَ الشاعر محمود درويش فجأةً، نهضَ عن الكنبة التي يُجالسني بها، انتصب ثم تقدّمَ إلى النَّافذة المُطلَّة على المدينة، على شارع الحمراء، نظرَ جليّاً وكثيراً إلى أبعد حدود ما يرى من مكانه، ثم التفتَ إليَّ وكأنّه يريد أن يعترف أو يطرح سؤالاً. أصغيتُ إليه بانتباهٍ شديد، وبعد أن قلتُ له:
قلّ ما تريد أن تقوله إني أرى الكلام يخرج من عينيك قبل فمك ولسانك؟
قال: أرى ما أريد وأريد أكثر ممّا أرى.
ــــــــــ قال بنبرةٍ هادئة جداً: هذه النافذة التي تطلّ على نهر الزّمان هي نفسها التي كانت تحت مرفقي في مساحة الغياب التي عشتها. هذا الشّارع الذي يحمل اسم (شارع الحمراء) هو جزء من مدينة ساحرة ، مدينة تولد في كل لحظة وتقول ما يشتهي البحر والقبطان. هذا الشارع هو رحيق الحياة ، وهو الوردة التي قالت مدائح البحر وعذاب الجمال. وكنتُ كلما أرى وأتحسّس هذا المكان الهائل، أجدُ نفسي وكأنّي في طريق العودة إلى مكاني الأصل. كانت بيروت مدينة الخطوات الثابتة، وكان هذا الشارع رحيق هذه الخطوات، فكيف يمكنني القول أو التعبير عن ماضٍ عشته على رصيف هذا الإنتظار الجميل ؟ كيف لي أن أصف المكان الذي أرخى بظلّه على حياتنا فأعطاها مشهد اللّهب الذي يمدّ الحياة بالطّاقة التي تشدُّنا إلى الأمل والحياة والحرية؟
ــــــــــ أضاف الشاعر كلمات كثيرة على جوابه، وبقيتُ صامتاً أُصغي إليه : المكان هو اللغة التي يمكن العيش فيها والدخول أكثر إلى حيث يكمن الوضوح وتصعد الرؤيا. المكان هو غرام الإنسان وهو الملاذ الأهم الذي يعطي الطمأنينة، وفي بيروت تتراءى عناصر هذا المشهد الحقيقي، وداخل هذا المشهد أرى المشهد الأكبر، مشهد المكان الأصل الذي سُرِقَ من أفواهنا ومن بطون أمّهاتنا وعرق آبائنا. إنّه المكان الذي يرسم خطوط الطّول وخطوط العرض على ساحل وجودنا.

القلب لا يمكن أن يخضع لغير نداء الشعر، ومهما تعاظم التعب ومهما فعل المرض بشرايين القلب تبقى القصيدة هي النبض الحقيقي الذي يبعد المرض ويحوله إلى طاقة هائلة


في هذه اللحظة التي تبدو مثل جنّة على وجه الغمام، أرى بلادي تقترب وأرى بيروت تشدُّني إلى بلادي وتعطيني مساحة الخطوة الثابتة المُتّجهة إلى أعماقنا، إلى حيث تولد الشجرة الثّريّة بثمار الحياة، إلى حيث ينزل القمر إلى بيتنا ويرسم صوف الدِّفء والحنان.
ـــــ ثم انتقلت معه للحديث في أمور أخرى، فحاولت تجاوز الخطوط الحمر في حياته الشَّخصيّة. سألته عن قلبه وعن حال نبضه، فتغيّرت تقاسيم وجهه، تفاجأ بسؤالي وقال : لماذا الآن حديث القلب؟ قلتُ له: لأن قلبكَ أصابه ما أصاب وطنك. قلبكَ كبير ولكنّه مُتعب، فهل يستطيع أن يحمل كلّ هذا التّعب وكلّ هذا الغياب الذي يحاصره؟
ــــــــــ أجاب بكلام يشبه اللّهفة ويتجاوز معنى الألم: مازلت أقاوم الموت، انتصرت عليه في مراحل سابقة وربّما هزمته، وسأظلّ في هذه المكانة حتى تستقر إقامتي داخل هذه المواجهة. العمليات الجراحيّة التي أجريتها لقلبي كانت بداية المواجهة، ولم ينجح الموت، أثناء هذه العمليات وبعدها، في إيقاف نبض القلب. عاد القلب إلى الخفقان واستمرّت الحياة في داخلي. الشِّعر هو الذي قاد قلبي إلى الخفقان، وهو الذي دعم أوقاتي وجعلها حصناً في مواجهة الموت. الشِّعر الذي رسم حدود حياتي هو قوّة الإرادة لمواجهة قوَّة الموت واندفاعه باتجاهي.
وأضاف بكلامه قائلاً : هزمتك يا موت، والقلب لا يمكن أن يخضع لغير نداء الشعر، ومهما تعاظم التعب، ومهما فعل المرض بشرايين القلب تبقى القصيدة هي النبض الحقيقي الذي يبعد المرض ويحوله إلى طاقة هائلة.
القلب الذي يخفق في داخلي هو الألم الذي يرسم إيقاع اللحظة التي تمتدُّ على طول الزمن وعرضه، ألم يرفع منسوب الحضور ويُعجّل بنغم العيش.

الخوف من الموت كحالة بيولوجية لا تخيفني أبداً والموت كحالة غياب مؤثرة في الذات هي التي تشكِّل لي نوعاً من الرّهبة القاسية


رغم صموده الهائل في وجه الموت لم يخَف درويش خوفاً في داخله، “إذا جاء يوم وتفاقم وضعي الصحّي واختل جسدي أو أصابته نكسة أو تشوُّه، أرفض العيش في حالة كهذه، ومن الآن أطلب تنفيذ هذه الوصية”. ( كان واضحاً أنّه يعيش قلقاً كبيراً، قلق الحياة والموت معاً).
حين كان يتحدَّث، بقلق، عن خلل محتمل في الجسد، شعرتُ بأن الشاعر يسعى إلى اتفاق مع الحياة، كأنّه يطالبها بأن تعطيه الأمان لقلبه كي يستمر، واذا لم توافق، فإنّه يسعى إلى اتفاق آخر ولكن مع الموت. وربّما يكون تواطَأ مع الموت حين أوصى بأن تنزعَ عنه أجهزة التنفس اذا دخل في حالةِ موتٍ سريري.
ـــــ هل تخاف من الموت؟
ــــــــــ الموت لا يخيف، ولكن لا بدَّ من القول أن الإنسان يرهبه الموت في مختلف الظروف والأحوال، فهو الفناء الذي لا يمكن تقبله ، لا يمكن للعقل تقبله رغم حقيقته الساطعة وحتميّته، لذلك أراني أعيش في مساحة خاصة بي، مساحة تدلُّني على الكثير من أمور الخوف والطّمانينة في آن واحد. الخوف من الموت كحالة بيولوجية لا تخيفني أبداً، والموت كحالة غياب مؤثرة في الذات هي التي تشكِّل لي نوعاً من الرّهبة القاسية (إذا جاز التَّعبير والوصف).
ـــــــــ أضاف الشّاعر الكثير الكثير على كلام الموت، وأصغيتُ إليه أكثر وأكثر وأكثر : الموت له مذاق الألم والتعب والجنون، وحين يكون الموت في المساحة التي نحياها، وفي جسد الآخر الذي تعشقه وتعيش في كنفه وحضنه، وحين يكون في عيون الذين لم يعرفوا بعد أنهم على سكّة الحياة، وحين يكون في قلب الوعي الإنساني، وحين يكون في متناول الرُّوح الَّتي تأخذ منها نشيد روحك، فهذا يعني أنّه موت رهيب، مؤلم يلقّنكَ درس الحياة عن كثب ويأخذك أكثر إلى الجوّانية الحياتيّة الّتي هي بالأساس منطق حياة ووعي واستمرارية. يؤلمني مشهد الموت الممتد على ساحل إقامتنا، وعلى تلال وجبال وقمم أيامنا. موت الآخر الذي يُشاركك الحياة هو ذروة الألم الذي لا يمكن اعتباره مساراً في المساحة الطبيعية، بقدر ما هو نشاط فظيع لكل من يرى ويتحسَّس هذا الفناء العظيم ويعرف أنّه على درب هذا الفناء وينتظره على مفترق الحياة. الموت ليس أغنية حزينة تساعدنا على ابتكار الكلام الذي قد يُخفّف من وطأة هذا الألم، إنّما الموت هو سؤال الوعي الكبير الذي كلّما طرحناه، زادت حسراتنا ودخلنا في المساحة الحرجة الّتي تشدّنا أكثر وأكثر إلى ملكوت الحزن.

إقرأ أيضاً : غياب راقصة الفرح أوليفيا نيوتن جون.. ألهبت واستراحت!


ــــ انتقلت إلى كلام آخر من نوع مُغاير للموت وسألته: ماذا تكتب اليوم، ما هي المواضيع الّتي تفجّر الشِّعر في كيانك؟
قال: الموت هو الهاجس الذي أكتبه اليوم، لكنه هاجس لا يخيفني، إنّه هاجس مفتوح على قلق الشِّعر، واللُّغة كفيلة بفتح كهوف هذا الهاجس على مداه، ليُخرج الأسود والعتمة وكل ما في الدَّاخل، داخل هذا الكهف الكبير، الممتلئ بالجنون والقهر والمآسي.
ــــ ثم سألته مُجدداً ، ماذا تكتب اليوم، ماذا تُحاول القول في لحظة تعبر وكأنّها تهرب إلى أبعد المكان والزّمان. هل استطعت القبض على لحظة هاربة، هل استطاعت قصيدتك ملاقاة الوعي الآخر الذي يتربّصك، هل قالت لك الكلمات والحروف سرّها التالي؟
ــــــــ قال الشاعر والبهجة عامرة في كلامه : الكتابة التي تعيش في داخلي هي دائماً على الموعد، موعد مع الحضور وموعد مع الغياب، ولا تتوقّف عن الموعد المستمرّ. إن ما أكتبه اليوم وربّما في هذه اللّحظة بالذّات هو قرار اتخذته الآن أيضاً، قرار الحضور والدّخول الى أبعد، إلى المساحة الّتي تبدو مستقرّة ، لكنها حتماً هي غير مستقرّة وتُساهم في محو ذاتها وتشغيل محتواها وفق أصول الحضور والغياب. بكلام آخر أقول، اللحظة التي تشدّني إلى يقظتها العارمة هي نفسها اللغة التي أكتبها وتكتبني، وكلّما توغّلت أكثر في مسار هذا الشّوق الهائل، مسار الخوف الباهظ الذي يعطي الرّوح كلّ هذا القلق وكلّ هذه الطمانينة، أجدُ نفسي في دوّامة كبيرة وتكاد تكون عنيفة، دوّامة ترسم خيوط الحياة على شبكة حياتي. الكتابة التي تحرِّضني على الحياة هي كلّ هذا الفعل وهي كلّ هذا النّشاط العارم في يقظتي وغفوتي وسهوتي.

الغياب، يرسم الطّريق الصَّافية والوعرة في آن معاً يرسم مشهد الحياة الّتي نعيشها ونحن في زحمة تأوّهاتنا وزحمة انتظاراتنا


ـــــ بكلامكَ هذا تُذكّرني بما قلتَه يوماً في إحدى قصائدكَ ” أنت العبد والمعبود والمعبد، فمتى تشهد؟” هل ترى وتشعر وتتحسّس كل هذا الإندماج والتماهي الوجودي، وهل كلّ هذا الغياب حاضر داخل قصيدتك وتالياً ، أنت شاعر يقرأ سيرة الغياب قبل عبوره، قبل حلول هذا الغياب وعبوره إلى حيث لا نعلم ؟
ــــــــ سؤال خطير تطرحه يا صديقي وعليّ أن أكون عل أهبة الحركة والنَّشاط في مساحة التنقّل بين حروف هذا الكلام. ولا أقول أكثر من أنني ألمح صوت الغياب، وأتحسّس طعم الجريمة القادمة، وأستمع إلى تقاسيم الصَّمت الذي يتأسّس منه كل هذا الغياب.
ــــ الغياب وكلمة الغياب حاضرة بقوة وبقسوة داخل قصيدتك وفي مساحة كلامك الآخر، كأنّك تراقب هذا الغياب خطوة خطوة وشهقة شهقة وحسرة حسرة، لُهاثكَ هائل وأنت تذكر هذا الغياب، ما سرّ هذا النّشاط (الإنتحاري) في كلام الغياب الّذي يردِّده شاعر التّراب والحب والحياة؟ ما سرّ هذا الوعي البليغ الّذي يملأ فم الحضور بكلام الغياب؟
ــــــــ الغياب الَّذي يملأ فم الحضور، نعم إنّه حضور صاخب هذا الغياب، يرسم الطّريق الصَّافية والوعرة في آن معاً ، يرسم مشهد الحياة الّتي نعيشها ونحن في زحمة تأوّهاتنا وزحمة انتظاراتنا. فم الحضور هو صراخ الغياب، وصيحة فاجرة على مدى الزمن، فكيف نكفّ عن نبشِ فم اللّحظة الصَّعبة الَّتي تُجاهر بالحضور والغياب. أحببت كلمتكَ (النّشاط الإنتحاري) فهي خير تعبير في فهم هذا الغياب، وقد تكون لها دلالات أبعد وأعمق إذا ما تعمّقنا في مسارها وفي سرّ نشاطها هذا. الغياب هو الكلّ أو الجزء من هذا النشاط الإنتحاري، وليس لنا غير هذا النشاط الذي، كلّما اشتدّ، أضاء درب الوعي الّذي نسلكه كي نعي ونلاحظ حركة حياتنا مهما تبدّلت وكيفما تبدّلت.

لكلِّ شاعر خصوصية ومكانة لكلِّ شاعر عالمه الخاص ومساحته الخاصة ولستُ بوارد الكلام الّذي يشبه الموعظة والإرشاد

ـــــ ماذا عن حال الشعر اليوم وكيف تقرأ الحال الشِّعرية العربيّة. أين هي القصيدة اليوم، وما هو الشِّعر في زمن متحوّل ومتسارع ويكاد يأخذ معه كل شيء، ويكاد يحذف كلّ شيء؟
ـــــــــ الشّعر المعاصر، القديم والحديث، هو شعر يعكس حقيقة الشعور الإنساني، لكل مرحلة خصوصيّتها الشّعرية. وأنا بطبعي لا أحب الحديث عن الشعر العربي من وجهة نظر نقديّة، ذلك أنّني أعتبر أن كل إنسان يمتلك في داخله شعوراً يخوِّله أن يدخل إلى وطن الشِّعر، ولكن هناك حالات مميّزة ولافتة، وكذلك هناك حالات عادية. المهم، كل إنسان شاعر، وكل شاعر يعرف حدود إقامته في الإحساس، لذلك لا أسمح لنفسي بالحديث عن تفاصيل بين شاعر وآخر، أو بين تجربة شعريّة وأخرى. واذا كان لا بدَّ من رأي لي في الأمر، ونزولاً عند اصرارك فإنَّني أقول، الشّعر اليوم بخير، لأنّه ما زال نابضاً على مساحات كبيرة، والتجارب الشعرية ما زالت تعطي ألقاً في نفوس كثيرة. فعندما تحضر آلاف الجماهير من أجل الاستماع إلى شاعر، وحين تغصُّ بعض المدرَّجات بجمهور الشِّعر، فهذا يعني أنَّ الشِّعر بخير وسيبقى بألفِ خير. لا تسألني عن الشّعر والشُّعراء، فلكلِّ شاعر خصوصية ومكانة، لكلِّ شاعر عالمه الخاص ومساحته الخاصة، ولستُ بوارد الكلام الّذي يشبه الموعظة والإرشاد. الشِّعر يا صديقي بخير وعافية، كان وما زال وسيبقى بالخير ذاته.

صيدتي هي لغتي التي عبّرت بها عن كلّ ما هو حولي وفي أعماق كياني الذي هو كلّ الكل أي هو المكان والزمان والإنسان


ــــــ يُقال أنَّ قصيدتكَ أسّست لتأثيرات في أجيال قادمة؟ إذا كان الأمر كذلك، من أين أتت قصيدتكَ وكيف تأثّرت وبمن تأثّرت ومن أين غرفت كلّ هذا الوعي الشّعري حتى تألّقت بهذا الحجم وهذا البريق الشِّعري، كيف تكوّنت هذه القامة الشّعرية، من أي لغةٍ جاءت؟
ــــــــــ كلّ ما جاء في قصيدتي هو لغة قادمة من أعماق روحي، وروحي ليست وحيدةً في هذه الحياة، إنّها جزء من كلّ. قصيدتي هي لغتي التي عبّرت بها عن كلّ ما هو حولي وفي أعماق كياني الذي هو كلّ الكل أي هو المكان والزمان والإنسان. لغتي قطفتها من تاريخ حياتي الحافل بعلاقته مع زمنه وناسه. ربما أثّرتُ بسواي ولكني لا أُجيدُ الحديث عن هذه (الفرادة) أو هذه الحالة التي تذكرها في كلامكَ، وأُفضّل أن أترك الكلام لكَ ولسواكَ عن هذه الناحية، وسأكون سعيداً بكلامكم مهما كان ومهما قال.
أما من أثّر بي وبمن تأثّرت، فهذا يحتاج إلى كلام أقلّ ودلالات أوسع وأكبر: لقد تأثّرت باللغة وبنوابغها. تأثّرت بالتاريخ والجغرافيا. تأثّرت بالعاطفة والقسوة. تأثّرت بالموت والحياة. تأثّرت بروحي التي ضاقت كثيراً. تأثّرت بعذاب العيون وهي تراقب حديقة الشَّمس في لحظة الإنفجار. تأثّرت بتعب الأرض والإنسان، بالقهر الّذي حصد الحياة وحوّلها إلى لهب لا يكفّ عن الجنون. تأثَّرت بكلِّ نسمة حب وعذاب طاولت المساء أو الصباح في أيامي وأيام من سبقني إلى حياة ممكنة أو مستحيلة. أمسكت بي الحياة ولقّنتني درس الحياة، وما زلت أقرأ وأتأثّر بكلِّ ما قالته الحياة بوجهي، وربّما في غفلةٍ منّي.
ـــــ بما أنّك لا تريد التّحدُّث عن الشُّعراء وتجاربهم، فلنتحدَّث عن تجربتك، وإلى أين وصلت. ماذا تقول عن تجربتك الشّعريّة اليوم؟
ــــــــ لا أُحبُّ الحديث عن تجربتي، إنّها تجربة ملك القارئ والمهتم بالشعر، فمن الأفضل ألَّا يتحدَّث الشّاعر عن تجربته.
ــــ لكن تجربتك تحتاج إلى كلام عليها من صاحبها؟
ـــــــ تجربتي بدأت من أحاسيس طفل عاش مأساة بلاده وضياعها، وكبر هذا الطفل، صار صبياً يافعاً ثمَّ رجلاً، وفي تلك المراحل، تكونت معالم هذه التجربة. الإحساس بالوطن والإحساس بفقدان الوطن يجعل الإنسان يصرخ بكلِّ قواه الشِّعريّة، ولا شك أنَّ الخسارة والموت واغتصاب الأرض والإنسان يفرض على الشَّاعر إقامة غريبة لا يمكنه الخروج منها أبداً. كل هذا ساهم وأسَّس لحياة طافحة بالأحاسيس، إنّها ركائز ودعائم تحفظ للشاعر حضوراً في المناخ العام للحياة والوجود.

التَّجربة الشِّعريّة الَّتي امتدَّت في حياتي رسمت أفقاً في مساحة الحياة وجعلتني أركضُ وراء المعنى المتدحرج من هويّتنا المسلوبة


إنَّ التَّجربة الشِّعريّة الَّتي امتدَّت في حياتي رسمت أفقاً في مساحة الحياة، وجعلتني أركضُ وراء المعنى المتدحرج من هويّتنا المسلوبة، هذه الهوية التي تنازع عليها الوحوش لتمزيقها وتحويلها إلى سراب لأهلها، لكن الشعر كان بالمرصاد لكل من حاول هذا التَّخريب، لكلِّ من أشاع هذا الخراب وأسَّس ركائز أقوى في عمارة الإنسان، والعشق السّاحر للتراب والبرتقال والليمون والبساتين الممتدّة على ساحل وجودنا، في أماكن الحياة الأولى والحب الأوَّل، والرّعشة الأولى.
ـــــــ أضاف درويش إلى كلامه ما يشبه الإضافة بعدما قاطعته بالقول: لمن تكتب وهل تجربتك كانت كافية لك ولروحك في البوح والتَّعبير؟
ــــــــ البوح هو اللُّغة التي لا يمكن أن تقف عند تقاطع أو حاجز أو نهاية، وبوحي بالحياة هو التّنفُّس الَّذي أحيا وأعيش من خلاله، وقضيَّتي وأيامي وحياتي ومسار عيشي في مساحةِ زمني الَّذي دخلت إليه مع سائر شعبي، كلّها كانت لغة بوح واعتراف. كانت قصيدة مستمرة لا تتوقّف ولا تسمح لنفسها بالتوقُّف عند أي منحدر أو تقاطع.
ـــــــ إعتراف؟ بماذا اعترفتَ يا صديقي وماذا قلت بهذا الإعتراف. لمن اعترفتَ وإلى أين أوصلك هذا الإعتراف؟
ــــــ الإعتراف بالحياة وبما يجيش في داخلها. اعترفتُ لنفسي بأنّني أعيش وسط الزَّمن الذي يحضر ويغيب. اعترفت للحياة نفسها ما حاولت قوله في سرّي. وقفتُ أمام ذاتي وناشدت قلبي بأن يكون ويبقى على المساحة الممكنة والمستحيلة. اعترفت للناس والحياة بأنّني مستمر بالحياة الّتي أُوكلت إليّ. كل ما كتبته وكل ما بحت به كان اعترافاً، والإعترف هنا هو لغة الأمل الّتي قادتني إلى تفاصيل الحياة الكثيرة.

قهري هو كلّ هذا الحريق الذي يملأ مسافة الغياب التي تمتد إلى زمن الوطن الضائع


لم اعترف إلّا بالقليل الَّذي انتابني في لحظة حب أو خوف، ويبقى الإعتراف الكبير في اللّحظة التَّالية الَّتي تأتي على متن قلق يرتسم في فضاء روحي وقلبي، في فضاء أمّتي وشعبي ووطني .
ــــ في تلك الجلسة مع عاشق فلسطين كانت علامات القهر لا تفارق بصره، تساءل: «إلى متى تبقى فلسطين خارج حرِّيتها؟ ومتى يعرف العرب حقيقة حضورهم؟ إلى متى يبقى صوت الشَّهيد محمّد الدرّة مدوِّياً في فضاء الأقلية الغاضبة أو الأكثرية الصَّامتة؟ إلى متى يستمرُّ مسلسل الموت في حياة فلسطين وأهلها؟ متى نخرج من عذاب بات نهجاً ومدرسة وأسلوباً في حياتنا وأيامنا وحتى خارج أيامنا؟».
كانت إشارات الغضب تصدح من عينيه. وسألته: كيف تتعامل مع هذا القهر وكيف ترى الحياة من داخل هذا القهر؟
ــــــــ أجاب بكلام حزين ونبرة هادئة كأنها الصَّمت كلّه، تنهّد ونفخ في الهواء، صمت قليلاً ونظر صوب النافذة وقال: القهر في الذّات أسهل من القهر في المكان وفي الشارع وعلى السطوح التي تراقب عذاب الإنسان والحياة ، وقهري هو كلّ هذا الحريق الذي يملأ مسافة الغياب التي تمتد إلى زمن الوطن الضائع. إنني أرى الحياة من داخل هذا القهر كأنها الطريق المقطوعة على كل عابر وعلى كل ذاهب إلى حقله وبيته ونومه. إن كل ما يجول في خاطري الآن هو نبرة الألم الكبيرة التي تضغط على الروح وعلى أعصاب إقامتي الهزيلة في مهب الغياب. ليس لنا القهر لكنه مرسوم تحت نوافذنا، وفوق مياه عذابنا، وفي المسافة الممتدة إلى النّغم العظيم الذي يدغدغ الروح ويحيلها إلى نغمات متتالية في الموج الكبير. القهر ليس غلطتنا الكبرى، ولا نشيد الشَّمس في ساحات المغيب، ولم تكن غايتنا في السّراب الَّذي لا يُحدّ. قهرنا هو مسافة امتدَّت أمام حياتنا وسرنا عليها بخطى قليلة ثم سرنا بسرعة مدهشة، كأنَّ كل من أرادَ لنا هذا القهر، شارك في دفعنا بقوّة إلى هذا القهر الشَّاهق.
ــــ (صمتَ قليلاً) كأنّه دخل في التّعب، فقلت له: هل ترى نهاية لهذا القهر؟
ـــــــ قال : ليس لنا القهر وليس لكم القهر يا سادة الحياة ويا أسياد الغياب . القهر هو النّفق الذي سيعبر ولن يعبرنا. سنعبر إلى الحياة ونرمي كل ما علق بنا من ركام الغياب، وسنحمل النّور والضَّوء واللُّغة، ونسافر في المسافة الَّتي تربط الحياة بالحياة، ولن نتوقَّف عند الإشارة القاتلة أو عند تلك اللَّحظة الَّتي يرتسم عليها مفترق الحياة. إنَّنا على تقاطع نعرف كيف سنعبره ونلوذ بالحياة، حتماً سنلوذ بالحياة.
ـــــ ماذا عن الحب والعاطفة في حياتك؟ ما دور المــــرأة في أشعارك؟
ـــــــ الحب في حياتي مثل الشعر كلاهما ينبعان من الإقامة نفسها والرَّحيل نفسه. إنّه حب كبير وكثيف، يلمع على أعلى الهامات وفي أسفل اللّحظات. الحب غداء للشعر والشاعر، وهو حب مفــتوح على قلق هائل لا تخمده أي قوة. حتّى الموت لا يمكنه المساس بأمن هذا الحب. في إحدى قصائدي القديمة قلت، «إن ثلاثة أشياء لا تنتهي: أنتِ والحب والموت»، ومازال الشعور هو نفسه والحب هو نفسه. ما زالت هي الحب العارم والأرض الّتي تنبت فيها سنابل الزّمن المستمر. الحبيبة في حياتي لا تنتهي كما الحب نفسه وكما الموت نفسه.
ــــــ (حاول أن يتوقف عن الكلام) فعاجلته بنفس السؤال وقلت له: ماذا عن المرأة الّتي تحضر في حياتك وأشعارك؟
ــــــــــ إن المرأة والعاطفة هما الصِّيغة الّتي لا تزول من حياتي، منهما اســتمدُّ حضوري وأسافر فيهما إلى ذاتي، وأرى من خلالهما نجمة كبيرة تضيء تخوم الحياة، فأهتدي على أشياء ضائعة وألتقي بالنّغم الَّذي يطرب الرُّوح وينعش الجسد ويسمح للقلــــب بتخطِّي حدود الهاوية.
المرأة ليست جمالاً صاخباً لصباحاتنا وليالينا فحسب، إنَّها المعنى الأصيل الّذي نواجه به حضورنا، فنرى ذواتنا بوضوح ونكتشف، في كل لحظة معها، عجائبنا الجميلة وغرائبنا الأجمل. العاطفة هي المسافة الّتي انطلقتُ منها إلى الحياة، ما زالت شامخة وترفدني بالحنان المتمِّم للعيش.
ـــــ أليست الأم هي العاطفة كلها؟
ـــــــ أمِّي هي كل العاطفة وهي القصيدة كلّها. إنَّها وطني الَّذي أوجدني. لولا حنانها ونظراتها الطَّافحة بالكبرياء لما عرفت طعم الوجود ولا لون المسافات الَّتي أوصلتني إلى أعلى الآهات الجميلة. الأمُّ هي الرُّكن الَّذي يحمي الابن من كلِّ الصّعاب، حتى في حضرة غيابها تعطي أولادها دعماً عاطفياً يكاد يوازي الشعر برمّته. أمِّي هي الصَّوت الصَّامت الذي امتدّ على مساحة حياتي فأهداني الصّحوة النّاضجة والحب الكبير والاستمراريّة الصّافية والنقية.
ــــــــــ قصيدتكَ (أمِّي) ملأت القلوب حين كتبتها وزاد بريقها مع الأيام، كأنّها جواب عاطفي كبير يحتاجه أغلب الناس؟
ــــــ قصيدتي أمي التي كتبتها قبل زمن طويل، كانت هدية من روحي لقلبي، ولأنّها كانت مثل حفيف الرُّوح فوق هامات الحياة، وصلت إلى كلِّ القلوب. وعندما لحّنها وغنّاها الفنان الحبيب مارسيل خليفة، تألّقت أكثر ودخلت مسار الوجدان الإنساني والتصقت به الى حدّ الذّوبان والتّماهي.
ـــــــــ في حديثه عن فلسطين، أخذ درويش الكلام إلى الجهة الأخرى، تناول سيرة الرَّئيس الفلسطيني الرَّاحل ياسر عرفات، تحدَّث عنه بشغفٍ وحبٍّ كبيرَين، وقال عنه «ياسر عرفات شاعر عميق وكبير، إنّه الأمل الَّذي رفع فلسطين إلى مرتبة البهجة الّتي لا يمكن للنسيان أن يدخلها.
وسألته: كيف تقرأ في مساحة فلسطين، كيف تحدِّد مناخ حضورها داخل حضوركَ وحضور أبناء وطنك؟
ـــــــــ قال: فلسطين سيدة الظّل الذي نحيا في مدارها، وهي الصّوت الصادح في أعماقنا ولهفة الشوق المستمر. إنّها اللَّيل الذي يبشر بنهار قادم والعكس بالعكس، إنّها الراية التي ترفرف داخل أرواحنا، وسوف نعيش في مناخها ما دامت الحياة مستمرة. فلسطين ليست بلادي فحسب، وليست بلاد الناس والعالم والأمّهات والأطفال فقط، وليست عبير الزَّمن من دون نغمة الفجر على تلالها فحسب، إنّها فلسطين هذا الأمل، بلاد هذا الزمن الذي يولد في كل لحظة على هيئة مقدّسة، ونقف أمامها على أهبة الذّهاب إلى أقصى الحياة.
ــــ في كلام درويش أيضاً عتب على كل من لا يتعامل مع فلسطينيي الشتات بمسؤولية، ويرى أن الفلسطيني اليوم يعيش في هجرة مضاعفة كأن التشرّد لا يكفيه. وسألته عن معاناة الشعب الفلسطيني بعد كل هذا الزمن الذي عاشه تحت رحمة الغياب والتشرّد؟
ــــــــ (تنهّد كثيراً ومطولَّاً قبل أن يجيب) وقال: شعبي يعيش في زحمة الغياب، يتألم ويمارس عذابه على قارعة الحياة، ويتلقى كلّ ضربات الألم ومعاناته لا يمكن وصفها بكلام أقل وبلغة عابرة ولكن يكمنني القول، الشعب العربي الفلسطيني اليوم، وعلى مدى عذابه وتشرُّده لم يفعل سوى أنه واصل عذابه وتشرّده، وربما سيبقى الى أمد طويل في هذا المكان الغريب. لقد بدأت النكبة منذ أكثر من نصف قرن وما زالت هذه النكبة تحفر في المكان والزمان سطوتها المرة في مساحة فلسطين وشعبها المشرّد، وتنخر العظم والتراب، وترفع من منسوب العذاب الفلسطيني، ولكنني أقول اليوم، ليس لليأس مكان في أيامنا، وسوف تعود بلادي إلى حرِّيتها، ويعود العربي الفلسطيني إلى أرضه مهما كلّف الغياب، ومهما تراكمت حالات التَّعب على قارعة هذا الغياب. فلسطين أرض الحياة، ونحن أبناء هذه الحياة، وسوف نبقى على أرض الحياة رغماً عن كلّ من لا يريد لنا الحياة.

شعب فلسطين جاء إلى هذه الحياة ليكون في النّزهة الجميلة، ولا شيء يمنعه من الوصول إلى غابات الفرح مهما طال ليل الغياب ومهما تنوَّعت صور الألم وألوانه عذاباته


ـــــ تحدثت عن النكبة المستمرة ، هل تعتبر أن عذاب فلسطين وشعبها وناسها هو قدر، وربما كان هذا القدر هو لغة الألم التي أرادها القدر كي نرى الحياة من داخل هذا العذاب ونتعلَّم منه ومن عذاباته كلّ هذه الدروس في توصيف وبناء الحياة؟ وهل أنت مؤمن بالقدر الذي يقرر ما سيحدث للحياة؟
ـــــــ لستُ من أنصار الأفكار الَّتي تتستّر وراء الأفكار الغامضة وحتى الواضحة، ربما يكون واقعنا الأسود هو جزء من معنى حياتنا في هذا الزمن الذي نسير في ركابه، ولكني لستُ مقتنعاً بأن القدر هو الذي قرر سقوط الدّهشة من عليائها وتحوّلها الى مناخ الموت والفناء. القدر الوحيد الذي يمكن الإصغاء اليه هو قدر الموت الطبيعي والحتمي لأي إنسان يأتي إلى هذه الحياة، لكن وبالتأكيد، إنَّ القدر الآخر الذي يحاول البعض تفسيره على أنّه قدر مفروض وحتمي وفرض على شعب بأكمله، وتالياً هذا نصيبه من الحياة، فهذا كلام خارج سياقه المنطقي، وهو نغمة في غير أوانها وهي أشبه بكلام يتحرك على ظهر الريح التي لا تستريح.
ـــــــ قدركَ وقدر شعبكَ هو الحياة وثم الحياة؟
ـــــــ تماماً يا صديقي، القدر هو قدر الحياة وليس قدر الغياب، وشعبي هو صانع القدر، والقدر بيد الشعب، أي شعب يريد أن يخرج في نزهة الحياة. وشعب فلسطين جاء إلى هذه الحياة ليكون في النّزهة الجميلة، ولا شيء يمنعه من الوصول إلى غابات الفرح، مهما طال ليل الغياب، ومهما تنوَّعت صور الألم وألوانه عذاباته، أليست الحياة هي خطوات صعبة للوصول؟
ـــــــ بعد كلام كثير عن فلسطين وألم الحياة وقدر الغياب وتعب الإنتظار وجنون المسافة الممتدة إلى خارج زمن اللحظة التي نحياها، حاولت أن أدخل إلى تفاصيل أخرى في الكلام، حاولت مقاربة أحزان الشاعر، التعرّف على مساحة الزمن الذي يسكنه اليوم، وبناءً على رغبته بإنهاء حوارنا، سألت شاعرنا الكبير:
ماذا تفعل اليوم في زمنك الذي ربّما هو الآن في ذروة فوضاه أو تنظيمه، لا أعرف، كيف تعرّف زمنك اليوم، كشاعر يعيش في كنف الحب والماساة في آنٍ معاً؟
ـــــــ إنّه زمن الإنتظار والطَّيران في آن معاً، زمن الحضور على حافّة الحب والفشل والذهاب إلى أقصى الغياب.
ـــــ أقصى الغياب تقصد الموت؟
ــــــــ كل الغياب. الغياب ليس قمراً فوق غابات الصّنوبر وأغصان الزعتر البرّي فقط ، الغياب أيضاً هو غياب الحواس وسقوط المطر فوق جباه التعب الحارّ. ربما أقصد الموت وربما أقصد الحياة، وفي الحالتين أجد نفسي في نفس المساحة المؤدية إلى الطريق البعيد.
ـــــ أجوبتكَ بدأت تسلك مدارها الشعري، كأنّك الآن في حضرة الكتابة وتستعد لكتابة قصيدة جديدة؟
ـــــــ كل الإحتمالات واردة وكل كلام وارد، واللغة أصدق مما نظن، فهي دائماً تنتظرنا لنقطفها، فكيف الأمر ونحن الآن في حضرة اللغة؟ اللغة نتعلّق بها وتتعلّق بنا. القصيدة التي يمكن أن تولد فجأة هي القصيدة البليغة والتي تقدّم صدقها في غناءٍ ذهبيّ، ربّما تولد الآن قصيدة من لون الحضور في متاهة الغياب، وبيروت الَّتي نتحدَّث ونتحاور الآن في إحدى أماكنها هي الشَّاهد على هذه الولادة الشعرية، وهي أيضاً شريكة هذه القصيدة الّتي ستأتي، حتماً، وتستقرّ أبداً في روح المكان والزّمان.
ــــ (شعرتُ أن الشاعر بدأ يتضايق من الكلام وكأنه يريد أن يتوقف نهائياً عن الحديث) فسألته أسئلة سريعة بعد (مفاوضات) سريعة معه كي نختم حديثنا، وسألته: هل أنت حزين الآن؟
ــــــــ حزين برغبة جامحة للصمت.
ــــ كيـف تعـــرف عن نفسك اليوم؟
ـــــــ إنسان يعيش في الغربات المتعدِّدة، أسعى إلى الحضور الدائم إلى وطني، وما زلت إلى اليوم أعيش في كنف الشعر محاولاً الوصول، وحتى هذه اللحظة ما زال الشعر وما زلت معه ننشد الأمل الذي لا مفر منه.
ـــــ ماذا تعني لك السعادة؟
ــــــ السعادة لا تكتمل طالما بقيت الأرض خارج معناها والاحتلال يحرث قلبها.
ـــــ الفرح؟
ــــــــ حين تعود فلسطين إلى أهلها؟
ـــــ القهر؟
ـــــــ مساحة شاسعة نعيش فوق رمادها.
ـــــ الجمال؟
ــــــ فلسطين.
ـــــ النّدم؟
ـــــ تعب وهلاك للروح.
ـــــ المرأة؟
ـــــــ نغمة الحضور التي تطرب البدن والرّوح، وهي مصدر الحياة وقوّة الوعي الذي يمكننا من خلاله بناء مجد اللحظة التي تصير دوماً في حضرتها، مناخ الأمل والبهجة والسّعادة. المرأة هي مرآة صافية إلى حدّ الألم، تعكس أزهار أعمارنا، تبلور عطرها ولونها وهلاكها.
ــــ شعرتُ أنه يريد الحديث أكثر عن المرأة، فقلتُ له: كيف تقرأ في سيرة المرأة التي تجعل القصيدة مثل برقٍ يكشف كل غامضٍ في الحياة والإنسان، المرأة التي تزداد بريقاً في حروف الشاعر، من هي المرأة التي تعطيك كلّ هذا الدّافع الذي يؤجّج الحياة أكثر وأكثر؟
ــــــ ربما تكون المرأة هي المُحرّض الأهم على اكتمال القصيدة، وقد تكون هي الخبر اليقين الذي يعطي للحياة وعيها الطّبيعي والسّليم. واذا كانت المرأة ، بما تمثّل من جمال وخصوبة وحياة هي الأمل الذي يجوهر القصيدة، فهي بالتأكيد أيضاً : السّلام الكبير الذي يعطينا اللحظة النظيفة القادرة على استحضار الحياة مها غابت. تزداد المرأة بريقاً في حروف القصيدة لأنها أصل هذه القصيدة، وهي من فروعها الوارفة على كل باسقٍ في الحياة. الجمال أكثر خيراً حين يكون في حضرة المرأة، والقصيدة أكثر نضارة حين تكون هائمة بين هذا العطر الَّذي يرسم الأنوثة داخل حروف القصيدة.
قصيدة المرأة هي قصيدة الحياة، ومن يكتبها على أكمل وجه فهو حتماً يرسم حضوره المُتألِّق على جبين الحياة.

السابق
غياب راقصة الفرح أوليفيا نيوتن جون.. ألهبت واستراحت!
التالي
المدرسة والمواطنة