«المارونية السياسية» وعقدة الإصلاح والرئاسة.. من «الطائف» إلى «جهنم» العهد القوي 3/3

ياسين شبلي
أعد الكاتب والمحلل السياسي ياسين شبلي دراسة سياسية تحليلية نقدية خاصة، تقع في ثلاث حلقات ينشرها "جنوبية" تباعاً، تغوص في محطات ووقائع و شواهد، تسرد تاريخ "المارونية السياسية" في لبنان و"عقدة الإصلاح والرئاسة" المتلازمة معها، منذ نشأتها ابان الإستقلال مرورا بالحرب اللبنانية وإتفاق الطائف وصولا الى "العهد القوي"، والصراعات والحروب والنزاعات الداخلين بين اركانها السياسيين والحزبيين من جهه، وبين اركان "الطائفيات السياسية" الأخرى المقابلة.

بعد القضاء على تمرد ميشال عون في 13 تشرين 1990 ولجوئه إلى السفارة الفرنسية، وفي ظل الظروف الإقليمية والدولية المواتية للنظام السوري الذي إلتحق بالتحالف الدولي لتحرير الكويت، بدا وكأن لبنان قد خسر فرصة أخرى لتحقيق إستقرار حقيقي وطويل عبر تنفيذ إتفاق الطائف تطبيقاً أميناً، وهو الإتفاق الذي لم يكن هناك من شك بأن  النظام السوري وافق عليه على مضض،  تحت تأثير وضغط الأحداث في المنطقة التي أعادت بعض التوازن إلى الساحة العربية يومها، وأهمها إنتهاء الحرب العراقية – الإيرانية بإنتصار عراقي، أعاد صدام حسين لاعباً إقليمياً ، والإنتفاضة الفلسطينية الأولى “إنتفاضة الحجارة”، التي أعادت كذلك القضية الفلسطينية وياسر عرفات إلى واجهة الأحداث، مع ما يعنيه هذا من قلق للنظام السوري خاصة عندما يتعلق الأمر بغريميه اللدودين، فكان أن أحنى رأسه للعاصفة ومشى بإتفاق الطائف، الذي عطلته الصراعات المارونية – المارونية عندما رفضه ميشال عون، وشن حرب الإلغاء ضد ” القوات اللبنانية”، ما أدى إلى إضعاف الجانب المسيحي بما خلفته الحرب من قتل وتشريد ودمار.

خسر لبنان فرصة أضاعها عليه تهور ميشال عون وغروره

وبالتالي أضعف الجانب اللبناني وأضاع سنة من عمر الإتفاق، ربما كانت قد أسهمت ببداية تطبيق جيد له، وذلك قبل أن تندلع أزمة الكويت بإحتلالها من قبل القوات العراقية، وهو ما أعاد خيوط اللعبة في لبنان إلى يد النظام السوري، بحسن إستغلاله الأزمة وقبوله المشاركة في التحالف الدولي لتحرير الكويت، وما تبعه من مؤتمر سلام الشرق الأوسط في مدريد، وبذلك خسر لبنان فرصة أضاعها عليه تهور ميشال عون وغروره، فكان أن إنقلب النظام السوري على إتفاق الطائف وتعامل مع هزيمة ميشال عون على أنها هزيمة للمارونية السياسية بجميع أطرافها، وهو ما جعله يفرض تطبيقاً إنتقائياً للإتفاق،  الأمر الذي لم تستسغه القوى المارونية ومنها القوات اللبنانية، التي بدأت هي الأخرى تجهد لإظهار أنها بريئة من “دم” المجتمع المسيحي الذي نزف كثيراً، وأنها لا زالت أمينة على تراث المارونية السياسية، وبإن هزيمة ميشال عون لا يجب أن تكون على حساب الموارنة، كمجموعة سياسية مؤسسة للكيان اللبناني، وبين التسلط السوري والتصلب الماروني، وقع الخلاف بين الجانبين على طريقة تنفيذ الطائف، في الوقت الذي كانت فيه المملكة العربية السعودية، إحدى دول اللجنة الثلاثية العربية والشريكة في تحقيق هذا الإتفاق، كانت منشغلة بالأحداث الخطيرة في الخليج بعد حرب عاصفة الصحراء وتداعياتها على المنطقة.

السُنة مثلاً بإمتدادهم العربي والسعودي بشكل خاص كان همهم إستمرار التوافق السعودي – السوري إقليمياً بعد حرب تحرير الكويت، وإعادة تشكيل السلطة بحسب إتفاق الطائف

وفي حين كان الجانب الإسلامي في لبنان ينظر إلى الموضوع كل من زاويته للأسف وبحسب إمتداده الخارجي، فالسُنة مثلاً بإمتدادهم العربي والسعودي بشكل خاص كان همهم إستمرار التوافق السعودي – السوري إقليمياً بعد حرب تحرير الكويت، وإعادة تشكيل السلطة بحسب إتفاق الطائف التي باتت الغلبة فيها هنا للسلطة التنفيذية، المتمثلة بمجلس الوزراء مع ما يعنيه ذلك من موقع مميز لرئيس الحكومة، ما يؤمن لهم إعادة إعمار البلد وبناء إقتصاده بما يحفظ لهم مصالحهم داخلياً، بينما كان الشيعة بإمتدادهم الإيراني – السوري المشترك،  همهم إستمرار هذا التلاحم بين الإمتدادين في تلك الفترة وبالتوافق مع السعودية إقليمياً، بما يسمح لهم من جهة بالمشاركة في إعادة تشكيل السلطة عبر إمتدادهم السوري المتمثل بحركة أمل، وبمقاومة  الإحتلال الإسرائيلي لتحرير الأرض عبر إمتدادهم الإيراني ممثلاً بحزب الله من جهة أخرى داخلياً، وهكذا بدا وكأن الماروني يغرد خارج السرب، ليبدأ تنفيذ الشق السياسي من الطائف بعد أن كان تم سحب السلاح من الميليشيات بإستثناء سلاح “المقاومة الإسلامية”، بتعيين بدل عن النواب المتوفين لإستكمال تمرير مشاريع القوانين المتعلقة بالإصلاحات، التي أقرها الطائف وسط وضع إقتصادي حرج تمثل بإنهيار قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي، هذا الوضع الذي ما لبث أن تفجر مظاهرات وإضطرابات، أدت لسقوط حكومة عمر كرامي في الشارع،  ليحل محلها حكومة رشيد الصلح التي شكلت لإجراء أول إنتخابات نيابية بعد الحرب في العام 1992 أي بعد 20 عاماً على آخر إنتخابات، وبقانون إنتخابي جديد يتم على أساس المحافظة، ولكن من دون أي تقسيم إداري جديد كما نص عليه إتفاق الطائف، ما أدى لمقاطعة مسيحية واسعة للإنتخابات ما أسفر عن فوز نواب مسيحيين من خارج الطيف السياسي الماروني التقليدي، لتصل الأحداث ذروتها بالقبض على سمير جعجع بتهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة، ليحاكم بعدها على كل التهم المنسوبة إليه، إبان الحرب من قتل الرئيس رشيد كرامي ومقتل داني شمعون، ليحكم عليه بالإعدام جرى تخفيفه إلى السجن المؤبد لتخلو الساحة المسيحية من “أمراء الحرب” – إذا صح التعبير – بإستثناء إيلي حبيقة وبعض رفاقه ممن دخلوا “المطهر السوري” ككريم بقرادوني وميشال سماحة وآخرين، وذلك بنفي كل من أمين الجميل وميشال عون وسجن سمير جعجع، ليدخل المسيحيون مرحلة إحباط سياسي في وقت إنطلق فيه الإعمار في مفارقة تدعو للإهتمام، وهي أن الإصلاح الإداري وبناء المؤسسات، وإعادة الإعمار سواء في عهد فؤاد شهاب أو في عهد إلياس الهراوي – بغض النظر عن إختلاف الظروف بين التجربتين – أنما تم في ظل رئيس ماروني معتدل و”غير قوي” بمفهوم هذه الأيام ، وحتى الإنجازات التي تمت في عهد الرئيس كميل شمعون، إنما تمت في سنوات حكمه الأربع الأولى، التي كان فيها لا يزال على علاقة معتدلة مع الشريك المسلم، في الداخل وعلى علاقة متوازنة مع محيطه العربي قبل أزمة السويس وما تلاها، وهذا ما يدعو للتأمل وأخذ العبر بأن الرئيس الحزبي للبنان تجربة أثبتت فشلها، وبأن الرئيس القوي إنما هو الرئيس القوي بلبنانيته وعلاقاته الداخلية السليمة والمعتدلة، وعلاقاته العربية والخارجية المتوازنة التي تراعي مصلحة لبنان أولاً.

سمحت التطورات الدولية والإقليمية للبنان بفترة ست سنوات إستقرار، كانت كافية بوجود شخصية مثل رفيق الحريري

سمحت التطورات الدولية والإقليمية بعد حرب الخليج الأولى – حرب تحرير الكويت – ومؤتمر مدريد للسلام، ومن بعدها تفكك الإتحاد السوفياتي ومن ثم إنهياره، سمح للبنان بفترة ست سنوات إستقرار، كانت كافية بوجود شخصية مثل رفيق الحريري، وما تمتع به من علاقات إقليمية ودولية لإجتياز مرحلة متقدمة في إعادة إعمار لبنان بسرعة قياسية، وإعادته إلى مكانته بين الدول في الوقت، الذي كان غلاة المارونية السياسية سواء في الخارج أو من أتباعهم في الداخل، يوجهون سهام نقدهم و”حقدهم” تجاهه بشعارات طائفية مقيتة كمثل، أنه يؤسلم لبنان أو “يسعوده” نسبة للسعودية ، وكانت هذه الهجمات تُواجه بغض نظر ورضى من قبل الوصي السوري، الذي لطالما أراد وعمل على أن يبقى رفيق الحريري “تحت السيطرة” ، لذلك كانت تتلاقى هذه الأصوات المارونية المتطرفة بأصوات من الجانب الآخر، وهذه المرة  بحجة أن رفيق الحريري يحمل مشروع “أميركي صهيوني” يراهن على السلام مع إسرائيل، ويهدف إلى نزع سلاح المقاومة، وذلك عبر بعض أبواقه من السياسيين والإعلاميين، تخلل هذه السنوات الست أيضاً تمديد لولاية الرئيس إلياس الهراوي لثلاث سنوات، دون أي إعتراض من قِبَله كما فعل فؤاد شهاب من قبل، ما يثبت مرة أخرى بأن التطورات في الخارج وتأثيراتها على الداخل، هي التي تفرض إسم وشخصية رئيس الجمهورية، وهو ما تأكد مرة جديدة عند إنتهاء ولاية الهراوي عام 1998، عندما لم تؤدِ عملية سلام مدريد إلى أي حل شامل، بل فقط لإتفاقات منفردة من إتفاقية أوسلو مع الجانب الفلسطيني، إلى إتفاقية وادي عربة مع الأردن، فيما بقيت العملية مع سوريا ولبنان معقدة، وظهرت يومها مقولة وحدة المسار والمصير، في الوقت الذي كان قد قُتِل فيه إسحاق رابين في إسرائيل صاحب “الوديعة الشهيرة” التي قيل بأنه وافق عبرها على الإنسحاب من الجولان المحتل، مقابل ضمانات أمنية وعلاقات كاملة مع سوريا، وعودة اليمين إلى الحكم في إسرائيل، كل هذه التطورات فضلاً عن تصاعد التوتر بين العراق ومفتشي الأمم المتحدة عن الأسلحة الكيميائية عقدت الأمور في الشرق الأوسط، فكان أن لجأت سوريا إلى تزكية قائد الجيش اللبناني يومها إميل لحود لمنصب الرئاسة، خلافاً لرغبة الرئيس رفيق الحريري وتم إنتخابه، وكان هذا الإنتخاب نذيراً بأن الأمور ذاهبة إلى التصعيد، ومحاولة سورية للعب على عواطف بعض  المسيحيين تجاه الجيش، وما يعتبرونه “رئيس مسيحي قوي” بمواجهة رفيق الحريري.

لجأت سوريا إلى تزكية قائد الجيش اللبناني يومها إميل لحود لمنصب الرئاسة، خلافاً لرغبة الرئيس رفيق الحريري وتم إنتخابه، وكان هذا الإنتخاب نذيراً بأن الأمور ذاهبة إلى التصعيد

وفعلاً وقع الصدام بين الرجلين في بداية العهد عندما جيَّر بعض النواب – بقدرة قادر – أصواتهم لرئيس الجمهورية، أثناء الإستشارات الملزمة لتكليف رئيس لتشكيل الحكومة الجديدة، وهو الأمر الذي رأى فيه الحريري إنتهاكاً خطيراً للدستور ولإتفاق الطائف، عبر فرض أعراف جديدة فرفض التكليف، ليتم بعدها تكليف الرئيس سليم الحص بتشكيل أول حكومة في عهد لحود. بدأ العهد ولايته إذن بالصدام مع الحريري، الذي كان يبدو أن الود مفقود بينه وبين لحود، لإختلاف شخصية كل منهما عن الآخر، وهو خلاف طبيعي بين رجل عسكري لا خبرة سياسية له ولا دراية له، بطريقة ممارسة السلطة خارج المؤسسة العسكرية والتعامل مع الواقع السياسي الدقيق في البلد، وبين رجل له شخصية وعلاقات وهامة رفيق الحريري ، فالقضية أعقد من أن نضع “رئيس مسيحي قوي” مقابل رئيس وزراء مسلم قوي، فكان الصدام ومن ثم الملاحقة لرجال الحريري في السلطة والمؤسسات، ترافق ذلك مع إشتداد المرض على الرئيس السوري حافظ الأسد، ونقل الملف اللبناني من يد عبد الحليم خدام بما له من خبرة ودراية بدهاليز السياسة اللبنانية، إلى يد بشار الأسد “الوريث الشرعي” والوحيد لوالده، وإستمر الوضع على هذه الحال حتى الإنتخابات النيابية عام 2000 التي ربحها بتفوق وجدارة الرئيس رفيق الحريري، وكانت نهاية الحياة السياسية للرئيس سليم الحص، وغيره من الشخصيات المعارضة للحريري على الساحة البيروتية.

عودة الحريري كانت قد سبقتها عملية إنسحاب الجيش الصهيوني من جنوب لبنان، كما سبقها أيضاً زيارة البطريرك الماروني نصرالله صفير للجبل وعقد المصالحة التاريخية مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، كل هذه التحركات دفعت بالمعارضة اللبنانية التي كانت قد بدأت تتكون ضد حكم الرئيس لحود، إلى بدء المطالبة بإنسحاب القوات السورية من لبنان تنفيذاً لإتفاق الطائف، وكان بيان المطارنة الموارنة في أيلول عام 2000 نقطة البداية وتبعه لقاء قرنة شهوان، لأطراف المعارضة المسيحية بداية. ترافق ذلك على المستوى الدولي مع زلزال أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي قلبت الأوضاع في العالم رأساً على عقب، وسرَّعت من تدهور الأوضاع مع وجود إدارة أميركية جديدة، مكونة من المحافظين الجدد بقيادة جورج بوش الإبن، فكان الرد بغزو أفغانستان بداية،  ومن ثم حصار ياسر عرفات في مبنى المقاطعة ربطاً بأحداث إنتفاضة الأقصى، ومن ثم غزو العراق بحجة إمتلاك أسلحة دمار شامل، وما تبعه من ضغوطات على النظام السوري للإنسحاب من لبنان بموجب القرارات الدولية، الأمر الذي رفضه ورد عليه بالإصرار على التمديد لولاية إميل لحود أيضاً من دون أي إعتراض منه، وخلافاً لإرادة غالبية القوى السياسية اللبنانية ليبقى فؤاد شهاب الرئيس الماروني الوحيد الذي رفض التمديد أو التجديد. 

هذه التطورات من أفغانستان إلى العراق كانت في صالح النظام الإيراني، الذي كان قد دخل في بيات شتوي – إذا صح التعبير – منذ هزيمته أمام  العراق ووفاة آية الله الخميني بعدها بقليل ، فإنزوى لإعادة ترتيب بيته الداخلي وإعادة إعمار ما تهدم من مدنه وبنيته التحتية وإقتصاده جراء الحرب مع العراق، فأتت هذه الأحداث لتعيده إلى الساحة خاصة مع تحرير الجنوب اللبناني، وهو ما شكل له أرضية قوية للإنطلاق منها للتعامل مع التطورات في لبنان والمنطقة، وتلاقت الضغوط على النظام السوري مع إستعداد النظام الإيراني لإستعادة دوره الإقليمي، والحفاظ على مركز تواجده الأكبر والوحيد في المنطقة حتى ذلك الوقت، فكان لبنان ساحة المواجهة، وكان الثمن غالياً بإغتيال الرئيس رفيق الحريري، هذا الزلزال الذي أدخل لبنان  العصر الإيراني ولا يزال، بالرغم من ثورة الأرز التي إنطلقت كرد فعل على الإغتيال، والتي جمعت اللبنانيين لأول مرة منذ إندلاع الحرب الأهلية على هدف واحد، وهو إنسحاب الجيش السوري من لبنان الأمر الذي تحقق لاحقاً، ولكن الثورة وإن كانت قد نجحت بشعاراتها التكتيكية، وهي الإنسحاب السوري وإسقاط النظام الأمني اللبناني – السوري وإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، إلا أنها للأسف فشلت في هدفها الإستراتيجي في تحرير لبنان بالكامل من الوصاية الخارجية والإقليمية تحديداً، وذلك بسبب عاملين إثنين كان الدور الغالب فيهما للمكون الماروني اللبناني، الأول كان رفض الموارنة بغالبيتهم وعلى رأسهم البطريرك الراحل صفير، إسقاط إميل لحود الرئيس الماروني في الشارع حتى لا تكون سابقة، في الوقت الذي كان فيه لا يزال دم الرئيس الشهيد على الأرض، والعامل الثاني هو الصفقة الذي أبرمها العماد ميشال عون مع النظام الأمني اللبناني – السوري  وعاد بموجبها إلى لبنان شريكاً مضارباً في ثورة الأرز، وهو ما دفع الجانب الإسلامي لإرتكاب غلطة العمر – إن لم نقل حماقة – في إقامة التحالف الرباعي الذي أثبتت الأيام أنه كان “ضربة معلم” من محور الممانعة، ضرب فيها عصفوران بحجر واحد، الأول إخراج الشيعة الأحرار من المعادلة، وهو ما يتبين ثمن تكلفته اليوم في سيطرة الثنائي الشيعي على الطائفة ومصادرة قرارها، والثاني كان فرصة لإلتقاط الأنفاس وكسب الوقت حتى تنضج طبخة ورقة التفاهم  التي وقعت في شباط 2006 في “مار مخايل”، والتي أراد واضعوها وعملوا على أن تكون  إتفاقاً يحل محل إتفاق الطائف، وميثاقاً جديداً هذه المرة مارونياً – شيعياً في زمن الضعف العربي  والمطاردة الدولية لكل ما هو “سني” في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، ليكون بذلك ميشال عون قد دمر لبنان بالحرب والخلاف السياسي مرة، كما أدخله جهنم بالإتفاق مع طرف دون سائر الأطراف مرة أخرى، وما ذلك إلا للهدف الوحيد الذي وضعه نصب عينيه منذ ترؤسه للحكومة العسكرية، ومنعه إجراء إنتخابات رئاسية كان ولا يزال يرى أنه الأجدر بالظفر بها، واليوم ها هو يحاول الإستمرار بالإحتفاظ بها ولو عبر محاولة توريثها ل “ولي عهده” السياسي جبران باسيل، وهكذا إنتقلت الوصاية من طرف إلى طرف آخر بغطاء لبناني مرة أخرى.   

التطبيق العملي لإتفاق “مار مخايل”  بعد إجتيازه الإختبار الأول في حرب تموز 2006، يوم 7 أيار 2008 وما أسفر عنه من إتفاق الدوحة، الذي أتى ليكرس ويغطي تفاهم مار مخايل، ومن هنا كان الإنطلاق إلى جهنم بداية عبر إنهيار جبهة 14 آذار

كان التطبيق العملي لإتفاق “مار مخايل”  بعد إجتيازه الإختبار الأول في حرب تموز 2006، يوم 7 أيار 2008 وما أسفر عنه من إتفاق الدوحة، الذي أتى ليكرس ويغطي تفاهم مار مخايل، ومن هنا كان الإنطلاق إلى جهنم بداية عبر إنهيار جبهة 14 آذار رغم نيلها الأكثرية في إنتخابات 2009، بحيث بات كل طرف من أطراف هذه الجبهة ” يغني على ليلاه” ومنهم القوات اللبنانية، التي بدأت تولي الأهمية لمواجهة تمدد التيار الوطني الحر في السلطة على حساب تحالفاتها الوطنية،  حتى إنتهى بها الأمر إلى توقيع “إتفاق معراب” معه تحت شعار “أوعا خيك” والذي لم يكن سوى شعار يغطي “النكد السياسي الماروني” – إذا صح التعبير – بإعتبار أن الإتفاق لم يكن في الحقيقة، سوى رداً على ترشيح الرئيس سعد الحريري لسليمان فرنجية لمنصب رئاسة الجمهورية لإنهاء الفراغ، وكأني بموارنة سليمان فرنجية لا يشملهم هذا الشعار “أوعا خيك”، وكانت نتيجة هذا الإتفاق الذي قضت بنوده بتقاسم الحصة المسيحية في السلطة بين الجانبين، في ممارسة سياسية إلغائية لكل ماروني وطني مستقل، وهي هنا تتماهى مع الثنائي الشيعي الذي تدعي القوات اللبنانية دائماً وأبداً مواجهته، كانت النتيجة أن وصلنا إلى جهنم ” العهد القوي” بهمة “الرئيس المسيحي القوي” ، وفلسفة “الجمهورية القوية” ، وكأنه كُتبَ على لبنان أن يدفع الثمن مرتين، مرة عند صراع الموارنة وأخرى عند إتفاقهم، ومع ذلك لا زالت قيادة القوات اللبنانية تصر على أنها لم تخطئ في خياراتها، وتحاول مرة أخرى أن تثبت براءتها من دم هذا الوطن، تارة بالتلحف برداء الثورة وأخرى برداء التغيير، عبر فوزها بالإنتخابات ووعودها التي ما أثمرت حتى الآن، إلا التماهي مع جبران باسيل بعدم تسمية مرشح لتشكيل الحكومة، تحت حجج وذرائع واهية وفي مزايدات طائفية رخيصة، لا تقيم أي إعتبار لمصالح الناس والوطن . 

في النهاية لا بد من التوضيح أن هذا السرد، لا يعني أبداً تبرئة الفئات والأطراف والطوائف الأخرى، من المصير الذي إنتهى إليه هذا الوطن الصغير لبنان وشعبه الطيب، المحب للحياة والتقدم ومواكبة العصر، لكن الحديث عن الموارنة هو أولاً، لأنهم يعتبرون أنفسهم أنهم آباء هذا البلد وأساس وجوده، وثانياً بمناسبة إقتراب موعد رحيل هذا العهد، وبداية العد العكسي لإنتخاب رئيس جديد، وثالثاً لنقول لكل لبناني كما قال الراحل سليم اللوزي  إذا كان لبنان للموارنة أو السنة أو الشيعة أو غيرهم من الطوائف فهناك مسلم ومسيحي، أما إذا كان الجميع للبنان فكلنا لبنانيون، وأن الإتفاقات الثنائية والبهلوانية بين الطوائف لم تعد صالحة لبناء وطن حقيقي، فبناء الأوطان يكون عبر المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات، والإتفاق على أي وطن نريد، وليس عبر التشاطر والتذاكي الذي يدخلنا في حرب كل 20 عام، وما يصح على الموارنة وممارساتهم السياسية يصح كذلك على بقية الفئات، فكلنا في الهم والمصير والمسؤولية.. لبنانيون.  

السابق
فيديو جديد لـ«حزب الله»..وجواد نصرالله معلقاً: «القمصان السود» يقيسون الحدود بـ«القادومة»!
التالي
هوكشتاين يغادر وزارة الطاقة صامتاً.. وفياض يكشف تفاصيل اللقاء