ألسَّيِّد محمَّد حسن الأمين في كتاب كريم مروّة: مفكّر سياسيّ وأحد شعراء عصره الكبار

السيد محمد حسن الامين

أصدر المفكر اللبناني كريم مروّة كتاباً جديداً تحت عنوان: “أضواء على روّاد الإصلاح الديني في العصرالعربي الحديث ”.  قدّم لهذا الكتاب النّقيب رشيد درباس .  وهذا الكتاب هو من منشورات “الدار العربية للعلوم ناشرون ” في طبعة أولى 2022 بيروت (لبنان) والشارقة (الإمارات)، ويتم توزيعه في “دار إقراء/ في المملكةالعربيةالسعودية.

رَجُلُ دِينٍ من نَوعٍ مختلِف

أفرد مروة في كتابه صفحات تحدث فيها عن معرفته بالمفكر الإسلامي الراحل السيد محمد حسن الأمين

( الذي غادرنا في 10/نيسان/2021 ) ، وهي المعرفة التي وصلت حدّ “الصداقة الحميمة” كما عبّر مروّة ، ويقول:

تعرّفت إلى السيد محمد حسن الأمين في سبعينات القرن الماضي بعد أن كان قد بلغ الذروة في تكوين شخصيته كرَجُلِ دِينٍ مِن نَوعٍ مُختَلِف، وكمفكّر سياسي بإسم القومية العربية ، وأحد شعراء عصره الكبار. وكنت ألتقي به في مناسبات عديدة، وأذكر أنه كان جريئاً في عرض أفكاره، محاولاً الجمع بين الجوانب المختلفة في شخصيته، حريصاً على البقاء في ذاته رجُلَ دِينٍ وفقيهاً وقاضياً شرعيّاً ومجدِّداً في الدِّين، وسياسياً ملتزماً وشاعراً حرّاً.

كان السيِّد محمّد حسن الأمين رَجُلَ دِينٍ من نَوعٍ مُختَلِفٍ ومفكِّراً سياسيّاً بإسم القوميّة العربيّة وأحد شُعراء عصرهِ الكِبار

ندوةٌ مِن روائع التَّعبير عن حُرّية الفِكر

 وكنت قد بدأت أتعرف إلى سيرته من البدايات في بلدته شقراء الجنوبية، ثم في النجف وما بعد النجف. ساعدني في تلك المعرفة عدد من أقاربه وأصدقائه، ثم فيما بعد عندما بدأت أقرأ عناصر مهمة من سيرته في محاضرات ومقالات، ثم من كتابين مهمَّين (قضايا إسلامية معاصرة  و أمالي الأمين)، وأذكر في هذا السياق أننا عندما احتفلنا بالذكرى الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني 1974 دعوناه للمشاركة في ندوة خلال الاحتفال، وكان شركاؤه في الندوة تحت عنوان الدين والعلمانية، كلاً من المطران جورج خضر والشيخ صبحي الصالح، والشيخ محمد يعقوب باسم الإمام موسى الصدر، وحسين مروة، وكلوفيس مقصود ، وفؤاد زحيل الذي كُلّف من قبل قيادة الحزب بإدارة الندوة.

عندما احتفلنا بالذِّكرى الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي دعونا السَّيِّد الأمين للمشاركة في ندوة تحت عنوان : ألدِين والعلمانيّة وكانت تلك مِن روائع التعبير عن حُرّيّة الفكر

وكانت تلك الندوة من روائع التعبير عن حرية الفكر بإسم الدين والعلمانية على حد سواء، ومنذ ذلك التاريخ ربطت بيني وبين السيد الأمين علاقة صداقة حميمة  ، وكنا عندما نلتقي في منزله في الأعوام الأخيرة من حياته نناقش العديد من الأمور بحرية كاملة ومن دون قيود. وكنت في الآن ذاته أستمتع بما كان يقرأه لي من قصائده المميزة. وأذكر هنا، في العام 1997 عندما احتفل بتكريم الشاعر الجواهري بعد وفاته، دعونا السيد الأمين لكي يكون إلى جانبي والشاعر سعيد عقل وآخرين من كبار شعراء ذلك العصر، وكانت له قصيدة مميزة في تلك المناسبة.

ألهَمُّ الأكبر للسيِّد الأمين

كان همه الأكبر هو تحرير بلداننا من أنظمة الاستبداد والطغيان ومن التدخلات الخارجية على اختلافها.

غير أن ما يهمني هنا بالذات من شخصية السيد ومن أفكاره النَّيِّرة ما يتصل برأيه الحر والجريء في قراءته للدين عموماً، والدين الإسلامي خصوصاً، بإسم الحرية للإنسان فرداً وجماعة، والعقل وسلطان المعرفة التي تمحورت حولها مفاهيمه الجريئة في تجديد الإسلام وتحريره مما ساد بإسمه تعسّفاً وتشويهاً لقيمه السمحاء من البدع والخرافات.

رأيُ السّيِّد الأمين في الإنسان والدِّين

وأقتطف هنا نصاً من كتابه (قضايا إسلامية معاصرة)، يعبّر فيه عن كل ما كان مقتنعاً به بإسم الدين وحرية الإنسان والدور الأساسي للفكر، يقول السيد تحت عنوان: “الإنسان والدين: أيهما وجد من أجل الآخر؟

«بموجب الأديان السماوية جميعاً، الإنسان هو من أكرم مخلوقات الله تعالى… وبموجب هذه الأديان نفسها وُجد الإنسان من أجل مهمة بالغة الخطورة والسمو، هي ممارسة خلافة الله تعالى على الأرض.

كنّا عندما نلتقي في منزله في الأعوام الأخيرة من حياته نناقش العديد من الأمور بِحُرّيّة كاملة ومن دون قيود

ولكن هذه الكرامة وهذا التميّز الخاص للكائن البشري ليس هِبةً إلهية مجَّانيَّة ، ولو كانت كذلك لفقدت معناها بفقدان ما يلازمها، أي فقدان حرية الإنسان… فالحرية وحدها تستلزم المسؤولية، ولا مسؤولية بدون حرية…

إذن كرامة الكائن البشري هي نتيجة لمسؤولية هذا الكائن، ومسؤوليته تتصل بكونه كائناً حراً مختاراً… وهذا ما أشارت إليه الآية القرآنية: “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجِبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً” (الأحزاب: 72).

والحرية بوصفها مصدر المسؤولية.. لا تفضي بالكائن البشري إلى اختيار الحق والعدل والخير بالضرورة. بل تجعل الاختيار مفتوحاً على جميع الاتجاهات والاحتمالات. لذلك كان التاريخ البشري حافلاً باختيار الظلم والشر إلى جانب العدل والخير، وكان الإنسان مسؤولاً عن ذلك كله. أما الكائنات الأخرى، فليست مسؤولة عما يعرض لها أو بسببها لأنها ليست كائنات مختارة.

تفضي بنا هذه المقارنة بين الإنسان والكائنات الأخرى إلى ملاحظة لا تلبث أن تستحيل ظاهرة حقيقية، وهي أن درجة وجود الإنسان أعلى من درجة وجود الكائنات الأخرى، وأن الإنسان – إلى حد ما – مخلوق لذاته بينما الكائنات الأخرى مخلوقة لأجل الإنسان؛ أي لتكون موضوعاً لحركة الإنسان، ومادة لتحقيق ذاته، وميداناً لأعمال ذاته المبدعة.

في الوقائع الميدانية العيانية للتاريخ البشري، لا يوجد ما يؤكد أن الإنسان تمكّن من إنجاز الكثير على مستوى تحقيق إنسانيته، بل يوجد ما يؤكد أن الطابع الأبرز للسلوك التاريخي البشري، هو طابع الطغيان؛ أي تجاوز سطوة الإنسان على الطبيعة، إلى سطوة الإنسان على الإنسان نفسه، الأمر الذي أدى إلى تضييق دائرة الحرية التي هي الشرط الأول للإنسان… وحين بعث الله تعالى الأنبياء وأنزل الرسالات السماوية، فمن أجل أن تحمي هذا الشرط الإنساني؛ أي من أجل أن تساعد الإنسان على تحرير ذاته، من أجل أن يتمكن من ممارسة مهمة الاستخلاف على الأرض.. وبالتأكيد فإن الأديان السماوية لعبت دوراً كبيراً في استنقاد مسيرة الإنسان ومساعدتها على مقاومة الطغيان… ولكن الأديان السماوية نفسها، وبعد رحيل أنبيائها وقادتها الأول، كانت تتعرض للمصادرة… وليس هنا مجال تفصيل هذا الأمر، بل سنكتفي منه بإضاءة الزاوية التي تجيب على السؤال المطروح في عنوان هذه المقدمة (أيهما وجد من أجل الآخر: الإنسان أم الدين؟).

في منهج الأنبياء، الدين نزل من أجل الإنسان ولحمايته وتحريره وتمكينه من القيام بأعباء الخلافة على الأرض… وفي منهج الأنبياء “المقدس” هو الإنسان، أما الدين فإن قدسيته تأتي من كونه منزلاً لتكريس قدسية الكائن البشري، ولحمايته وحماية حقه بالكرامة والاختيار.

إذن من أين جاءت النزعة التي منحت الدين قدسية تفوق قدسية الكائن الإنساني نفسه؟

في الواقع، هذه النزعة لم تأت من الدين نفسه… ولا يمكن أن يكون في جوهر الدين أو في أدبياته وتعاليمه ما ينص على أن الدين هو هدف بحد ذاته، حتى ولو وجد في بعض النصوص الدينية ما يوحي بذلك. ونضرب – من هذه النصوص – مثلاً قوله تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (الذاريات:56). فإن ظاهر هذه الآية يوحي بأن العبادة – أي الدين – هي الغاية والهدف من خلق الكائنات. ولكننا عندما نتأمل ونتبصر في هذا النص، سندرك أن الغاية التي تعبر عنها الآية الكريمة هي العبادة”، وهذا صحيح بحسب النص، ولكن هذه الغاية عينها تعود فتصبح وسيلة لغاية أبعد منها، هي تحقيق الكمال الإنساني الذي ينسجم مع وظيفة الخلافة على الأرض.

ألسَّيِّد محمَّد حسن الأمين كان همُّهُ الأكبر هو تحرير بلادنا من أنظِمة الاستبداد والطُّغيان ومن التّدخّلات الخارجيّة على اختلافِها

إذن فالغاية من الأديان والشرائع هي الإنسان… أي سموّه وتكامله وتمكينه من تغليب عناصر الخير والسمو في ذاته على عناصر الطغيان والاستئثار بما يحقق له التوازن الروحي والسعادة الحقيقية.

إلا أن نزعة الطغيان والاستئثار التي تظهر تجلياتها على امتداد التاريخ للمجتمعات البشرية، لم تستسلم، بل قاومت دعوة الأديان إلى العدل والمساواة. وكان الأنبياء على امتداد التاريخ، يواجهون – أقسى ما يواجهون أولئك المتسلطين، بالقوة على حقوق الناس، فكان هؤلاء يقتلون الأنبياء، ويلاحقون المؤمنين ويحاولون تصفية كل ما يمت بصلة إلى القيم والشرائع التي تتنزل لتحرير الناس والمجتمعات من الاستبداد والمصادرة.

 ولأن نزعة الطغيان لم تتمكن من القضاء على الروح التي أشاعتها الأديان السماوية، عمد أصحاب هذه النزعة – فيما عمدوا إليه – إلى الدخول في هذه الأديان، لا إيماناً بها، ولكن لتحويلها من وسيلة لتحرير الإنسان، إلى وسيلة تمكنهم وبإسم الدين نفسه من استعادة نفوذهم ومواقعهم… وهذا لا يتم إلا بتزوير مفاهيم الدين وقيمه، وتأويل نصوصه بما يخدم مصالحهم وأهدافهم… ومن بين ما نجحت هذه النزعة في إحداثه، هو إضفاء القدسية على تأويلاتها الخاصة لمفاهيم الدين، بحيث يصبح الخارج على هذه التأويلات خارجاً على الدين نفسه.

إذن، لقد بات الدين سلطة لها جلاّدوها، وطبعاً لها كهنتها الذين لهم – وحدهم – حق التأويل والتفسير بما يخدم هذه السلطة ومصالحها ونفوذها… وهنا برزت نزعة التقديم لقدسية الدين على قدسية الكائن الإنساني… فالإنسان – بحسب هذه النزعة – وجد من أجل الدين ولخدمته… فالدين بعد أن تمت السيطرة عليه وصار وسيلة بأيدي هؤلاء الأقوياء، وأسقطوا عليه تأويلاتهم الخاصة، أصبح من أقوى وسائل الدعم لنفوذهم، فلماذا لا يتحول إلى موضوع للتقديس المطلق، فيصير الإنسان مجرد خادم للدين، وشعائره وطقوسه ورموزه وسلطته التي تحكم بإسمه؟

إن أبرز تعبير عن هذه النزعة تجلى في سلطة الكنيسة في القرون الوسطى، وله تجليات مشابهة من تاريخنا الإسلامي، أبرزها في العصر الأموي وليس هنا مجال التوسع في شرح هذه التجليات، بل نكتفي بالقول: إن أثار هذا الانحراف في فهم الدين ودوره ووظيفته، ما زالت تلقي بظلالها على الوعي الديني العام في مجتمعاتنا، ومن آثار ذلك، استمرار هذا الانحراف المنوه به، والمتّسم بالاعتقاد أن الإنسان وجد من أجل الدين وليس العكس.

إن تحرير الفكر الديني من هذه النزعة الخطرة لا يتم إلا بالعودة إلى الينابيع الرئيسية للدين، والتحرر من سطوة التأويلات والتفسيرات المحرّفة والمغرضة، والتي أكسبها أصحابها طابع التقديس لأهداف بشرية تمليها مصالح النفوذ وتتناقض مع الرسالة الأصلية للدين، رسالة التحرير للإنسان والسيادة لقيم العدل والمساواة وكرامة الكائن الإنساني.

إن العودة إلى هذه الينابيع هي الوسيلة لتحرير الدين والإنسان معاً وللمصالحة بينهما».

(من كتاب “أضواء على رواد الإصلاح الديني في العصر العربي الحديث” لـ كريم مروة – الدار العربية للعلوم ناشرون – أيار 2022 / 1443 هـ)

السابق
خاص «جنوبية»: عدد الوافدين الى 1.5 مليون.. ويرفدون 3 مليارات دولار!
التالي
بعدسة «جنوبية»: حرق دواليب ورمي زجاج.. اعتصام لـ«صرخة المودعين» أمام «المركزي»!