حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: أزمات متناسلة.. ورهانات متناقضة

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

تتوالد الازمات وتتناسل، في سلسلة من دوامة مفرغة تنعدم من خلالها، ضرورات حياة ورغد عيش، يفتقدها اللبنانيون تباعا وبشكل متواصل، فمن ازمة فقدان الرغيف، الى ازمة النقل، بعد الغلاء المنفلت لأسعار الوقود، ومن ازمة انقطاع الدواء، الى ازمة انعدام التغطية الصحية والاستشفائية بكل اشكالها، ومن هجرة الاطباء واطقم التمريض، الى فوضى التسعيرة للطبابة؛ الى مفارقة انظمة الدفع المتقلبة في المستشفيات كما في المتاجر، الى عزوف الهيئات الاستشفائية الضامنة عن تغطية منتسبيها بكل فئاتهم وقطاعاتهم، وصولا الى انقطاع موظفي القطاع العام بكل مؤسساتهم، عن الذهاب الى وظائفهم، بعد أن أصبحت رواتبهم لا تسد بدائل نقلهم، الى التردي المتراكم في تأمين امداد الكهرباء ومياه الشفة للمنازل، ومضاعفة اسعار الصهاريج التي تزود العائلات بمياه الشفة، مع ما يستجد من انقطاع الاتصالات الهاتفية وتعديل اسعار خدمات الانترنت والخليوي، ورفع اسعار إستخدامه، بعد الاستيلاء على الارصدة المختزنة في حسابات هواتف المشتركين،  الى إنفلات أسعار السلع الاستهلاكية الحياتية غلاءً، يتسابق مع ارتفاعِ سعرِ الدولار الاميركي، ويترافق كل ذلك مع تحكم امزجة التجار، بتحديد سعر نفس السلعة من نفس الشركة، بفروقات اسعار تصل الى ٣٠ % من قيمتها، بحيث غدت الاسواق التجارية في لبنان ساحة تناهب شره، يسطو فيها كل  من حاز سلعة او سيطر على خدمة، على كل من طالب بها او احتاج لها.

يعيش ٨٢ % من شعب لبنان تحت خط الفقر، و يصل راتب رجل الامن او عنصر الجيش الى اقل من ٤٠ $ اميركي

يتخبط اللبنانيون بأزماتهم التي لا تنتهي، ويجالدون للبقاء أحياء أكفياء، بعد أن ضمر الحد الادنى للأجور في وطنهم الى ٢٣ $ دولار اميركي، فيما يعيش ٨٢ % من شعبه تحت خط الفقر، و يصل راتب رجل الامن او عنصر الجيش الى اقل من ٤٠ $ اميركي، وينتظر ارباب العائلات ومعيلوها، أياما أشد سوءا وظروفا اكثر إيلاما، حين يواجهون معضلة إنهيار نظام التعليم في لبنان بجميع اشكاله، من الرسمي الى الخاص، وبكافة مراحله الاساسي والثانوي والجامعي، فيما تتفكك الدولة دائرة تلو دائرة، وخدمة بعد خدمة، فلا محاكم تعمل، ولا دوائر عقارية، ولا عمل في دوائر تسجيل السيارات او الاشراف على سلامتها، ولا وجود لطوابع مالية، او جوازات سفر لبنانية، فيما يندر وجود القرطاسية في كل دوائر البلاد؛ فلا اخراجات قيد نفوس، في دوائر الاحوال الشخصية، ولا وجود لكراسات امتحان في كليات الجامعة اللبنانية…

متوسط دخل الفرد اللبناني قد انخفض من ٥٥١٠ $ سنة ٢٠٢٠ اميركي الى ٣٤٥٠$ سنة ٢٠٢١ وان تصنيف لبنان اصبح في مصاف الدول التي تميل إلى الفقر

في تقرير للبنك الدولي عن وضع لبنان اوضح البنك ان متوسط دخل الفرد اللبناني قد انخفض من ٥٥١٠ $ سنة ٢٠٢٠ اميركي الى ٣٤٥٠$ سنة ٢٠٢١ وان تصنيف لبنان اصبح في مصاف الدول التي تميل إلى الفقر >لم يعد لبنان وطن له سلطة تدير مصالحه، ولم يعد لديه دولة تُسَيِّرُ مؤسساته، ولم يبق لديه ادارة عامة تدير مرافق خدماته، وكان من نتيجة ذلك كله، تقلص واردات الدولة وجباياتها المالية…

فيما يتخبط الحكم فيه حائرا، في ادارة ملف ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي في الجنوب، ويلزم الصمت تجاه اطماع نظام الاسد على حدوده الشمالية.

لبنان اليوم، اشبه بقطار فُصِلَت عرباتُ المسافرين فيه، عن قمرة سائقه وطاقم صيانته و تعطل جهاز التحكم المركزي في وجهته

لبنان اليوم، اشبه بقطار فُصِلَت عرباتُ المسافرين فيه، عن قمرة سائقه وطاقم صيانته و تعطل جهاز التحكم المركزي في وجهته، وهو يتدحرج هائما دون هدف وبلا مسار او غاية. تلك حال عربات المسافرين والراكبين مقطوراته، بكافة فئاتهم وطبقاتهم واتجاهاتهم. اما في عربة القيادة فالأمر مختلف تماما، حيث يتابع المسؤولون حياتهم وكأنهم ابرياء من كل مسؤولية، او محصنون من اية مساءلة او محاسبة، بعدما اوصلوا البلاد والعباد الى الخراب  والانهيار.

كأن الفشل في ادارة مرفق ليس سببا كافيا لعزل المسؤول عنه، يوم يتهرب من التنحي طوعا وخجلا، وكأن انكشاف السرقات والاعمال الاجرامية المشهودة، في كل ملف او خدمة، لا  تحدث حياءً او خجلاً، يدفع المرتكب للتوقف عن ممارسة ارتكابه، واذا ما تحركت العدالة استثناءً في ملف او قضية، استنفرت المنظومة لوقف التحقيق وترهيب القاضي و تسفيه مراميه، لا يخضع رجال المنظومة الفاسدة والفاشلة والمرتهنة الى الخارج، لميزان العدالة ولا لعقوبات القانون الجزائي او المحاسبة العمومية، ولا حتى لتأنيب من ضمير ان وجد لديهم، ويتصرفون كأن الشمس حين تنبلج كل صباح، ترسل انوارها، لتغسل ذنوبهم وتسجل لهم صكوك غفران وعفو يومية،  فيتجدد لمعانهم وتسترد طهارتهم، فيطوبون ملائكة وبراءة الاطفال في عيونهم. 

لا يكتفي رجالات المنظومة واسيادها بسرقة براءة الاطفال وتمثلها، بل يحترفون بطر الصبية وطيشهم، عبر الخروج عن كل قواعد الحكم

لا يكتفي رجالات المنظومة واسيادها بسرقة براءة الاطفال وتمثلها، بل يحترفون بطر الصبية وطيشهم، عبر الخروج عن كل قواعد الحكم واصول الديموقراطية ومنهاج تسيير المؤسسات ، فهذا حزب سياسي يرسل قاضية من اتباعه، ليتهم رئيس وزراء بالفساد وتبييض الاموال، ويمتنع نتيجة لذلك عن تسميته لرئاسة الحكومة،كدنا نعتبره محقا، لولا لم  يطالب من اتهمه بالمشاركة في حكومته، فكيف يصح حجب الثقة عند تسمية رئيس الحكومة، ثم طلب الثقة لنفس الحكومة بعد تأليفها؟

حزب الله فيقف خلف الدولة او ما تبقى منها متيحا لها التنازل عن حقل كاريش والخط ٢٩

اما حزب الله فيقف خلف الدولة او ما تبقى منها متيحا لها التنازل عن حقل كاريش والخط ٢٩، ثم يتجاوز مفاوضات الدولة مرسلا مسيراته فوق كاريش والخط ٢٩.

تتنازع المنظومة في اتفاقاتها وخلافاتها نوازع ثلاث لا علاقة لها بهموم الناس ولا بعذاباتهم، فنزعة جماعة الممانعة بقيادة حزب الله، هي ان يركبوا مركب ايران، يفاوضون حين تفاوض، ويهادنون حين تهادن، يساومون حين تساوم إيران، ويصعدون حين تصعد، يقاتلون حين تقاتل ايران او يقاتلون نيابة عنها ودرءا لحرب تريدها بعيدة عن اراضيها، اذا ربحت ايران يأملون بالربح معها، واذا عقدت صفقة ارتضوا بحصة تحفظها لهم، واذا خسرت ايران يخسرون معها.أما النزعة الثانية فهي نزعة تيار السيادة، الذين يواجهون حزب الله ونفوذ ايران في لبنان، وهي مواجهة سياسية تؤكد للعرب ودول الغرب، انحياز اغلبية لبنانية وازنة الى سياسة التضامن العربي، والالتزام بالشرعيتين العربية والدولية والى الحرص على اخراج لبنان من محور الممانعة، ورهان هذا التيار تبدل اقليمي. ودولي يعيد للبنان سيادته واستقلاله ويحفظ هويته التعددية وعلاقاته العربية والدولية وازدهاره الاقتصادي، وفيما يمتلك جماعة الممانعة ادوات محلية وامكانيات واليات لبنانية  عملية لخياراتهم ورهاناتهم، فان تيار السيادة يغلب على اجراءاته الطابع النظري والحملات الاعلامية والسياسية.

الثورة آتية متجددة واسبابها ظاهرة وستصبح اكثر وضوحا، فهل تتجدد ثورة١٧ تشرين؟

اما النزعة الثالثة التي تعتبر نزعة عابرة لهذا الافتراق السياسي، وتحظى بإجماع المنظومة، فهو اطالة امد الازمة والعمل على إدامة سيطرة المنظومة، والتمادي في استثمار الانهيار والتربح منه، وجعل مآسي اللبنانيين وفقرهم، مجالا لكي تتسول المنظومة لأموال دعم خارجي جديدة، تسرقها مجددا، ويقتضي ذلك اصدار عفو عام عن الجرائم المالية المرتكبة، وتمكين اصحاب البنوك والرساميل والفاسدين من النجاة بمسروقاتهم، وافلات ناهبي املاك الدولة وميزانيات التزاماتها من المساءلة المالية، اضافة لإعادة توزيع الثروة العامة بما يحقق ل ٢ % من كبار اصحاب المال في لبنان الاستحواذ على املاك الدولة ومرافقها وثرواتها الوطنية.
الثورة آتية متجددة واسبابها ظاهرة وستصبح اكثر وضوحا، فهل تتجدد ثورة١٧ تشرين من اجل اعادة تكوين السلطة، وبناء دولة مدنية حديثة تستعيد وحدها عافية لبنان وازدهاره الاقتصادي؟

السابق
مسيرة جديدة لـ«حزب الله» تستهدف كاريش.. والجيش الاسرائيلي يتحدث عن مصيرها
التالي
بعد شقه طريق الـ٣٠ الفاً.. الدولار «الأسود» ينخفض مساءً