هجرة النُّخَب من إيران: نظرة على أحدث الاتجاهات والبيانات

ايران

يُسلِّط هذا الإيجاز الضوء على أحدث الأرقام الرسمية الإيرانية فيما يتعلق بـ “هجرة النخب” من الجمهورية الإسلامية. لكنَّ الإيجاز لا يتناول الأسباب التي تقف خلف هجرة العقول والنخب الإيرانية بالتفصيل، بل يُسلِّط الضوء على أهم الإحصاءات بهذا الشأن والواردة في الموقع شبه الرسمي الإيراني لرصد الهجرة، إضافة إلى إحصاءات مُستقاة من مصادر رسمية، وغير رسمية أخرى. ويتناول الإيجاز تركيبة النخب التي تغادر إيران، والجهود التي تبذلها السلطات في طهران للاستجابة لهذا الاتجاه.

أحدث الأرقام حول الهجرة من إيران

شهدت إيران خلال العقود الأربعة الماضية أحد أعلى معدلات هجرة العقول في العالم؛ ما يعني أن المفكرين والمهنيين والطلاب تركوا البلاد للعيش في الخارج. وتجاهل المسؤولون في طهران لمدة طويلة، بل شجَّعوا أحياناً هجرة النُّخَب.

وتَشَكَّلَ جزء لا بأس به من المهاجرين من مجموعة من الأشخاص يعتبرهم النظام متمردين سياسياً، وأن من الأفضل أن يهاجروا، بدلاً من البقاء في إيران، والتحوُّل إلى تحدٍ سياسي للنظام الإسلامي المتشدد. لكنْ مع اتضاح التكاليف الاجتماعية-الاقتصادية، والعواقب الأخرى المترتبة على هجرة هذه النخب، وصعوبة تجاهلها، بدأت القيادة الإيرانية بالتعبير عن قلقها، ووضع سياسات لمحاربة هذه الظاهرة.

اقرأ أيضاً: حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: لافروف في طهران.. الرقص على الحبال

ووصف القائد الأعلى علي خامنئي، المسؤولين الذين يُشجِّعون الشباب في الجامعات على الهجرة بـ “الخونة”، غير أن هجرة النخب الإيرانية ليست ظاهرة جديدة؛ حيث بدأت عام 1979 بعد الثورة مباشرة، ولا تزال مستمرة. 

ولا تتوافر أرقام رسمية موثوقة حول عدد الإيرانيين في الخارج؛ حيث يُعَدُّ الكثير من الإيرانيين حالياً من مزدوجي الجنسية. وتشير التقديرات إلى أن عدد الإيرانيين المهاجرين الذين يحملون الجنسية الإيرانية فقط، يصل إلى نحو 1.8 مليون شخص؛ ما يساوي نحو 2.5% من عدد السكان. في حين تُشير التقديرات إلى أن عدد الإيرانيين وذرياتهم من مُزدوجي الجنسية، يصل إلى نحو 5 مليون شخص حول العالم.

مع ذلك، لا تزال إيران في المراتب العليا بين دول العالم التي تستقبل المهاجرين، أكثر من كونها مُصدِّرة لهم. إذ حلّت إيران في المرتبة الثالثة والعشرين كأكبر وجهة للمهاجرين (معظمهم من الأفغان والعراقيين)، من أصل 232 دولة (بحسب إحصاءات عام 2021). وفي الوقت نفسه، حلَّت إيران في المرتبة الرابعة والخمسين، كأكبر الدول المُصدِّرة للمهاجرين حول العالم (بحسب إحصاءات عام 2020). 

آخر الأرقام حول تركيبة النخب الإيرانية المهاجرة

ارتفعت معدلات النمو السنوية للمهاجرين من إيران بنسبة (2.2%) خلال الفترة 1990-2020. كما ارتفع عدد الطلاب الإيرانيين الدارسين في الجامعات الأجنبية خلال الفترة 2003-2018 من 19,000 إلى 56,000 طالب. وجاءت الولايات المتحدة، وتركيا، وألمانيا، وإيطاليا، وكندا في أعلى قائمة أفضل وجهات يقصدها هؤلاء الطلاب.

وتبرز إيران من جهة ترتيبها فيما يتعلق بعدد الطلاب الذين يهاجرون خارج البلاد؛ حيث حلت إيران في المرتبة التاسعة عشر من أصل 241 دولة. وفي المقابل، حلت إيران في المرتبة الحادية والثلاثين من بين الدول التي يقصدها الطلاب الأجانب للدارسة. كما حلت إيران عام 2020 في المرتبة 102 من بين 132 دولة يقصدها الأساتذة الجامعيون بحثا عن فرص عمل في المجالات الأكاديمية والبحث والحقول المهنية الأخرى.

وفي الوقت الذي كان فيه الطلاب الإيرانيون نهاية سبعينيات القرن الماضي ضمن أكبر شرائح الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة، غير أنهم يشكلون الآن نسبة 1% فقط من الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة حالياً (11,451 طالب إيراني في الولايات المتحدة عام 2019).

ويتوجه معظم الطلاب الإيرانيين إلى خارج البلاد للحصول على التعليم العالي ودرجة الدكتوراه. ويدرس نحو نصف الطلاب الإيرانيين الموجودين في الولايات المتحدة فقط (ليسوا من مزدوجي الجنسية) الهندسة الذي يُعَدُّ التخصص الذي يُشَكِّل أهمية كبيرة بالنسبة للاقتصاد الأمريكي في الوقت الذي يوجد فيه نقص في عدد الأمريكيين المولودين على الأراضي الأمريكية الذين يختارون دراسة الهندسة. وبعبارة أخرى، هناك وفرة في عدد فرص العمل المتعلقة بتخصص الهندسة بالنسبة للطلاب الإيرانيين حال إكمال دراستهم في الولايات المتحدة. وتُشير الأرقام إلى أن الطلاب الإيرانيين يختارون البقاء في الولايات المتحدة.

وتضمن تقرير إخباري صدر في إيران خلال يناير 2022 أرقاماً مثيرة للقلق حول هذا الاتجاه، حيث أشار التقرير إلى أن نحو 82-83 من أصل 86 إيراني فازوا بميداليات في مسابقة العلوم الدولية، كانوا قد غادروا إيران للعيش في دولة أجنبية. وأشار تقرير آخر إلى أن نحو 4% فقط من الإيرانيين الذين فازوا بميداليات في هذه المسابقات يعودون إلى إيران عند أي مرحلة إذا توافر لهم خيار الدراسة في الخارج. 

كما تجدر الإشارة إلى أن المسؤولين الإيرانيين لا يتابعون عدد الطلاب الإيرانيين الذين يدرسون في الخارج فحسب، بل يتابعون باهتمام أسماء الجامعات التي درس فيها هؤلاء الطلاب في إيران، والجامعات التي أكملوا فيها دراساتهم العليا خارج إيران.

ويحظى الطلاب الإيرانيون الدارسون في الولايات المتحدة اليوم بتمثيل قوي نسبياً في أفضل 10 جامعات أمريكية (مثل كولومبيا، وهارفرد، وييل). وتشير الأرقام المتوافرة إلى أن ما معدله 220-250 إيراني (من إيران وليس من مزدوجي الجنسية) التحقوا بأفضل 10 جامعات أمريكية خلال السنوات الخمس الماضية.

ويُعَدُّ هؤلاء الطلاب من خريجي المؤسسات التعليمية الإيرانية التي يلتحق بها أبناء النخبة (مثل جامعة شريف). وبعبارة أخرى، يلاحظ المسؤولون الإيرانيون أن عدداً غير متكافئ من الطلاب البارزين يغادرون البلاد ومن غير المرجح عودتهم إلى إيران. 

كما تشير الأرقام المتوافرة إلى أن عودة من يعود من هؤلاء الطلاب والنخب الأخرى، تأتي مدفوعة إلى حد كبير بعوامل شخصية، مثل: الرغبة بالوجود قُرب العائلة. وأظهرت أحدث البيانات الصادرة خلال الفترة 2020-2021 أن 61% ممن عادوا إلى إيران أشاروا إلى أن سبب عودتهم يَتَمَثَّلُ في رغبتهم بالوجود قريباً من العائلة. وبعبارة أخرى، فإن سياسات الجمهورية الإسلامية بما في ذلك أي حوافز بالنسبة لأغلبية العائدين إلى إيران لم تُشَكِّلَ عاملا حاسماً في قرار عودتهم.

تقييم إجراءات طهران المضادّة لوقف هجرة النخب

اتخذت السلطات الإيرانية خلال السنوات 8-10 الماضية، خطوات لكبح جماح هجرة النخب. غير أن هذه الجهود لم تركز على منع الأكاديميين، أو المهنيين، أو الطلاب من الهجرة، بل جذب النخب الموجودة خارج إيران بالعودة إلى البلاد، وجلب الخبرات التي اكتسبوها هناك من أجل المساهمة في دعم الاقتصاد الإيراني. وفي الوقت الذي مورست فيه هذه السياسة على مستوى الرئاسة الإيرانية، غير أن الإحصاءات الأخيرة المتوافرة، تشير إلى أن أقل من 2,000 من هذه النخبة عادوا إلى إيران خلال الفترة 2015-2020. 

وأدت هذه الجهود إلى قيام السلطات الإيرانية بإبرام عقود عمل مع 864 خبير إيران (في حقول مختلفة) مقيمين خارج إيران. وبدأت مثل هذه الجهود عام 2016 بهدف ربط الخبراء الإيرانيين المقيمين خارج بلادهم بالمؤسسات ذات الصلة داخل إيران. ويُمَثِّلُ هؤلاء مجموعة من الأشخاص يأمل المسؤولون بالاستفادة من خبراتهم الفنية في الوقت المناسب. وتجدر الإشارة إلى أن معظم هؤلاء الخبراء يمتلكون خبرات في مجالات مثل: علم الحاسوب، والهندسة المدنية، والكهربائية، والميكانيكية. وفيما يلي قائمة المجالات التي يمتلك فيها الإيرانيون الذين عادوا إلى بلادهم خبرات عالية:

  • الهندسة الفنية (63.4%).
  • العلوم الاجتماعية (14.3%).
  • العلوم البحتة (10.4%).
  • العلوم الطبية (9.4%).
  • الآداب (2.3%).

وتشير البيانات إلى أن إيران لا تفقد حصة غير متكافئة من نخبها فحسب، بل تستقبل في الوقت نفسه نسبةً كبيرة من اللاجئين في المنطقة، وتستقطب نسبة ضئيلة للغاية من النخب العالمية التي تبحث عن فرص عمل. ويدرك المسؤولون في طهران أن أداء بلادهم ليس سيئاً في هذا المجال على النطاق الدولي فحسب، بل إنها تتخلف كثيراً عن دول الجوار أيضاً. وتأتي إيران بالتحديد خلف تركيا ودول الخليج في استقطاب المواهب المتعلمة للمساهمة في اقتصادها. وتضر هذه الحقيقة بشكل واضح بالحساسيات الوطنية الإيرانية في الوقت الذي تعمل فيه على عرقلة النمو الاقتصادي للبلاد. وعلى سبيل المثال حظيت مبادرة “الإقامة الذهبية” التي أطلقتها دولة الإمارات العربية المتحدة بالكثير من الاهتمام في طهران. ويتضح أن دولة الإمارات تمتلك طموحات بعيدة الأمد لاستقطاب رأس المال الأجنبي والمواهب الأجنبية على حد سواء في إطار استراتيجية الدولة لضمان تحقيق مصالحها في مجال الأمن الوطني على الأمد البعيد.

ويدرك المسؤولون الإيرانيون أن عوامل مختلفة – معظمها سياسية – تمنع إيران من المنافسة على رأس المال والمواهب الأجنبية؛ ما يعني خسائر اقتصادية بالنسبة لإيران. كما يدرك هؤلاء المسؤولين أن العالم شهد تحولاً جذرياً حول مسألة “هجرة النخب”، وأن إيران غير مؤهلة للمنافسة في هذا المجال إقليمياً أو دولياً. ولا يَتَمَثَّلُ السؤال فيما إذا كان بإمكان إيران المنافسة على المواهب، بما في ذلك منع نخبها من الهجرة للخارج، بل يتعلق بالإداء السيء لإيران في إطار مساعيها لمنع نخبها من الهجرة إلى دول أخرى تمتلك ظروفاً أكثر جذباً.           

الاستنتاجات

أصبحت جهود طهران لمنع هجرة النخب أو استقطابهم للعودة إلى إيران ضمن أجندة إيران خلال السنوات العشر الأخيرة. وما زال أمام النظام في طهران طريق طويلة لصياغة وتفعيل السياسات التي تُمكِّنها من التعامل مع ظاهرة “هجرة العقول”. وما زالت طهران حتى يومنا هذا تمارس سياسة “ردة الفعل” وليس السياسة “الاستباقية”. ويعترف المسؤولون الإيرانيون بأن النظام كان بطيئاً في إدراك التكاليف الاجتماعية-الاقتصادية الكبيرة لـ “هجرة العقول”، ناهيك عن الفوائد المحتملة من استقطاب رؤوس الأموال والمواهب الأجنبية. فعلى سبيل المثال، ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي – ابتداء بحكومة هاشمي رفسنجاني – عبَّرت بالكلمات فقط عن الحاجة إلى إعادة العقول الإيرانية في الخارج دون تحقيق الكثير بهذا الشأن بالرغم من تشكيل فريق عمل خلال حكومة روحاني لتحقيق تقدم في هذه الأجندة.

ويمكن تحقيق فوائد ضخمة من عودة النخب الإيرانية الموجودة في الخارج على نطاق واسع. وتشير إحدى التقديرات إلى وجود نحو 110,000 متخصص إيراني يعملون في المؤسسات التعليمية والبحثية حول العالم، ما يساوي نحو 33% من إجمالي عدد الإيرانيين العاملين في مجال البحوث. وتعود عدم قدرة إيران على استقطاب النخب الإيرانية في المنفى إلى اثنين من العيوب المتجذرة:

  1. غياب الالتزام السياسي لمنع “هجرة العقول” بشكل جدي، ووضع سياسات تهدف إلى استقطاب النخب الإيرانية في الشتات.
  2. لا يزال المسؤولون الإيرانيون يعانون من ضعف كبير في المعرفة حول طبيعة العولمة، وحركة النخب على نطاق عالمي، وأهمية التكيف مع هذه الحقائق لمواكبة الاتجاهات الدولية.

وتعترف السلطات الإيرانية في الحقيقة بأنها تمتلك القليل من المعرفة حول تركيبة الجيلين الثاني والثالث من الإيرانيين في الخارج: مستوياتهم التعليمية، وحجم ثرواتهم، وغير ذلك من المزايا. وتُعَدُّ هاتان المجموعتان أكبر من المهاجرين الأصليين من إيران (الجيل الأول) الذين تمحورت حولهم جهود طهران لاستقطاب الجاليات الإيرانية في الشتات. وعليه هناك دعوات في أوساط الخبراء في هذا المجال لتشكيل مؤسسة وطنية حول الهجرة تتولى مهمة دراسة سمات النخب الإيرانية في الخارج لوضع سياسات أفضل قد تستقطب هذه النخب.

وحتى لو تغيرت السياسة حول هذه القضية في طهران، فإن المسؤولين الإيرانيين ما زالوا بحاجة إلى فهم أفضل حول الجاليات الإيرانية في الشتات من أجل امتلاك القدرة على استقطابهم. لذلك لا تتوافر لإيران حلولاً سريعة لمواكبة الحقائق حول حركة النخب العالمية، وخسارة المختصين الإيرانيين للدول الأجنبية.

وتُعَدُّ هجرة العقول الإيرانية نتاجاً لعدد من العوامل الرئيسة؛ حيث شَكَّلَ النظام السياسي القمعي الذي لا يحتمل الكثير من المعارضة على الدوام، المحرك وراء الهجرة في أوساط الطبقات الاجتماعية المختلفة. لكنَّ اتساع الهوّة مؤخراً بين إيران والاقتصادات الأخرى – بسبب العقوبات – زاد من جاذبية الهجرة. 

ويجد كبار المختصين الإيرانيين الذين يطمحون بالانخراط بشكل مهني مع نظرائهم حول العالم، أن عزلة إيران عن الاقتصاد العالمي ضارة للغاية. ويُعَدُّ تقليص هذه الهوّة تحدياً ضخماً يحتاج إلى سنوات من العمل الدؤوب. كما أن انطلاق عملية التصحيح تحتاج إلى تغيير سياسي جوهري في طريقة عمل الجمهورية الإسلامية.

وشهدت أعداد الطلاب في مؤسسات التعليم العالي الإيرانية زيادة بمعدل أربعة أضعاف خلال السنوات العشرين الماضية من نحو 1 مليون إلى 4 ملايين. وبحسب بعض الدراسات فإن هذا التوسع الضخم في أعداد طلاب الجامعات جاء على حساب نوعية التعليم. مع ذلك ينتهي المطاف بعدد قليل ومتفانٍ من هؤلاء الطلاب في جامعات متميزة للحصول على تعليم متميز. وتتمثل المشكلة بالنسبة للدولة الإيرانية في أن من المرجح للغاية أن تختار هذه الصفوة من الطلاب – عندما تحصل على الفرصة – الانتقال إلى خارج إيران للحصول على التعليم العالي والإقامة بشكل دائم خارج إيران، لأن الظروف السياسية والاقتصادية المتاحة في الخارج أفضل بكثير منها في إيران. وفي مثل هذا الوضع، هناك حاجة إلى مبادرات كبرى في مجال السياسات، لتغيير الاتجاه المتعلق بهجرة النخب. وليس هناك أي مؤشر بأن كبار المسؤولين السياسيين في طهران يمتلكون أي رؤية جوهرية لتغيير هذا الاتجاه السلبي.

السابق
«الخطر الكوروني» يعود مجدداً..تحذيرات من موجة فتاكة وسريعة الإنتشار!
التالي
ندوة حاشدة حول كتاب لنزار يونس «الميثاق والإنفكاك الطائف ذلك المجهول».. تطبيقه يُعيد الروح إلى الوطن!