وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: غياب المواطن في المشهد السياسي

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

حملت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة رسائل متناقضة.  هي من جهة استجابت لحراك 17 تشرين  بأن قدمت عددا وازناً من وجوه جديدة ذوي وجهة تغييرية، وتفاعلت مع خطاب استعادة سيادة الدولة. وهي من جهة أخرى منحت القوى المتحكمة بمواقع السلطة غطاء شعبيا وشرعية قانونية، يمكنها من التحكم بمجريات السياسة وآليات صنع القرار للسنوات الأربع المقبلة.

الحزب احتفظ مع حلفائه بأكبر وأقوى جبهة نيابية في المجلس، مكنته من حصد مواقع ومسؤولي ولجان المجلس النيابي

لذلك لم ينجح حزب الله مع حلفائه في كسب الأكثرية النيابية، لكن الخصم أيضاً لم يربحها أيضاً، حيث جاءت التشكيلة النيابية الأخرى هجينة وغير متناغمة بل متباعدة الاتجاهات الرؤى والمواقف والأولويات.  ما يعني أن الحزب احتفظ مع حلفائه بأكبر وأقوى جبهة نيابية في المجلس، مكنته من حصد مواقع ومسؤولي ولجان المجلس النيابي، وستمكنه من التحكم ببرنامج المجلس ومساره التشريعي ومجريات النقاش فيه. 

خسر الحزب بالنقاط، لكنه ما زال يربح بالاستراتيجيا، بمعنى احتفاظه بموقعه الاستراتيجي في تقرير سياسات البلد العامة، وفي التحكم بتركيبة أية تشكيلة حكومية، وفي الاحتفاظ بكلمة الفصل في تقرير شخص رئيس الجمهورية القادم، بل وفي قدرته على انتزاع المبادرة من الدولة ، ومن دون إذنها طبعاً، في إعلان الحرب أو التهدئة مع العدو، والاحتفاظ بالكلمة النهائية في تقرير مصير الحدود البحرية والبرية.

خصوم الحزب بتلاوينهم المتعددة ربحوا بالنقاط ولم يربحوا في الاستراتيجيا

بالمقابل، فإن خصوم الحزب بتلاوينهم المتعددة ربحوا بالنقاط ولم يربحوا في الاستراتيجيا، أي حالوا دون أن يكسب حزب الله الأكثرية، فكان ربحاً بالسلب لا بالإيجاب، أي خفضوا سقف طموحات الخصم لكنهم لم يحرزوا واقعاً جديداً ملموساً.  جاؤوا موزعين: بين شخصيات تقليدية وقديمة تفضل التهدئة، والاحتفاظ بقواعد اللعبة السياسية الحالية، لتضمن لنفسها حصصا وزارية تناسبها، وبين من رفع سقف السيادة عالياً من دون خطة أو استراتيجية واضحة، أو عملية لاستعادتها أو تمتينها، ما يجعل السيادة طوبى وشعار جاذب انتخابياً لكنه عديم الجدوى سياسياً. وبين وجوه جديدة حصدت آمال وتطلعات حراك 17 تشرين الاحتجاجي، ونالت ثقة المستائين من الوضع القائم، لكنها دخلت المجلس النيابي فارغة الذهن والأيدي من أية خطة أو رؤية لتحويل الاحتجاج إلى مطلب تشريعي، ومن ترجمة شعار محاربة الفساد والفاسدين إلى برنامج سياسي ذي مهمة تغييرية لقواعد اللعبة السياسية، والأهم من ذلك غياب الخلفية الكافية، النظرية والحِرَفية، لأصل فكرة الدولة وقواعد وأصول العمل السياسي. ما جعل سذاجة بعضهم محل تندر من الخصم وقلق من المؤيد والمساند، وجعل بعضهم ينشغل بالجزئيات والتفاصيل المبعثرة، التي لا رباط بينها، وبعضهم الآخر يرفع السقف عالياً في مسائل ثانوية من حيث الترتيب والأولوية، ويصر على شعارات مثالية قد تحقق رضا وتأييد شعبيين لكنها غير قابلة للصرف سياسياً.

عرف التغييرون كيف يحتجوا ويشاغبوا لكنهم بحاجة إلى أن يفكروا ملياً كيف يغيروا

 كل ذلك يعرض شخصيات التغيير للاختراق أو للتهميش، لأنها بسذاجة وسطحية بعضها وضبابية فكرة التغيير لدى أكثرها، جعلها حتى الساعة تنشغل بإفرازات وتجليات الأزمة من دون التصويب على مصدر الأزمة، تركز على ما يرضي الجمهور ويسكن قلقه من دون التركيز على قواعد اللعبة ومبادىء التوزيع التي تجعل الحياة السياسية على ما هي عليه.  عرف التغييرون كيف يحتجوا ويشاغبوا لكنهم بحاجة إلى أن يفكروا ملياً كيف يغيروا.

تُظهر النقائض في نتائج الإنتخابات النيابية، حجم التردد لدى الناخب اللبناني في تحديد وجهة الحياة السياسية وتعيين من يمثله

في المقلب الآخر، تُظهر النقائض في نتائج الإنتخابات النيابية، حجم التردد لدى الناخب اللبناني في تحديد وجهة الحياة السياسية وتعيين من يمثله. فتجده يجمع بين ميله إلى التغيير وبين الخوف منه، بين شعوره بالأمان من بقاء القيادات الحالية وبين عدم ثقته بها، بين حبه للتحديث والعصرنة وبين تمسكه بالتقليد والموروث، بين تململه من تسرب الدين إلى المشهد العام وبين تمسكه بالدين ملاذا للهوية وضمانا للبقاء، بين توقه إلى الحرية وبين شعوره بالذنب والتقصير وحتى القصور.

 هي جميعها دلائل تردد وارتباك في شخص الناخب اللبناني، وعلامات لا على غياب الانتخابات كعملية ديمقراطية للمارسة السلطة فحسب، بل على غياب المواطن كأساس لأي فعل انتخابي أو نشاط سياسي. المواطن الذي يعي أن حقيقته السياسية تتقدم على حقيقته القانونية والاجتماعية والشخصية. المواطن الذي يدرك الفرق بين صناعة مصيره وبين أن يكون داخل القطيع.   

السابق
«اللقاء الديمقراطي» يسمي مرشحه لرئاسة الحكومة.. من هو؟
التالي
ارتفاع اضافي للدولار الأسود.. كيف أقفل مساءً؟