السيد محمد حسن الأمين..رحيل «العلّامة العَلَم»

السيد محمد حسن الامين
تعرّفتُ على السيد محمد حسن الأمين قبل أكثر من ثلاثين سنة. وأذكر جلياً وقائع اللقاء الأول الذي التقيته فيه، وكان ذلك اللقاء في المستشفى، حيث كان السيد يخضع لفحوصات، بعدما تعرض لنكسة صحية ألزمته دخول المستشفى.

وكان اصطحبني الى السيد، صديقي الشاعر شوقي بزيع وعرّفني على العلامة، وكم بدت تلك المناسبة غريبة الشكل وكأنها جلسة تعارف مبتكرة، غير مُتعارف عليها في الواقع الاجتماعي العام.

أن تذهب للقاء تعارف الى شخصية من وزن سماحته وهو ممددٌ على سرير العلاج، أمر غريب ويكاد يكون فريداً في حدوثه.. دخلتُ، مع صديقي شوقي الى غرفة السيد، وكان المشهد: السيد في سريره ممدداً و”المصل” وأدوات العلاج والمراقبة الصحية تحضن جسده، لكنني لم ألحظ أنه نائم في السرير بقدر ما أنني رأيت قامة واقفة وكأنها في جلسة حوارية مع آخرين.

اقتربتُ من السيد ثم قدّمني اليه شوقي. صافحتُ السيد بحرارة بالغة، وشعرت حينها أنني أصافح صديقاً قديما…صداقة عميقة بدت ملامحها من أولى لحظات اللقاء الأول.

نعم جمعتني بالسيد محمد حسن الأمين صداقة خاصة على مدى أكثر من ثلاثين سنة، وأكثر ما ارتكزت إليه هذه الصداقة هي ركيزة الفكر والمعرفة والثقافة ، قوامها الأساسي القصيدة المحدثة، والشعر بتلاوينه الكثيرة والأسئلة الكبيرة التي ترفع منسوب السؤال وتفتح آفاق الأجوبة الى ما لا نهاية.

فالسيد الراحل لم يتخذ من موقعه أو من مكانته الدينية الفكرية المرجعية، موقعاً لتقديم الأجوبة النهائية الثابتة الأزلية، كما يفعل أغلب رجال الدين على اختلاف دياناتهم.

لم يتخذ من موقعه أو من مكانته الدينية الفكرية المرجعية موقعاً لتقديم الأجوبة النهائية الثابتة الأزلية

كان السيد عاكفاً، بل كان مولعاً، بابتكار وانتاج جدلية الأسئلة وطرحها، بجدلية مُضاعفة متحررة من “قيود” اليقين، ثابتة في حركية جدلية معرفية، في كل مجال وفي كل مستوى وفي كل فكر ومعنى ومقصد، ورأي ونظرية علمية أو أدبية وسواها من أنشطة الوعي والعقل الجدلي والمعرفة.وأهم ما كان يجاهر به ويناقشه، هو ذاك الفكر المفتوح على منطق العقل والثقافة الصافية النقية. كانت القيَمُ الشعرية لديه أعلى من القيَم الأخرى على أنواعها وتجلياتها. الشعر أساس في فكره وأبحاثه وعلومه.

إقرا أيضاً: محمود سويد لـ«جنوبية»: العلامة الأمين تَميّز بفهمه العميق لدور الدين في المجتمع

كما أنه كتب الشعر الموزون وقصيدة التفعيلة رغم أنه لم يتفرغ ،كلّياً، لكتابة الشعر (وقريباً تصدر باكورته الشعرية، “ديوان الأمين”، وننتظره بشغف). سنة على غياب السيد محمد حسن الأمين.

سنة أولى في الغياب ، بعد مسيرة طويلة لأكثر من ستة عقود، قضاها في البحث والعلم والقضاء الشرعي والادب والشعر، وفلسفة الحياة ودين الانسان والحوار والانفتاح على الآخر. سنة مرّت على غياب رجل الفكر، المفكر الاسلامي الكبير والعلامة العلم، فلا يمكن  الحديث عن “جبل عامل” وعلمائها واعلامها في الدين والفلسفة والفكر والشعر والادب، إلا بذكر السيد الامين وأمثاله، وما تركوه من بصمة في كل هذا المناخ الثقافي الواسع.

 نودعه اليوم مجدداً، نودع العلامة الأمين في سنته الأولى في حديقة الغياب ، باستذكار فكره النّيّر ، بالالتفات الى استمرارية هذا الفكر وهذا النهج وهذه الرؤى، التي آمن بها السيد وسعى لتحقيقها.كانت منارته عالية، تبثّ وعيها،  وستبقى منارة من منارات وثقافة لبنان وثقافة جبل عامل وثقافة الجنوب على مر الزمن.

سبقنا السيد الى الرحلة الأبدي ، بعدما استضافه الموت . غاب السيد ومكث في صمته الأبدي، رحل بصمت، لا يشبه الا صمته الصارخ المدوّي في العقل والروح. ملأ العقل والقلب والروح بالفكر  المنفتح والمفاهيم المتحررة من قيود التعصب،  فتعلم منه (القوم) كيف يفكر وكيف يحاور، وكيف يحب وكيف يعارض، وكيف يواجه التخلف وكيف يصنع الحياة الطيبة.

شكل العلّامة شبكة الامان والإيمان ببناء وطن خارج  معادلات الصراع الوطن القائم على الحب والعدالة والتسامح

كان مدرسة بملاذٍ آمن، للعقل وللوعي في زمن الفوضى، فوضى الفكر، وفوضى السياسة، وفوضى النصوص، وفوضى الاخلاق ، وفوضى التسلط والكره والحقد . نفتقده اليوم وبالأمس وغداً، كأحد رجالات الفكر على المستوى العربي والاسلامي، ويخسره لبنان،  كحالة فريدة استثنائية، تتخطى المذاهب والمواقف والاصطفافات.

السيد  الحالة اللبنانية الفريدة المنفتحة على الآخر وعلى الأفكار والساحات والاطياف والطوائف. وما كلمته الأبوية الراعية والواعية  والحريصة والمخلصة، إلا خير حضور له يدوم ويدوم..هذه الحالة كانت ركيزة الحوار والمحبة والتلاقي، ركيزة أساسية وحيدة في مجتمعنا المفتوح على جراح الفتنة والطائفية والبغضاء، وقد شكل العلّامة شبكة الامان والإيمان، ببناء وطن خارج  معادلات الصراع، الوطن القائم على الحب والعدالة والتسامح والمساواة. نودّعه اليوم في سنة أولى غياب، ونعود ونجدد قراءة إرثه الثقافي المكتوب بحبر العلّامة العلَم.

السابق
محمود سويد لـ«جنوبية»: العلامة الأمين تَميّز بفهمه العميق لدور الدين في المجتمع
التالي
ليلى عساف تقرأ لـ«جنوبية» في سيرة السيد الأمين: خسرت الأمة كبيراً من بلادي