دبلوماسية ربع الساعة الأخير

مصطفى فحص

هل هي فعلاً كذلك، إذ لم يبق أمام  الدبلوماسية إلا القليل، قبل أن تشتعل النار الأوكرانية التي قد لا تبقى محصورة داخل أوكرانيا، لذلك تكثف الأطراف المعنية بقرار الحرب والسلم جهودها في اللحظات الأخيرة  بالرغم من انعدام الفرص بالتوصل إلى  تسوية مؤقتة أو حل دائم.  فموسكو التي فاوضت الغرب وفقاً لمعادلة تُنسب لأشهر الدبلوماسيين السوفيات “غروميكو” الذي عبر عن دبلوماسية القوة السوفياتية بشعار “صافح بيد واحمل الحجر باليد الأخرى”، وقد نفذتها موسكو ميدانيا عندما عملت مؤسسات الدولة الروسية على خطين متوازيين، حيث كثفت حركتها السياسية والدبلوماسية بالتزامن مع أكبر حشد عسكري على حدود أوكرانيا.

ولكن بعد فشل التوصل حتى إلى تفاهمات مبدئية، ورد واشنطن وبروكسل السلبي على ورقة الشروط الروسية التعجيزية، تكثفت الحركة الدبلوماسية المكوكية من موسكو وإليها مرورا بعواصم القرار الأوروبي وصولا إلى  واشنطن، دبلوماسية تظهر أن الكرملين المقتنع أساسا بعدم جدوى الحوار مع الغرب قد تخلى عن دبلوماسية “غروميكو” وانتقل إلى الاعتماد على الدبلوماسية الخشنة التي برزت في التصرفات التي يتقنها الرئيس بوتين واللغة الحادة التي يعتمدها وزير خارجيته سيرغي لافروف.

كانت المسافة الفاصلة على طاولة المفاوضات ما بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون لا تشير فقط إلى التباعد الاجتماعي، بل إلى التباعد السياسي، فترتيب شكل اللقاء في الكرملين وكيفية تحديد أماكن جلوس الرئيسين، والمسافة بين جانبي الطاولة، ليست إلا انعكاساً للتباين أو التباعد الحاد في المواقف، فالساعات الخمسة بين ماكرون وبوتين لم تدفع الأخير إلى إبداء أي ليونة، بل استمر بممارسة خشونته الدبلوماسية، ففي المؤتمر الصحفي المشترك أحرج بوتين زائره الفرنسي وجعله عرضة لانتقادات أوروبية وأميركية، حيث وصفت صحيفة بوليتيكو الأميركية مجرى الاجتماع بأن بوتين سحق ماكرون، وذلك بسبب أجوبة بوتين الحاسمة والتي تخلو من أي فرصة للتسوية أثناء المؤتمر الصحفي المشترك مع ماكرون. 

فعليا تعمد الكرملين إظهار فشل مساعي الرئيس الفرنسي ماكرون مستخدما كافة الأساليب الممكنة لإبراز تشدده، وقطع الطريق على من يريد بناء الأمل على هذه الزيارة  واعتبرها خطوة نحو التوصل إلى  تسوية، إذ أن الكرملين أفرغ  زيارة ماكرون من مضمونها  قبل وصوله بهدف قطع الطريق على طموحات باريس في اختراق الموقف الروسي وتليينه، وذلك وفقا لما قاله المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن “الوضع معقد للغاية، ولا ينبغي للمرء أن يتوقع أي تغييرات حاسمة بعد اجتماع واحد من هذا النوع”.

من جهته أكمل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مواقف بلاده الخشنة، وتعمد أيضاً التعامل باستهتار مع مواقف نظيرته البريطانية إليزابيث تراس التي زارت موسكو قبل أيام، فمما لا شك فيه أن ريبة موسكو الدائمة من مواقف لندن دفعت لافروف إلى  التقليل من أهمية الزيارة، لكن ضيق الأفق الدبلوماسي دفعه هذه المرة إلى وصف اللقاء بحوار الطرشان، فأثناء مؤتمر صحفي مشترك عقده مع تراس يوم الخميس في موسكو قال لافروف “بصراحة، أشعر بخيبة أمل لأن حوارنا بمثابة حوار الطرشان. نتحدث لكننا لا نسمع بعضنا البعض”.

عمليا تبدو الولايات المتحدة الأكثر صرامة في الرد على الدبلوماسية الروسية الخشنة، ففي آخر تصريح لوزير خارجيتها أنطوني بلينكن يوم الجمعة الفائت والذي يمكن اعتباره رداً خشنا على ما اعتبره لافروف مزاعم غربية تتحدث عن أن روسيا تنتظر أن تتجمد الأرض في فصل الشتاء كي تدخل دباباتها أراضي أوكرانيا، حيث استمر بلينكن في التشكيك بنوايا موسكو وقال إن “غزو أوكرانيا قد يبدأ في أي وقت بما في ذلك خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، التي تجري حالياً في بكين”.

وبناء على ما تقدم، لم تعد فرص الدبلوماسية الناعمة ممكنة مع تصاعد حدة المواقف وفشل الدبلوماسية الأوروبية الثقيلة أمام  تعنت موسكو التي من المستحيل أن تساوم في الربع ساعة الأخيرة،  حيث حصرت خياراتها ما بين التوغل أو الغزو.

السابق
الميقاتي «يُمَنّن»..بلا خجل!
التالي
بالصورة: غضب كبير امام منزل ميقاتي.. محاولات لاجتياز الحواجز الحديديّة: «بدنا نتحمّل بعض»!