محاولة لفهم شعار «رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان»

قاسم سليماني نصب

مع إعلان تأسيس “المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان”، طُرح مصطلح “الاحتلال الإيراني” على النقاش بجديّة أكبر. التداول بالمصطلح ليس جديداً، بل جرى التطرّق إليه من قبل. وقد خصّص الصديقان منى فياض وحارث سليمان مقالين لمناقشة الموضوع من موقعهما المعارض للنفوذ الإيراني. لكن فيّاض دافعت عن المصطلح فيما سليمان فضّل استخدام مفهوم “الوطن المخطوف” من إيران عوض “الوطن المحتلّ” منها، وقدّم كلٌّ من الصديقين حججه القوية دفاعاً عن موقفه. 

لن أناقش مباشرة هذه الحجج، وإن كان نصّي سيتطرّق إلى بعضها، لكن في سياق منطقه الذاتيّ. 

الإشكالية المطروحة، أي صحّة إسباغ صفة الاحتلال على نفوذ إيران في لبنان، لا يطرحها فقط المشكّكون في صحّة المصطلح. فقد ظهرت جلياً أيضاً في تصريحين للناطقيَن البارزين باسم “المجلس الوطني” المذكور أعلاه، ولو أنّهما – ربّما – لم يتقصدا ذلك. فقد صرّح النائب السابق فارس سعيد بأنّه يجب “رفع الاحتلال الإيراني أكان سافراً أم مقنّعاً”، أي أن هذا الاحتلال غير واضح المعالم. تتوضّح الإشكالية أكثر في تصريح النائب السابق أحمد فتفت الذي اعتبر أنه يجب “إنقاذ لبنان من الاحتلال الإيراني الذي يمثله حزب الله”. نحن هنا إذًا أمام طرفين، طرف خارجيّ إيراني نعتبره محتلّاً، وطرف داخليّ لبناني يمثله على أرض الواقع. بهذا المعنى يصبح “السافر” في تصريح سعيد هو “حزب الله”، فيما “المقنّع” هو إيران.

اقرأ أيضاً: الانتخابات شيء والسلاح والحقائق المطلقة شيء آخر

 إنّ بيان الإعلان عن تأسيس “المجلس الوطني” لا يناقش المصطلح للأسف، بل يكتفي بالإشارة إلى تصريحات للإيرانيين يعتبرون فيها أنهم يسيطرون على عواصم عربية، من بينها بيروت، من خلال جيوش تابعة لهم. وهذا صحيح. 

وكان يُمكن للبيان أن يُضيف أن نصر الله اعتبر نفسه منذ فترة طويلة جندياً عند الولي الفقيه الإيراني، ممّا يجعلنا نستنتج أن “حزب الله” الذي يقوده جنديّ عند إيران، هو تابع عسكرياً لها. وقد قال نصر الله أخطر من ذلك في كلمته الأخيرة، إذ اعتبر أميركا مسؤولة عن جرائم إسرائيل، فهي التي تموّلها وتزوّدها بالسلاح. ويُمكن للمنطق نفسه أن ينطبق على علاقة إيران بـ”حزب الله”. فإذا كان “حزب الله” يسيطر عسكرياً على لبنان، فهذا يعني أن إيران هي التي تسيطر عليه، فهي التي تزوّد “حزب الله” بالمال والسلاح، باعتراف نصرالله نفسه. 

يُمكننا أن نضيف أنه إذا كانت الإشكالية في مصطلح “الاحتلال الإيراني” هي عدم وجود جيش إيراني على الأراضي اللبنانية، فإن استباحة “حزب الله” للحدود بين لبنان وسوريا، يجعل لبنان وسوريا مساحة أرض واحدة، ويحوّل الوجود العسكري الإيراني المؤكّد في الأراضي السورية ذا امتداد ميدانيّ حتميّ على الأراضي اللبنانية. 

بالرّغم من هذه الاعتبارات، يصطدم مصطلح “الاحتلال الإيراني” بمشكلتين مترابطتين؛ أولاً كيفيّة ترجمته كمطلب، وثانياً كيفية تحقيقه على الأرض. بالرغم من أن العنوان الأساسي هو “رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان”، فالمطالب التي يطرحها “المجلس الوطني” لا تأتي على ذكر إيران بل “حزب الله”، بما فيها تطبيق القرارات الدولية واتفاق الطائف. ليس مفيداً في مسائل بهذه الخطورة إطلاق مشروع وطنيّ تحت عنوان لا يُمكن ترجمته بمطالب متّصلة بوضوح في العنوان، حتى لو اعتبرنا أن تحقيق هذه المطالب يخدم حكماً الغرض من العنوان. 

لنأخذ أيضاً تعبير “رفع الاحتلال”. من عادة التعابير المتعلّقة بالتخلّص من احتلال أن تكون على شاكلة “تحرير الأرض من الاحتلال” أو “انسحاب جيش الاحتلال”. يُمكن القول بالطبع إنّنا أمام نوع آخر من الاحتلال، أكثر حداثة، احتلال من بعد – إذا شئتم – ممّا يتطلّب استخدام تعابير أخرى. وهذا النوع الآخر هو هيمنة من بعد أو بالواسطة، أكثر منه احتلالاً مباشراً بالمعنى التقليدي للكلمة. وربّما كان هذا في لا وعي مؤسّسي “المجلس الوطني”، فكلمة “رفع” تناسب أكثر واقع الهيمنة، فقد اعتدنا أن نقول “رفع الهيمنة” وليس “رفع الاحتلال”. 

إذا أبقينا تعبير “رفع الاحتلال”، فماذا يمكن أن يعني ذلك عندما يكون هذا الاحتلال مقنّعاً؟ ومن يرفعه؟ هل يرفع نفسه أم أن المقصود ضرورة وجود طرف ثالث لرفعه؟ وإذا كان المقصود رفعه عن طريق مجلس الأمن الدولي من خلال تطبيق القرارات الدولية، فهذه القرارات لا تذكر إيران. 

خصوصية هذا الاحتلال أنه كان السبّاق لتعريف نفسه بهذه الصفة، لا بل هو يتباهى بذلك. السؤال هو لماذا يجاهر باحتلاله بالرغم من أن لا وجود ملموساً لجيشه على أرض لبنان، وليس سهلاً اتهامه باحتلال البلاد؟ ولمن يوجّه رسالته؟ هو بالتأكيد لا يبالي بردّ فعل الشعب اللبناني، بل يريد أن يقول لمفاوضيه الدوليين حول سلاحه النووي، وحول نفوذه الإقليمي، إنه يمسك بالورقة اللبنانية تماماً كما يمسك المحتلّ بأرض محتلّة. كذلك يفعل نصرالله. فهو لا يبالي بردّ فعل الشعب اللبناني على قوله إنه جندي عند الولي الفقيه أو أن تمويله وتسليحه من إيران، بل يريد أن يقول لمفاوضي إيران إن أمره بيدها، وعليهم مفاوضتها بشأن لبنان. 

فهل قرّر “المجلس الوطني” أن يصدّق اللعبة، لكن أن يلعبها معكوسة، فيقرّ بالاحتلال لكن بهدف منع إيران من التفاوض على مصير لبنان، أو على الأقلّ حجز مقعد لبناني إلى طاولة المفاوضات الدولية، المتسارعة اليوم، وفي ظلّ تقاعس السلطة الحالية وارتهانها؟ فيصبح عندها معنى “رفع الاحتلال”، هو رفع الغطاء الدولي عن إيران كمفاوض على مصير لبنان. لا أجد معنىً ملموساً آخر لتعبير “رفع احتلال” غير مرئيّ على الأرض. 

المشكلة تُصبح شائكة ومميتة، إذا كان المقصود “رفع” من يمثّل إيران في لبنان، أي “حزب الله”. لا أتوقف هنا فقط عند الصعوبة العسكرية لإنجاز هذا الهدف، إلا إذا افترضنا تطبيق القرار الدولي ١٥٥٩ بالوسائل السلميّة. فكيف “نرفع” عن لبنان، كتلة شعبية لبنانية ضخمة من الطائفة الشيعية؟ 

عندما كان الجيش السوري يهيمن على لبنان، انقسم اللبنانيون بين من اعتبره احتلالاً ومن اعتبره وجوداً. وهنا أيضاً تكاثرت الحجج وتضاربت. في حينه، فضّلتُ استخدام تعبير “الاحتلال الوجودي”، للدلالة على تقبّل جزءٍ لا بأس به من الشعب اللبناني لفكرة وجود جيش سوري على الأراضي اللينانية، أي عدم اعتبار وجوده العسكري احتلالاً، بل تجسيداً لوجود وحدة مسار ومصير بين البلدين. وهذه النزعة هي امتداد لفكرة أن لبنان انتُزع من سوريا عندما نال استقلاله. 

المشكلة اليوم أعمق، وتكمن في أن قسماً كبيراً من الشيعة اللبنانيين يعتبرون أن وجدانهم الدينيّ والاقتصاديّ والعسكريّ جزءٌ من إيران. وبما أنّ إيران طرف خارجيّ، فهذا يعني أن وجدان هذه الفئة من الشيعة محتلّ منها، لكن برضاها الكامل، ممّا يجعل نصرالله يصرّح وسط تصفيق شيعي عارم، وكأن المسألة أكثر من طبيعية بأنه جندي عند الولي الفقيه، وبأن كلّ ما يأكله ويشربه ويقاتل به مصدره إيران. المسألة لا تتوقّف عند هذا الحدّ، فهذا الجزء من إيران يهيمن على مقدرات البلاد وقرارها السياسي الداخلي والخارجي. من هنا، يصحّ القول إن إيران تهيمن على لبنان من دون أن تحتلّه مباشرة. 

كيف نرفع “احتلالاً وجدانيّاً” من دون معالجة وطنيّة للمسألة الشيعيّة في لبنان، التي أوجدها تمثيل “حزب الله” للطائفة الشيعيّة؟ 

لا يُمكن للمعالجة الوطنيّة أن تتمّ من دون الاتّفاق على استراتيجية دفاعيّة تقرّها وتقودها الدولة، ويكون “حزب الله” جزءاً منها. وهذا يفترض بدوره اعتراف “حزب الله” بالوطن اللبناني ككيان ينتمي إليه، ويحدّد هويّته. يترتّب على ذلك قبول مبدأ أنّه لا يحقّ لطرف لبناني أن يتلقّى مباشرة أموالاً أو سلاحاً من الخارج؛ فهذه خيانة وطنية في عرف الأوطان، تستوجب السجن كما يحصل حالياً مع الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي. ينطبق ذلك على كلّ الأطراف في لبنان، أكان هذا الطرف تحت تأثير “الاحتلال الوجداني الغربي”، أو تحت تأثير “الاحتلال الوجداني السعودي”، حتى لو كانت درجة التأثير لم تصل عندهما في أيّ وقت إلى وسع وعمق تأثير “الاحتلال الوجداني الإيراني”. 

التخلّص من “الاحتلالات الوجدانية” يفترض تطوّر ثقافة الحرية في البلاد. فجوهر الاحتلال هو فرض إرادة طرف على طرف آخر. ويُمكن هذا الفرض أن يتمّ عسكرياً أو جسدياً أو قانونياً أو ثقافياً أو دينياً. القدرة على التحرّر الوجداني من الاحتلالات مرتبطة بعدم تقبّل الفرد والجماعة لفكرة “شرعية فرض الإرادة” مهما كان مصدرها، أي أنّه مرتبط بمدى ترسّخ فكرة حرية الفرد والجماعة عند الشعوب. 

أرجو أن تكون محاولتي لفهم شعار “رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان” قد ساهمت، بالرغم من إشكاليّات المصطلحات المطروحة في توسيع البحث عن أفضل السبل لرفع هذه الهيمنة القاتلة للبنان، كياناً وشعباً.

السابق
هكذا أصبح السعر الجديد لقارورة الغاز
التالي
ضرائب مخيفة في موازنة 2022.. هذه ابرز البنود المسربة!