2021 عام الانهيارات.. 2022 من يوقف النزف؟

لبنان

لم تكد تمضي أسابيع قليلة من العام 2021 حتى اكتشف اللبنانيون أن رهانهم على عام أفضل من السابق كان في غير محله، وأن سنوات السوء سوف تلاحقهم في هذا العام، ومن غير المرجح أن يتركوا صحبتها في العام المقبل… على أقل تقدير.

دخل اللبنانيون في العام 2021 وهم مثخنون بالجراح. الانهيار المالي والاقتصادي، الذي ضرب البلاد، خلق موجة من عدم اليقين عند اللبنانيين الذين كانوا يشاهدون عملتهم الوطنية تنهار أمام الدولار، ومدخراتهم في المصارف تطير في مهب الريح، فيما «كورونا» يفتك بهم، وجراح تفجير المرفأ الذي ضرب قلب بيروت كانت لا تزال ساخنة. وفي المقابل، كان السياسيون يتلهون بمعارك «طواحين الهواء» ويختلفون على حصصهم في الحكومة، التي كان من المفترض بها أن تساهم في عملية تخفيف الارتطام الناجم عن الانهيار الاقتصادي، وهو ما لم يحدث، بحسب “الشرق الأوسط”.

اقرا ايضاً: خصوم عون يرفضون تعويمه بـ«الحوار»..وبري «يُكعّب» لباسيل بمرسوم ضباط الـ94!

كان اللبنانيون يأملون بولادة حكومة مستقلة حيادية تقود عملية إصلاح البنية الاقتصادية والسياسية. ويأملون في أن تكون الحقيقة قد ظهرت في ملف التفجير الذي ضرب قلب العاصمة. لكن الحكومة لم تُشكل إلا بعد توافقات سياسية بين القوى المشاركة فيها، ومن ضمنها توزيع الحصص على الطوائف، وهو ما شكل صدمة للناشطين المدنيين والمعارضين الذين أدانوا الاستمرار بتطبيق الأعراف نفسها في عمليات تشكيل الحكومات القائمة على المحاصصة، وفي مقدم المعترضين حزبا «الكتائب اللبنانية» و«القوات اللبنانية» اللذان لم يشاركا بالحكومة.

أنهى تشكيل الحكومة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي حالة من الشلل السياسي استمرت 13 شهراً. فقد ظل لبنان من دون حكومة منذ قدم رئيس الوزراء حسان دياب استقالته عقب الانفجار في مرفأ بيروت في 4 آب 2020 الذي أدى إلى تدمير المرفأ والمناطق المحيطة به. فشل السفير مصطفى أديب في تشكيل حكومته بداية، ثم فشل الرئيس سعد الحريري في تشكيل حكومة منسجمة مع شروطه لجهة تأليف حكومة من الاختصاصيين المستقلين لا تتضمن ثلثاً معطلاً لأحد. بعد تنحيه، سمى البرلمان الرئيس ميقاتي الذي لم يُقابل بشروط تشبه الشروط التي تمت مواجهة الحريري بها، فنجح بالتأليف.

كان الملف الحكومي من أبرز معالم العام. قضى اللبنانيون هذا العام من دون حكومة في بدايته، وأنهوه بحكومة مشلولة غير قادرة حتى على الاجتماع. فالحكومة التي هلل كثيرون لتأليفها، وانخفض سعر صرف الدولار إلى حدود الـ15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد بعدما وصل قبل تأليفها إلى 23 ألفاً، علقت جلساتها بعد جلستين عقدتهما. انفجر ملف التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت في وجهها، وحوصرت بخلافات مكوناتها. انقسمت القوى السياسية الممثلة فيها، بين مؤيد لتحقيقات وإجراءات المحقق العدلي في ملف المرفأ القاضي طارق البيطار، وبين رافض لها اتهم إجراءاته بالتسييس والاستنسابية. ووصل الخلاف إلى مجلس الوزراء حيث انفجر الصراع بين فريق «التيار الوطني الحر» من جهة، وفريق «حزب الله» و«حركة أمل» و«تيار المردة» من جهة ثانية. تأزم الوضع أكثر، وانفجر على شكل تطور أمني في الشارع بين منطقتي الشياح وعين الرمانة، خطوط التماس السابقة في الحرب اللبنانية بين المسلمين والمسيحيين، وتم احتواء الموقف من غير أن تهدأ تداعياته.

والواقع أن الخلافات السياسية التي عطلت اجتماع الحكومة، علقت المساعي الحكومية لتحقيق الإنجازات. لا مفاوضات مع صندوق النقد الدولي اكتملت، ولا ضبط لأسعار صرف الدولار. واصلت العملة المحلية انهيارها، وانزلق معظم اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر. لم يتغير أي شيء على أزمات كانت قائمة قبل تشكيلها، وخصوصاً لجهة انقطاع الكهرباء. الفارق الوحيد، أن اللبنانيين قضوا الصيف بلا كهرباء ولا ضوء، بفعل انقطاع المحروقات التي تشغل مولدات الشبكة الرديفة. بعد تشكيل الحكومة، رُفع الدعم عن المحروقات، وارتفع ثمنها بشكل كبير، فتوفرت الكهرباء لدى فئات معينة قادرة على دفع رسوم الشبكة الرديفة، فيما حلقت أسعار المحروقات إلى مستويات وصلت إلى 1500 في المائة ارتفاعاً خلال عامين.

الأزمات التي تحاصر اللبنانيين لم تنتهِ. تدهور سعر الصرف قلص قدراتهم على العيش، بفعل التراجع الكبير في الرواتب نتيجة انهيار القيمة الشرائية. المؤسسات الحكومية شبه معطلة، والبطالة ترتفع، والنخب الأكاديمية والعلمية، ومن بينها الكوادر الطبية، تغادر إلى خارج البلاد، فيما تضرب البلاد موجة جديدة من الإصابات بـ(كوفيد – 19) مع ارتفاع حوادث السرقة والقتل.

وخلال أقل من عامين، خسر عشرات الآلاف وظائفهم أو جزءاً من رواتبهم، وتراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار تدريجاً إلى أن فقدت أكثر من 90 في المائة من قيمتها، وبات أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وارتفع معدل البطالة.

وقال البنك الدولي في تقرير نشره في أيار الماضي، إن الأزمة الاقتصادية في البلاد يمكن أن «تصنف ضمن الأزمات الثلاث الأولى في العالم خلال الـ150 عاما الماضية». بتقديره، هي أسوأ من أزمة اليونان، التي اندلعت عام 2008، وتسببت في تشريد عشرات الآلاف من الأشخاص ودخول سنوات من الاضطرابات الاجتماعية، وأكثر حدة من أزمة عام 2001 في الأرجنتين، والتي أسفرت أيضا عن اضطرابات واسعة النطاق.

وتحاول القوى السياسية محاصرة الاضطرابات. تعد بالإصلاحات، وتراهن على مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وتعد بدفع مساعدات اجتماعية بالدولار الأميركي بدءاً من شهر آذار المقبل. هي مساعدات ينظر إليها المعارضون على أنها «مسكنات» بهدف «منع الانفجار». ويتصاعد التصعيد السياسي بين القوى الداخلية قبل الانتخابات النيابية المزمعة في مايو المقبل.

لم يبقَ أمام لبنان إلا التفاوض مع صندوق النقد الدولي لاستدراج مساعدات أجنبية. المفاوضات التقنية شارفت على نهايتها لتبدأ بعدها مرحلة المفاوضات على السياسات النقدية والاقتصادية. يراهن لبنان على الحصول على الأموال التي تقدر بأربعة مليارات، بحسب ما أعلن حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، و«يمكن أن ترتفع إلى مبلغ يتراوح بين 12 مليار دولار و15 ملياراً». وأوضح أن «هذا المبلغ يساعد لبنان لينطلق مجدداً ويستعيد الثقة». وأضاف: «بقدر ما نتمكن من استقطاب أموال… بقدر ما نتعافى بسرعة… هذا هو المفتاح لأن ينطلق لبنان ويستعيد البلد نشاطه الطبيعي».

محطتان بارزتان يعوّل عليهما من اجل البدء بتغيير المشهدية السوداء ووقف الانهيار الحاصل: توقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، قد تكون خلال شهر آذار المقبل، لتليها الانتخابات النيابية التي من المتوقّع ان تجري في ايار وتحدث تغييراً في المشهد السياسي. فهل يمكن التعويل على الاستحقاقين من اجل الحدّ من السقوط الحرّ والبدء بالنهوض الاقتصادي؟ في السياق، يقول مدير مؤسسة البحوث والاستشارات في لبنان الخبير الاقتصادي الدكتور كمال حمدان ل”الجمهورية”: «مضى عامان على بدء الأزمة، وللأسف فإنّ كل المؤشرات لا تزال بالاحمر، وتلك التي جرى حسم جزئي او كلي في شأنها لا تزال تراوح في دوائر مغلقة، سواء التدقيق الجنائي او الرقابة على التحويلات. صحيح انّ هناك تقدّماً ما في اتجاه تحديد الفجوة، لكن الارقام لا تزال غير نهائية، وهناك خلاف على آلية التوزيع، ناهيك عن بعض الملفات التي لا نزال نسمع مراراً وتكراراً النية بالالتزام بها، الّا انّها لا تزال حبراً على ورق، مثل اصلاح القضاء، اصلاح التشريعات، مكافحة الاحتكار، توحيد اسعار الصرف، اعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يعالج خسائره وميزانياته على طريقته الخاصة، من دون تحديد اي إطار لإعادة هيكلة هذا القطاع الذي من دونه لن تكون هناك أي امكانية لعودة الاستثمارات الى البلد والى خلق فرص عمل والى إعادة الطمأنينة. كذلك تغيب كل الافكار المتعلقة بإعادة هيكلة الدين العام والإنفاق العام وتحسين الإيرادات العامة.
في الواقع، لوكانت لدينا خطة للتعافي والإنقاذ والنهوض بالاقتصاد وتندرج ضمنها كل هذه الملفات والمتغيّرات، خصوصاً ارتباطاتها ببعضها البعض، لكنا حملناها وفاوضنا على اساسها من موقع القوي، ولو كنا نملك مقاربة كلية للاقتصاد تتجاوز الترقيعات التي قُدّمت خلال فترة الأزمة، لما كان انتهى ملف الدعم بهذه الطريقة الهمايونية. فقد طالبنا طوال عامين بخطط تؤمّن لنا soft landing اي هبوطاً سلساً، الّا ان ما حصل هو تدحرج للمصائب والأثقال على المواطنين بين ليلة وضحاها. ففجأة توقف الدعم على المحروقات، وطار الدعم على الادوية… وبتنا اليوم نتحدث عن تصحيح اسعار الليرة والقاضي برفع السعر الرسمي من 1500 ليرة الى 6000 ليرة او 8000 ليرة. والله اعلم على اي رقم سيثبت سعر الصرف الرسمي. ومع الأسف، كل هذه المبادرات اتُخذت بقرارات أحادية منفصلة عن الخطة العامة والشاملة، لا بل غير مرتبطة بها».

ورأى حمدان انّ «كل القرارات التي اتُخذت خلال الفترة الماضية تنمّ عن سوء نية، ربما المقصد منها الاستمرار بالدوران في الحلقة المفرغة كي نصل الى ما وصلنا اليه اليوم من انهيار، وذلك بغير مصلحة الأغلبية الساحقة من اللبنانيين الذين باتوا مرغمين اليوم على إيجاد حلول لقضاياهم من خلال القيام بتصفية سريعة، وبظروف غير مناسبة، لموجوداتهم ومسكنهم واراضيهم وودائعهم من اجل تأمين قوتهم اليومي او للهجرة. وعليه، يمكن القول انّ ما وصلنا اليه وما عايشناه من طوابير الذلّ وطوابير البنزين والدواء والقمح والخبز، اتى بنتيجة سياسة السقوط الحر والإنكار التي اعتُمدت لمواجهة الأزمة، ولا شيء يمنع ان تعود هذه الطوابير، لأنّ رفع الدعم التدريجي كان مشروطاً ان يقابله تقدّم في شبكات الأمان الاجتماعي، الّا انّ هذا الامر لم يتحقق».

للأزمة حلولها

أمام هذه الصورة السوداوية، يرى حمدان انّه «لا يمكن للحلول ان تبدأ مع الطبقة السياسية نفسها. فالمطلوب اليوم تأليف حكومة استثنائية من خارج المنظومة السياسية بصلاحيات استثنائية، خصوصاً في المجال التشريعي، كي تحدّد الفجوة بشكل حاسم وتقوم بتدقيق جنائي شفاف تستفيد من نتائجه، لتحدّد في ضوئه اطاراً لتقاسم الخسائر يخضع لأولويات تبدأ بالمساهمين والمصارف. إذ انّ كل الأزمات المماثلة في العالم تبدأ بمحاسبة اصحاب المصارف المساهمين وكبار المصرفيين بشكل خاص، يليه مصرف لبنان، ثم كبار المودعين، تليهم الدولة بالدرجة الرابعة. بعد توزيع الخسائر على هذه الاطراف، إن بقيت هناك فجوة، فيمكن توزيع بقايا الخسائر بشكل طبيعي على الشرائح الاجتماعية الاخرى بشكل تصاعدي.

كما لا يجوز إهمال الكشف عمّن اخرج امواله من لبنان بعد تاريخ 17 تشرين الاول 2019 وحجم المبالغ التي هُرّبت، وتتمثل المشكلة بالتقديرات المتفاوتة لحجم هذه المبالغ وتعدّد الجهات التي تدّعي امتلاكها للارقام التي تخضع لأهوائها السياسية. الأرقام المتداولة تتراوح ما بين 10 الى 20 مليار دولار. وحده القضاء قادر على الحسم في هذا الموضوع من خلال التوجّه الى الدول التي تلقّت انظمتها المصرفية هذه الاموال. الّا انّ هذه الخطوة تحتاج الى تفويض من الحكومة (التي يفترض ان تكون من خارج المنظومة) والى قضاء نزيه مهني ومستقل يمكن ان يتواصل مع الدولة لإرجاع ما خرج من اموال من لبنان.
الى ذلك لا يزال في امكاننا ان نحلم بإعادة هيكلة الدين العام والإنفاق العام، كما لا بدّ من نظام ضريبي جديد يقوم على التصاعدية، لكن قبل شيء يجب البدء بتحقيق التغطية الصحية الشاملة واعادة النهوض بالتعليم الرسمي»، مؤكّداً انّ توفير هذين العاملين سيحدّان من الهجرة.
كما لا يجب اهمال من استفاد على مدى 20 عاماً بشكل قانوني، انما غير شرعي، من سياسات عامة. صحيح انّها كانت ملتزمة بالقوانين انما انتهت الى إفقار 80% من الشعب في مقابل استفادة 20% من الناس الذين تضاعفت ثرواتهم خلال هذه الفترة. انطلاقاً من ذلك يرى حمدان انه «يجب اعتبار ثلث خدمة الدين على الاقل غير مبرّرة بالمعايير الاقتصادية والتقنية». فهل يجوز ان تشكّل كلفة خدمة الدين 27 مليار دولار من اصل 82 مليار دولار منذ العام 1993 حتى اليوم، اي انّه خلال 25 عاماً دُفع 82 مليار دولار فوائد وثلثها على الاقل اتت بشكل قانوني انما غير شرعي؟ لذا اعتبر حمدان انّه يجب على الدولة ان تفاوض هؤلاء الذين استفادوا على مدى سنين، وتقدّم لهم خيارات ما بين رفع السرية المصرفية عن حساباتهم او المساهمة بثلث او ربع المبالغ الموجودة في حساباتهم للملك العام، من اجل اعادة النهوض بالاقتصاد وبناء اقتصاد منتج.

الانتخابات ام صندوق النقد؟
ورداً على سؤال عمّا اذا كان التغيير سيبدأ من الانتخابات ام من بعد الاتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي يقول حمدان: «اذا كانت الانتخابات ستأتي بنفس الطبقة السياسية التي تسببت بالانهيار الذي نعيشه فلا تفاؤل مرتقباً.
واذا لم تُقدِم «ام الصبي»، اي الدولة، على تحديد الاولويات واحتياجاتها، وذهبت الى التفاوض مع صندوق النقد الدولي عن وعي، فلا يمكننا ان نتفاءل خيراً، وإذا ذهبنا الى التفاوض حاملين همّ الطوائف والمذاهب والمصالح السياسية، واذا فاوضنا بقلة مهنية، أخشى ان يتجّه البلد الى عقد إذعان».

السابق
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الأربعاء في 29 كانون الأول 2021
التالي
هل تقنع فرنسا السعودية بالمشاركة في صندوق مساعدات لبنان؟