وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: تفاهم مار مخايل.. مؤشرات النهاية

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

ثمة معطيات تشي بأن اتفاق مار مخايل، الذي أبرم بين حزب الله وميشال عون، بات منتهياً وفاقداً لجدواه، على الرغم من التأكيد الرسمي من طرفي الاتفاق ببقائه واستمراريته.

إقرأ أيضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: «حزب الله»..صانع لبنان على «شاكلته وهيئته»!

فالاتفاق جاء في لحظة حرجة لحزب الله نسبياً، إثر الانسحاب السوري الذي أربك الحزب، بعدما كان الوجود السوري يؤمن الغطاء السياسي وحتى الدولي لسلاحه، وإثر تشكل تحالف سياسي جديد، عرف حينها بقوى 14 آذار، حظى بتأييد شعبي كاسح وبدعم دولي، وكان البحث في شرعية سلاح الحزب من أولى أولوياته.

هي وضعية خلقت عزلة سياسية لحزب الله في الداخل، ومأزقاً قانونياً لتشكيلته الأمنية وجيشه المنظم، إضافة إلى ملاحقة وضغط دوليين.  هذه الوضعية لم يكن بإمكان الحزب الخروج منها بالمواجهة العسكرية، لأن طبيعة هذه الوضعية قانونية وسياسية، ولا تحل إلا بمداخل سياسية وشرعية، واللجوء إلى السلاح يزيد من عزلة الحزب، ويؤكد لا شرعيته ويوفر ذريعة لأعدائه الدوليين بضربه وربما شله أو إبادته. 

الاتفاق جاء في لحظة حرجة لحزب الله نسبياً إثر الانسحاب السوري الذي أربك الحزب بعدما كان الوجود السوري يؤمن الغطاء السياسي وحتى الدولي لسلاحه

كان الخيار السياسي، هو خيار حزب الله الوحيد الذي يخرجه من عزلته من جهة، ويؤمن له شرعية لسلاحه من جهة أخرى. هذا الخيار ما كان لينجح، لو اكتفى الحزب بحلفاء النظام السوري التقليديين، الذين أصابهم الوهن والتآكل بعد الانسحاب السوري. فكان ميشال عون بمثابة الاختراق الكبير الذي حققه الحزب، بعدما داعب مخيلة عون وحرك شهيته بالوصول إلى رئاسة الجمهورية، وقوى الأمل لديه بأنه بات أقرب ما يكون إليها. 

بقدر ما حملت سيرة ميشال عون السياسية والعسكرية عناوين وطنية ذات جاذبية شعبية، لكن شخصانيته المتضخمة وذاتيته الطموحة، ولدت فيه نرجسية فائقة، وكثفت بداخله عقيدة الشخص المُخلِّص، وجذرت رؤيته لنفسه قائداً فائقاً ذي قدرات استثنائية.

كان عون بمثابة الاختراق الكبير الذي حققه الحزب بعدما داعب مخيلة عون وحرك شهيته بالوصول إلى رئاسة الجمهورية

هي سمات لا يشبعها سوى الشعور بالقداسة الذاتية، التي تحققها مخاطبة الجماهير المحتشدة، التي تهتف بإسمه وتتدافع لنيل البركة منه، وسوى الشعور بالفرادة والتفوق والاقتدار، الذي لا يملؤه سوى تسلم أعلى مواقع السلطة.  هي سمات ترى العالم من ثقب “أنا” شديدة التركيز، وتُصيِّرُ الواقع وسيلة تحقيق للذات وتوسيعاً لمداها، وتوجز المشروع السياسي طموحات خاصة، وتختزل الدولة فكرةَ سلطة، وتجعل من  الثوابت الوطنية الكبرى، مثل السيادة ومرجعية الدستور والعيش المشترك  عناوين عائمة تقبل التأويل، أي تقبل التقدير الشخصاني والإسقاط الأيديولوجي ومواداً طيِّعة تُسخَّر للتفاوض والمساومة.

كان اتفاق مار مخايل بمثابة تقاطع بين براغماتيتين: براغماتية عونية، وجدت في الاتفاق وسيلة للقفز فوق المنافسة القوية التي لقيها من قيادات قوى 14 آذار، ووسيلة آمنة ومضمونة لتحقيق هدف أوحد وهو الوصول إلى الرئاسة.  وبرغماتية حزب اللهية وجدت في التحالف مع عون، إضعافاً لجبهة 14 آذار عبر تقسيم الكتلة الشعبية المؤيدة لهذه الجبهة، واستراتيجية ناجحة: لكسر عزلته عبر ضم قاعدة مسيحية عريضة حليفة له، ولتأمين غطاء سياسي وقانوني لسلاحه في الداخل، والأهم من ذلك إطلاق ورشة بناء منظومة سياسية، تمسك مفاصل قرار الدولة عبر التحكم بمؤسساتها الدستورية.

حقق اتفاق مار مخايل غرضه للطرفين لكن الرابح الأكبر فيه كان حزب الله

حقق اتفاق مار مخايل غرضه للطرفين، لكن الرابح الأكبر فيه كان حزب الله. فالرئاسة التي استلمها عون مكبلة ومقيدة وقوة نفوذها محدودة، أي موقع هش عمل الرئيس عون جاهداً، من دون جدوى، التغطية على هشاشتها، عبر تحويلها إلى منصة نفوذ وشبكة مصالح للتيار الوطني الحر.  أما حزب الله فلم ينتزع اعترافاً بشرعية سلاحه فحسب، بل انتزع تنازلاً عن السيادة التي جوهرها: حصر السلاح بيد الدولة ومرجعيتها الحصرية في تأمين حدود الوطن. هو تنازل أقرب إلى نقل السيادة من الدولة إلى الحزب، ليصبح هو المرجع الحصري في تقرير مسائل الحرب والسلم وضبط الحدود.  وهو ما جعل اتفاق مار مخايل بمثابة أولى مبادرات تقويض الدولة، عبر تعطيل وظائفها الأساسية وتجويفها من حقيقتها الجوهرية، لأجل أغراض شخصية وأيديولوجية معاً. أي كان ثمن هذا التفاهم، بقصد أو بغير قصد، هو الإجهاز على الدولة كمدخل لتقاسم غنائمها.

استمرار اتفاق مار مخايل بعد تسلم ميشال عون للرئاسة، كان مرهونا ببقاء المعطيات التي تضمن تحقيق الغرض المبتادل منه: أي حيازة رئاسة مقابل تقديم سيادة من قبل رئيس التيار الجديد جبران باسيل، وحيازة سيادة مقابل تأمين الوصول إلى الرئاسة من قبل حزب الله.   هي مقايضة بدأت المعطيات المحلية تقوضها والمعطيات الدولية تحبطها. 

فالإستياء المسيحي العارم، بسبب فشل رئاسة عون والكوارث المالية التي تسببت بها، وبسبب سوء أداء جبران باسيل ونزقيته السياسية، أديا إلى تقلص جمهور التيار وتآكل شعبيته مسيحياً، وإلى تقلص كبير في كتلته النيابية في الانتخابات النيابية القادمة بحسب استطلاعات الرأي.  ما يعني افتقاد التيار قوة توظيف الشارع المسيحي في أية مقايضة أو صفقة، أي العجز عن تأمين غطاء مسيحي لسلاح الحزب مقابل حيازة الرئاسة.  كذلك فإن وضع جبران باسيل على لائحة الفساد من قبل وزارة الخزانة الأمريكية تسبب بتقلص قوة حضوره وعلاقاته الدولية إلى حد بعيد، وانتزع منه الصدقية الأخلاقية وقلص مساحة نشاطه وتأثيره الدوليين، بالتالي لم يعد وسيطاً دبلوماسياً مناسباً للحزب في إرسال رسائله الدولية إلى الخارج.  هي معطيات تدفع الحزب إلى صرف النظر عن خوض معركة الرئاسة لصالح باسيل، وإلى البحث عن بدائل أكثر جدوى وفائدة.

الإستياء المسيحي العارم بسبب فشل رئاسة عون والكوارث المالية التي تسببت بها وبسبب سوء أداء جبران باسيل أديا إلى تقلص جمهور التيار

في الطرف المقابل، فقد كان استياء التيار من أداء حزب الله كبيراً، إذ أن الحزب سهل وصول عون إلى الرئاسة، لكنه وقف على مسافة في معركة صراع عون مع الأقطاب الأخرى، مثل الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري، وتناقض معه في أكثر من مناسبة تعيينات، وتواجه معه في وضعية القاضي طارق البيطار، ورأى أن تعطيل الحكومة الأخيرة ومنعها من الإجتماع، هو مس بمكانة الرئاسة الأولى وأفشال لعهده، كما إن دعم الحزب لقانون الانتخاب بصيغته الراهنة، الذي يهدد بتقليص كتلة التيار النيابية إلى حد النصف على الأقل، هو مؤشر على تخلى الحزب عن التيار في استحقاقاته القادمة.  كل ذلك أيقظ التيار على أن اتفاق مار مخايل بات فاقداً لروحيته ولجدواه. بخاصة وأن تحديات التيار الحالية تقلصت من طموح الوصول إلى الرئاسة، إلى هاجس البقاء واستعادة شعبيته وثقة جمهوره المسيحي، وهو تحد لا يمكن للحزب أن يؤمنه له، بل إن ابتعاد التيار عن الحزب، في هكذا لحظة مصيرية، تفيده أكثر بكثير من بقاءه حليفاً له.

أثبتت التجربة السياسية، أن تفاهم مار مخايل بين ميشال عون وحزب الله، لم يكن لغرض تحقيق مقاصد وطنية كبرى، بل كان عقداً بين مقاولين.    

السابق
الحلو لـ«جنوبية»: الإعتداءات على «اليونيفيل» رسائل من حزب الله ضد إستعادة الدولة
التالي
عبد الحسين شعبان يكتب لـ«جنوبية»: بين إستغلال الفكر والسياسة