في تفاهة الدكتاتور وجلاديه

منى فياض

يتشابه المستبدون عموماً، مع تمايزات بالطبع تعود للسمات الشخصية والاجتماعية والثقافة التي تحيط بكلٍ منهم. وستقيمون التشبيهات والمقارنات مع من تعيشون في ظله بأنفسكم. سأتتبع الصفات التي طبعت هتلر، انطلاقاً من رواية La part de l’autre لمؤلفه اريك- ايمانويل شميت، والذي عالج فيها شخصية أدولف هتلر. وافترض شخصية أخرى وبيوغرافيا مختلفة، فيما لو ان هتلر قُبِل في كلية الفنون في فيينا، وبالتالي لم يمرّ بفترة الضياع والبؤس التي عاشها لأربع سنوات.

يفترض أن ادولف. هـ، كما يسمي الشخصية الخيالية، يخضع للعلاج عند فرويد ويعفي البشرية من عصابه وجنونه فيصبح رساماً مشهوراً ورب عائلة. في نفس الوقت يسرد المحطات الأساسية في حياة هتلر الحقيقي؛ من منظار أفكار حنة أرندت عن الديكتاتور وتفاهة الشر التي استنتجتها من محاكمة آيخمن، أحد الضباط النازيين الذين نفذوا عمليات الهولوكوست، والذي أنكر مسؤوليته عن الجرائم أثناء محاكمته، بزعم أنه مجرد أداة، وأنه كان ينفذ الأوامر فحسب. وبذا يعتبر نفسه غير مذنب. أثارت تبريرات آيخمن ودفاعاته السؤال التالي في ذهن أستاذ علم النفس ستانلي ميلغرام: إلى أي مدى يمكن للإنسان العادي أن يمضي في تنفيذ أفعال شريرة إذا أُمر بذلك؟ وهذا ما دفعه إلى القيام بتجربته الشهيرة، والتي درس فيها سلوك الطاعة ومدى الانصياع للسلطة.

اقرأ أيضاً: نقطة ضوء في طريق مكافحة الفساد..

استنتج، كأرندت، أن العالم مليء بالشر لأنه مليء بالبشر العاديين الذين يخضعون للسلطة دون أي تساؤل، لأنهم يعتقدون أنهم يقومون بالواجب.

برأي ارندت، أن مشكلتنا مع اشباه “الموظف السفاح” آيخمن، تكمن في عاديته كالكثيرين ممن يشبهونه، ليسوا ساديين ولا يعانون شذوذاً، لكنهم أشخاصًا عاديّين إلى درجة رهيبة. أنهم مجرد مسوخ من إفراز الأنظمة التوتاليتارية. يمارسون جرائم قتل وإبادة جماعيّة، ليسوا لأنهم شريرين أو عنصريين، حتى أنهم يغفلون عن مدى خطورة أفعالهم، لأنّها أفعال تندرج في القوانين السائدة التي وضعتها الأنظمة الشموليّة. ولكثرتها وكثرة من يقومون بها، تصبح عادية ومقبولة. فهم يخضعون للقانون، الذي يوفّر لهم درعًا حامية “أخلاقية”، لأنها تحول المسألة من سؤال الضمير: مثل “هل ما أقوم به أخلاقيّ؟” إلى “هل ما أقوم به قانونيّ؟”. وبهذا يحصلون على براءة ذمة. وهذا التمرين يطبق في لبنان ويجري إلزام القضاء به. فتشوّه القوانين وتصبح غطاء اخلاقياً وعذراً للخضوع لإرادة الديكتاتورية الحاكمة.

فمن هو هتلر الذي أقام هذا النظام الجهنمي؟ 

هتلر الفاشل والهارب من الجندية والذي التحق بالجيش الألماني صدفة، لعدم التدقيق بأوراقه، كي يجد سقفاً يأويه؛ قرر بعد تجربته في الجيش تعلم الصبر. رتب أفكاره: إذا كان الهدف الاستيلاء على السلطة، فهذا يتطلب تنظيم الوقت والقبول بما سيتطلبه طموحه. وسيصل إلى السلطة لاحقاً بالوسائل الشرعية. من أدوات الصنعة: الاستيلاء على خطاب العدو وتطبيقه باسمه. وليس مهماً الدخول في تفاصيل صفات العدو، المهم تعيين العدو، والشحن ضده.

بداية، استهان به الخصوم من الطبقة السياسية كمنافس غير خطر لأنه مختلف عنهم تماماً. يخضع للنشوة وللغضب ولفواصل هذيانية. لم يدركوا أنها حقبة، تعب فيها الناس من السياسات التقليدية، وأنهم يحبونه تحديدا لاختلافه، لأنه يقدم نفسه كعلاج وكمخلص – أنه الشافي شبه الإلهي الذي سينهض بالوطن. إنه كالنبي، كالشهيد، يحرق نفسه ويستهلكها لكي يشهد على الحق؛ يقنع مستمعيه أنه على استعداد للموت في سبيل الحقيقة!

عندما قُصفت ميونخ اهتم بالسؤال عن شقته، وارتاح لتضررها، فلسلامتها تأثير سيء على الجمهور. أما أعداد الجرحى والأموات، فلم تهمه؛ بل استحسن الأمر: فأهل ميونخ سيفهمون أن المانيا في حرب. تعليقه أن الانجليز قاموا عنهم بالعمل، لأنه كان سيتوجب هدم المباني في كل الأحوال لتجديد العمران بعد الحرب!!

حينها فهمت سكرتيرته، أن جنونه لا يأتي من الأفكار الغريبة، الكارهة للبشر أو المبالغ فيها، ولا حتى من تجاهله للعوائق الواقعية، بل من النقص المطلق في التعاطف مع الآخرين. فالبشر بالنسبة له موضع اشمئزاز وقرف، تعوزهم إرادته. الكائن الإنساني ليس سوى بكتيريا كونية.

تحول هتلر من شخص غير قادر على التكلم في مكان عام، إلى معلم خطابة، يستخدم الإيقاع ويقطّعه، خطبه حامية ونارية تشعل الهتافات، يتمكن من إشراك الجمهور بالانفعالات. يحول أقل اجتماع عام إلى سيرك. يستفز الجمهور فيلتهم الطعم، ويخلق الموالين له عفوياً.

دائما يلعب كل شيء أو لا شيء. كان يعرف كل الصفات التي ينعتونه بها: محرض، رأس مشتعل، ريفي اشتهر وسيُستهلك بسرعة، كابورال فظ لا يملك شيئا من صفات الزعيم. لكن ما يهمّه موقف الحشود التي يعبئها. استطاع إقامة عبادة حول شخصه. ففي حقبته التي انهارت فيها الملكية وبهت النظام البرلماني وبلغ نهايته، كانت الحاجة ماسة الى رجل قوي، قيصر آت من الشعب. فكيف إذا أصبح مبشراً بخطاب مسيحي!

استولى على خطاب الآخر. أن مواجهة الآريين واليهود هي مواجهة بين الله والشيطان. اليهودي هو مسخ الانسان، بعيد عن البشر كما الحيوان عن الانسان. صار بإمكانه أن يعتمد على الولاء غير المشروط لأناس مختلفين جدا، يخالط مجموعاتهم بشكل منفصل ويقيم معهم صلة فريدة، فيما يستخدمهم ضد بعضهم البعض. كان يخاطبهم: يجب أن تناضلوا معي، وتنتصرون معي. وإلا فتموتون معي.

كان يأمر بالقيام بما يلزم للتخلص من اليهود. لكنه لم يكن يريد الاطلاع على التفاصيل. يترك لضباطه القيام بالاهتمام بالتفاصيل ويظل بعيدا عن وعي، بأنه بذلك يورط الجميع بحيث لا يعود بإمكانهم التراجع. يوقعهم في فخه. المطلوب من الآخرين أن يكونوا: أما شركاء متواطئين أو ضحايا.

في معركة ستالينغراد، فكر البعض من حوله أن مئتا ألف قتيل ومئة وثلاثون ألف جريح تكفي كي يفهم أن المعركة خسرانة وأن الجنرال فون يولوس معه الحق بالحد من النزف. لكن أحدا لم يتجرأ على قول ذلك بصوت عال. أما هتلر فرفض الاستسلام واتهم الفيلد ماريشال بالخيانة والضعف والجنون: “هذا الرجل ليس لديه أي إرادة. أن قوة الإرادة! هي التي تصنع القدر والوطن! وهو ما فعلته خلال كل حياتي تعرّضت لأزمات وضعت إرادتي على المحك. لكن إرادتي برهنت دائما انها الأقوى.

بدأت تظهر في المدن كتابات: “هتلر كذاب”، “هتلر قاتل”. وظهرت مجموعات مقاومة، من الأوساط المحافظة وهناك من حضّر لهجومات عليه. لذا امتنع عن اللقاءات العامة واكتفى بإقناع وترهيب القريبين منه. وبدأت الشائعات عن الشيخوخة المبكرة، ونوبات الجنون.

بزعم إرادته الصلبة، رفض القيام بمفاوضات من أجل السلم كما يريد بعض الألمان. مطلوب الحرب الشاملة والكلية! توجه إلى غوبلز: إذا تبين أن الشعب الألماني ضعيف، فهو لا يستحق إذن سوى الفناء بواسطة شعب آخر. لأنني لا يمكن ان أتعاطف معه. 

ظل يلقي تعليماته، من مخبئه سيئ التهوئة تحت الارض: لا للحل السياسي، ولا التفاوض، لا للاستسلام. سأقاتل طالما لدي جندي واحد. وعندما يتركني آخر جندي، سأطلق رصاصة في رأسي. أنا لا احمي نفسي، بل أحمي المانيا من عار هدنة كارثية.

أما حالته الجسدية فرثة، فلقد أصبح مجرد شبح من لحم، يجسد حال المانيا: محني الظهر، مضطرب الحركات لإصابته بباركنسون خفيف، يديه رخوتان، مذهول الهيئة، وجهه بلون التراب، يتكلم بصعوبة مع خيط لعاب يسيل على زاوية شفتيه. وحركته تسبب أوجاعا ثقيلة وأذنيه الصديديتين تنزفان.

وكان طبيبه يحشوه بالأدوية: منومات لينام، ومنشطات ليستطيع النهوض، وحبوب لتجميد خروجه وملينات للتبرز. كل وظائفه الحيوية كانت تحتاج إلى المساعدة. أصبح مدمناً ومسموم، صار هيكله خزانة صيدلاني مليئة بالمواد الكيميائة.

وحول مثل هذه التفاهات يلتف ملايين البشر.

السابق
جنبلاط يُطلق صرخة «تويترية».. ماذا قال؟
التالي
سماح إدريس لم يتلمّس طريقه إلى الثورات