حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: حلُّ الإستعصاء اللبناني.. مُبتدَؤُه شيعي

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

إنَّ استعصاءَ الأزمةِ اللبنانية، يَعودُ بجَوهرِه الى استعصاءٍ في بنية الإجتماع السياسي الشيعي، تلك حقيقةٌ، لا يُمكِنُ لأحدٍ إنكارَها إو تجاوزَها أو القفز عنها، لكن ثمةَ فارقٍ جوهري، بين تشخيص صائب لإيجاد حلولٍ وسياساتٍ بديلة،  وبين التلاعب بالعواطف واثارة موجات كراهياتٍ متبادلة، تُفاقِمُ الازمةَ الوطنية، بدلَ السعيِّ الجاد لحلها، وإعادة صياغة العلاقات والسياسات، في مجتمعٍ مأزوم،  واقتصادٍ مُنهَك، وشعبٍ يكادُ لا يسدُّ حاجاتِه اليوميةَ، وحقوقَهُ الدنيا البديهية.

فصورةُ الطائفةِ المتعسكرة الموحدة، التي لا ينالُها ضَعْفٌ ولا تَفسُّخٌ، وانصياعُ العامة فيها، لإنقيادٍ دون شروط، وراء قيادة حزبي الطائفة وخياراتها، كائنا ما كانت اختياراتها، ليست الا صورة مزيفة تجري صناعتها وإطلاقها و إشاعتها، من قبل ماكينة تعبوية، لتزييف الواقع وتصوير الزَيف المفبرك، كحقيقة ثابتة دائمة.

فثنائية أمل وحزب الله لم تسيطر على اكثرية الطائفة الشيعية، وتقفل فضاءها السياسي العام، بالإقناع والتعبئة الفكرية والدعوة الحسنة فقط، بل أن الممانعةُ ومنظومتُها أخذت معظمَ الطائفة، وأسَرَتْها حرباً وقتلاً، منذ علي كساب في البازورية الى مهدي عامل الى حسين مروة، وموسى شعيب ومحمد سليم ورياض طه وغيرهم.

ما جرى في الطيونة لم يكن بداية الأزمة وازدواجية الاداء والخطاب حول العدالة والمساءلة بل فعل معتمد ونتيجة منتظرة لصلف القوة والاستعلاء

فتصفيات  النخب الشيعية منذ سبعينات القرن، وحتى هاشم السلمان  وبالأمس لقمان سليم كان نهجاً مستمراً ودائماً.

في كل مرحلة تولت هذه المهمة جهة واحدة، بأسماء متعددة؛ تارة بأسماء معلنة، ومعروفة العنوان والإمرة، وأخرى باسم مجموعات مستحدثة ووقتية، وثالثة بهيئات وهمية ك “قوات الحسين الانتحارية”، و رابعة  خلال نزاع مع احد أطرافها كحرس السفارة الإيرانية او حركة امل، بإضافة إسلامية او مؤمنة أو بدون إضافة، وخامسة باسم الجهاد الاسلامي، أو خلالَ تصفياتٍ حدثت، على تخوم الحرب مع المخيمات الفلسطينية، او ملاحقة حزب البعث العراقي الخ… وكلها مرتبطة بمخابرات الاسد _ الفقيه. مئات بل آلاف من الكوادر الشيعية تمت تصفيتهم، او محاولة قتلهم من قبل هذه الآلة القاتلة، وطالت كل تعدد في الساحة الشيعية سواءً كان الضحية شيوعيا  أو بعثيا، او قوميا سوريا، أو فتحاويا او مناصرا  لحزب العمل الاشتراكي الفرع اللبناني للجبهة الشعبية.. ولقمان سليم هو شهيد يحمل رقما من اربع خانات في تسلسل اعداد ضحايا آلة القتل هذه، وليس أولها.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: نصرالله لشعب لبنان.. اي ميليشيا ستناصرون!؟

قد يقول قائل انها كانت جزءا من حرب اهلية، لكن الحقيقة أنه ثمة فارقٍ، بين الحرب الأهلية التي كانت حربا بين الجماعات، يغلب على القتل فيها موت عشوائي تحكمه صدفة أو قدر، وبين العنف المنهجي والقتل الإنتقائي الذي فرض ترهيب وتصفية، وإعادة دمج وصياغة الإجتماع السياسي الشيعي.

أما مواجهة أحرار الشيعة للثنائية الحزبية فقد كانت مستمرة وثابتة على مر السنين، وهذا ما تنبؤنا به قيادة الثنائية ذاتها، من خلال حملاتِ الضغط والعزل السياسي والاجتماعي، والحصار في الوظائف والاعمال وفرص الاستثمار، لكل من لا ينضوي تحت عَلَمِ الثنائية، ويستجدي رضاها ويطلب بركتها، كما يتجلى في حملات الترهيب والتخوين التي تمارسها قيادات الثنائية ضد المعارضة الشيعية ورموزها.

على خط آخر تأمَّنَ للثنائية الحزبية خلال اربعة عقود مضت، دعما سياسيا وماليا وعسكريا  تفاوتت وجهته بين حركة أمل وحزب الله حسب كل مرحلة، وتيسر لها بناء شبكة من الخدمات الصحية والاستشفائية والتربوية والجامعية، ومؤسسات الرعاية للاجتماعية للايتام والعجزة والمعاقين، مما اتاح لهم ضرب كل البنى التقليدية والعائلات السياسية، والكيانات الحزبية والثقافية والمنتديات المدنية والفكرية التي تعارض نهج الثنائية الحزبية، وتتبنى خيارات سياسية تتعارض مع خياراتها، وتجاهر باستقلاليتها وعدم الولاء لها..

الممانعةُ ومنظومتُها أسرت معظمَ الطائفة الشيعية حرباً وقتلاً منذ علي كساب الى مهدي عامل وحسين مروة وموسى شعيب ومحمد سليم ورياض طه


 لم نصل الى ما نحن عليه حاضرا، يوم استفاق الاخرون وادركوا، بعد سبات طال امده، عمق الازمة، وحسبوها خطرا استجد يداهم من يداهم… نعم منذ ما قبل الغفلة الوطنية وبعد انتهائها، وانبلاج اليقظة والصحوة، ثمة أزمة بنيوية داخل طائفة أساسية في لبنان، هي الطائفة الشيعية؛ أزمةٌ تتمظهرُ بمناسباتٍ عديدة، تارة تعبر عن حالها بواسطة نُخَبِها وشجعانها وشهدائها، تعبيرا سياسيا مميزا ودعوة وطنية مدنية وديموقراطية، وأخرى عن حاجتها الى الوحدة فيجعل نائب بعبدا الحاج علي عمار من حذاء السيد نصرالله بابا للملكوت، وطورا تنفجر في وجه نواب ووزراء حزب الله وحركة امل، على شكل اعتراضات ومواجهات وحصار اجتماعاتهم في الحسينيات و القرى  والبلدات، تحت باب مطالب انمائية او في مناسبات اجتماعية عامة كالأفراح والاتراح، ولا تحل توتراتها الا بتدخل الاجهزة العسكرية والجيش، لفك اسر سياسيي الثنائية والسماح بمغادرتهم امكنة اللقاء،  وثالثة تنفجر شتائم في وجه الثنائية، كما جرى سابقا في حي السلم، بمناسبة هدم اكشاك تجارية، تم انشاءها في املاك عامة، وبشكل يخالف القانون، ورابعة بعد مواجهات حربية، اثر مداهمات تقوم بها الاجهزة الامنية او الجيش اللبناني، بموافقة حزب الله، لمطلوبين وجناة في جرائم زراعة المخدرات والاتجار فيها.

في كل هذه المناسبات، لجأ مواطنون شيعة الى تعداد كل عيوب الحزب وموبقاته بشكل صارخ ومدوي؛ فتم انتقاد مشاركة حزب الله في القتال في سورية،  كما جرى استنكار سقوط الشهداء والجرحى والموت المجاني في حروب عبثية، وشهدت الايام الاولى لانتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩ ظواهر لافته، لمظاهرات أحرقت مكاتب واستراحات، عائدة لمتنفذين في قيادة ثنائية امل وحزب الله، كما خرجت الى الإعلام  تصريحات لسيدات شيعيات، تتهم مسؤولي الحزب وكوادره باستغلال نفوذهم لاغراض جنسية تلبي شبقهم الجنسي وابتزاز الفقراء في أعراضهم. ما فعله حزب الله وحركة امل مستندين لدعم قوي، ثابت ومستمر من قبل نظامي الاسد والولي الفقيه، هو صناعة هذه البيئة المأزومة، وكبح انينها وأوجاعها وتزوير معاناتها، بأساليب شتى، مظهر القلعة التي لا تخرق، البنيان المرصوص، القيادة التي لا تناقش بل تلبى أوامرها، وذلك طاعة لله وتلبية لمظلومية الحسين معا.

كل ذلك، لم يكن الا منتج زائف لسلوك الاستعلاء والتنمر، فوق هشاشة اجتماعية وخواء قيمي، ويتسلح بخطاب تعبوي فاشي لا يجيد الا التخوين والترهيب والشتيمة، وهو خطاب استبدادي تافه، لا يؤسس الا لنفاق معلن بتأييد السلطة، فيما الخطاب الحقيقي الذي يعكس القناعات الحقيقية، يبقى تحت السطح وخارج مسامع الإعلام، وبعيدا عن الوان الشاشات وأثيرها، ولا يقال الا في الدوائر الضيقة.

ما أنجزته الشيعية السياسية متفوقة على نظيراتها من الطائفيات الأخرى أنها جعلت الخروج عن القانون ثقافة سائدة ونمط عيش داخل بيئتها

 المأساة الكبرى أن صناع هذه الدراما، أي  الممثلون الاساسيون والكومبارس، يعرفون أنهم في مسرحية تمثيل تراجيدي كوميدية، تلعب بتوظيفات آنية سياسية، وليس فيها من القداسة الا بعض كلمات جوفاء. 

المأساة أن باقي القوى السياسية في لبنان، و المرجعيات الطائفية الأخرى، استساغت تصديق هذه المسرحية، والتصرف كأنها حقيقة دائمة راسخة، تارة لعجزها، وتارة لخوفها، وثالثة بوهم اقتسام المغانم مع ثنائية طائفية شيعية، تجعل بقية اللبنانيين يُسَبِّحون بحمد مرجعياتهم الأقل سوءا من أمراء الشيعة.مسرحية القداسة هذه ، تخفي تحتها مجموعة مصالح غير مشروعة، بعضها سياسي يتجاوز الوطنية اللبنانية، وأخرى محاصصة طائفية لحيازة أكبر حصة من كعكة موارد وأموال الدولة اللبنانية، وثالثة كتنفيعات فساد مافوية، تبدأ من استباحة مرافق الدولة وأملاكها، وموازنات التغطية الاجتماعية والصحية والاسكانية، وأموال التنمية والبلديات، وتنتهي الى نهب البيئة وشفط الرمول والكسارات، وتبييض الأموال وتجارة المخدرات .

ان أهم ما أنجزته الشيعية السياسية متفوقة على نظيراتها من الطائفيات الأخرى، أنها جعلت الخروج عن القانون ثقافة سائدة ونمط عيش داخل بيئتها، الدولة التي تعني تنفيذ القانون هي جسم غريب في عقل حزب الله وبطانته، ولقد كان مثيرا ل”بركان غضب” تفجر على شاشات التلفزة، أن يأتي صانع هذه الثقافة وهذا النمط، ثقافة ونمط عيش “الخروج عن القانون”، أن ياتي على حصان تنفيذ القانون والانتصار للقضاء والمطالبة بتطبيق العدالة والمساءلة، وحدهم التطهريون _سذج الثورية الكتبية ( نسبة لكتب) صدقوا انحياز حزب الله المستجد الى الدولة والقانون والقضاء.

ما جرى في الطيونة لم يكن بداية الأزمة، وازدواجية الاداء والخطاب حول العدالة والمساءلة،  الازدواجية ليست عيبا عارضا، بل فعل معتمد ونتيجة منتظرة لصلف القوة والاستعلاء.

المحطات الآتية سترسم آفاقا جديدة.. وزمن ما بعد ١٧ تشرين ليس كما قبله، ودروب التغيير في البنية الشيعية المأزومة، عمل يتطلب وقتا  وخطة وتراكما وصبرا طويلا، ولا بد من اعادة تركيب الاجتماع السياسي الشيعي كمدخل لا مفر منه، لحل الاستعصاء الوطني في لبنان وبناء دولة ديموقراطية حديثه.

السابق
بعد الخبر الصادم.. أصالة تحتفل بزواجها الرابع في «هلا خورفكان»
التالي
أزمة لبنان -السعودية تتفاعل..الكويت تسحب سفيرها وواشنطن والجامعة العربية يحثان على التهدئة!