بسام كيرلس.. نحات «الزمن المتشائل»!

تحضر الحرب بجمالها، لا ببشاعتها في منحوتات النحات الفنان اللبناني اللبناني بسام كيرلس، الذي يفتتح معرضه في غاليري (kAF )في الاشرفية -بيروت.

إقرأ أيضاً: فنانات تشكيليات لبنانيات يرسمن لوحات تحاكي الزمان والمكان والناس!

تجسيد معالم ونصب تذكارية وتاريخية شاهدة على احداث، يستحضر تكاوينها وينتشل ذكرياتها من قلب الزمن المر، والتصدعات في الأرض المنهكة، وتأتي هذه الاسقاطات كظلال، ارادها الفنان لفكرة الحرب، التي تظهر أول ما تظهر، على هيئات الأبنية ومعالمها المتعامية والمتحولة، في مسارب وأشكال متعرجة وشاهقة في الفوضى، ثم تأخذ شكلاً يتطور إلى فكرة الأبراج الشاهقة، كرموز كاذبة لقدرة الانسان على تحدي الطبيعة، بحثاً عن سيطرة جديدة، وفي المقابل، تظهر هذه الشواهق وتبدو هشة وكأنها مائلة أو مترنحة، فتتألف من جديد وتأخذ سياقها الخائف والمخيف في آن معاً.

يستحضر كيرلس الثنائيات الناطقة بأشكال متنوعة ومتناقضة احيانا، فثمة العديد من الثنائيات التي تطلّ في أعماله، كثنائية العامودي والأفقي وثنائية البارد والحامي والملمس الخشن والناعم، والكثيف والشفاف، والثغرات والنقوش الجوفاء، والفراغات الفاغرة، فاغرة الأفواه والأشكال. وثمة أشكال قاسية على العين والاحاسيس، وتبدو كابوسية مرعبة النطق. لكنها تنطوي على جماليات خاصة ومريحة للنفس.

فرح وسرور وأكثر، سعادة مدوزنة تختبىء خلف أحصنة الطفولة المنسية وعلى متنها، يصعد صوت الزمن “المتشائل”، والجمال المدوزن ينحني لأمرأة متوّجة، على عرش فينيقيا الأساطير والأسطورة الجاذبة.

  وحيد القرن الشرس الذي “ينجبه” الفنان، كأنه يولد ويأتي من جبال وسهول وغابات غير معروفة، مجهولة، سرّية الحضور، تأتي الى صراع الوجود، معركة الحياة الضارية، معركة حرب البقاء. وربما ارادها الفنان مشهدية ترسم صورة الأمل وطقوس الدفاع عن الشرف، في مراحل زمنية غابرة، بحسب الميتولوجيا القديمة.(نهاية العالم) الحرب مشهد الحضور في صالة العرض، وتطوف مخيلة الفنان بين نوافذ الظلمة، وتنبري في قامات المباني الهالكة المدمرة، ذات البنية الشبحية المقفرة، الشبح الخيالي والحقيقي مثل الوهم الأشد رسوخاً من الحقيقة نفسها.

الوجوه التي يجسدها كيرلس، منبثقة من أرض مريضة وملوثة داكنة الوهج، أو من بيضة التكوين، أو متوالدة من مرايا في البيوت المنهارة الزدحمة بالتشوه الكبير.. بينما تعيش الابنية المتصدعة ليلها الطويل، في مدينة لا تعرفها الشمس، عتمة الزمن الدائمة. يتراءى مشهد غرائبي ينبعث من فزع وتعب الأمس، وحواضر المدن التي تتشابه في دمارها. وربما هي نهاية العالم، التي يحاول الفنان “التبشير” ، كمحاولة لهز العقل وتحفيزه على الانتقال الى الوعي الناجز.

يتخيل الفنان عالمنا المعاصر، العالق المحكوم بتكنولوجيا المعلوماتية وداتا المعلومات، التي تأخذ مقامها في العقل، حتى أضحى الانسان المعاصر رهينة الآلة، ولا يخفى على الناظر لأعماله هذا الجانب من الطروحات، التي تذهب الى ما رواء الشكل البسيط من إشارات لمضامين، تتمظهر تحت عناوين لافتة وتسميات مختلفة.

أما اللغة التي طرحها بسام كيرلس في أعماله المتنوعة بتقنيات متعددة، كالألمنيوم والباتينا، من خلال المزج بين مادتين بلونين مختلفين: الباتينا الصلصالية اللون من الداخل، مغطاة بطبقة الألمنيوم الفضية اللون من الخارج، وتدخل عليها احياناً ألوان اصطناعية (أحمر أو أزرق)، أو يتم مزج البرونز مع مادة زجاجية (كريستال ريزين). فالدمج بين خامات غير متجانسة، تثير مظاهر الغرابة وتُحدث صدمة ناتجة عن اللامتوقع،أو اللامعقول.

عوامل التقنية ساعدت الفنان في التحكم بمجريات التعبير، من خلال طريقة تطويع المواد والتحكم في تشكلها.
لعلّ الميزة الاساسية التي يتحلّى بها بسام كيرلس، كنحات عاش أهوال الحرب اللبنانية، أنه ينظر ويرى جيدا بعين “السيمياء” أي لغة الذهن الوافية، والتي يمكنها تفسير الشكل على نحو مدروس وبإتقان هائل. فقد ربط كيرلس دينامية أعماله نظرياً بهذا الفكر القائم على وجود عارض أو حادث، يدفع الى اللا استقرار واللا توازن وبالتالي الإضطراب والهشاشة والتشويش، لكي يعيد تعريف العلاقة بين الكتلة والفراغ، وبين النواة المركزية المفككة والأطراف المتداعية. وهذه الاطراف أو القطع المنفصلة عن النواة، تغدو باشكالها المستقلة وتكاوينها التجريدية غير السوية، قطعاً فنية رائعة الايهامات، لكأنها اغصان منفصلة عن شجرة معمّرة، راسخة في الزمن والصلابة الأزلية.

نجح وأبدع الفنان كيرلس، بمادتي البرونز المدمج مع الزجاج، ليجمع بين مفارقات تلك الصلابة الراسخة في الزمن المتقاطع بين زمنين، الأول يطل من باب التاريخ والأسطورة والميتولوجيا، والثاني يخرج من نافذة المكان المفتوحة على برّ القلق.

السابق
«ويك أند» دموي على الطرقات..سقوط 3 قتلى و11 جريحاً!
التالي
مأساة في بريتال.. ابن الـ١٣ عاماً ضحية قنبلة