«الكلامولوجيا» في لبنان

ميشال عون نجيب ميقاتي

في الدول الديمقراطية من أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية شرقا مرورا بأغلب دول أوروبا وصولا إلى الولايات المتحدة وكندا، يؤخذ على الأحزاب وعلى السياسيين كل شعار من شعاراتهم وكل تصريح من تصاريحهم وكل تصرف من تصرفاتهم حتى ولو كان في الإطار الشخصي البحت. فتقتصر الشعارات على الأولويات المطلقة ويقل النقاش والكلام السياسي إلا عند الضرورة الملحة، لأن هناك رأيا عاما يحاسب ويسائل ويسقط كل من أخلّ بكلامه أو وعده بصندوق الاقتراع. ومن الجاري عادة أنه في أغلب الأحيان يبادر السياسي الناكل بتقديم استقالته كاعتذار على من أولوه ثقتهم ولم يكن بقدرها.

أما في العالم الثالث عموماً وفي لبنان خصوصا فالوضع مختلف. ينام مطلق الكلام والشعارات على حرير الطائفية والمذهبية المخدرة للرأي العام. يراهن على نسيان كلامه ووعوده، فلا حسيب على الكلام ولا رقيب يحاسب في صندوق الاقتراع .

اقرأ أيضاً: الحكومة اللبنانية الجديدة: هل توقف الانهيار؟

تشتهر الطبقة السياسية في لبنان بالكلامولوجيا التي ترغب بيئاتها بسماعها. فيعلن رئيس الجمهورية مبشّرا باقتراب اللبنانيين “من جهنم” إذا لم تتألف الحكومة بالسرعة المطلوبة، ويتجاهل أنه هو من يعرقل تشكيلها. وبعد أن نال مراده من ثلث معطل (بعد مشاركة صهره جبران باسيل في مفاوضات تسمية الوزراء) أعلن أنه بصدد إخراج الوضع “من جهنم” متناسياً تعطيل 13 شهرا دفع ثمنها الشعب كل دقيقة على مدار كل يوم تأخير.

على منواله، عارض سعد الحريري اللقاء مع جبران باسيل ولو تأخر تشكيل الحكومة لأشهر، وأعلن عدم منحه رئيس الجمهورية “الثلث المعطل”، إلا أنه كما رؤساء الحكومات السابقون يلتزمون الصمت اليوم بعد نيل ميشال عون ما أراد وهو القائل “أخذنا ما يجب أخذه”، ويغضون الطرف عن لقاءات نجيب ميقاتي مع جبران باسيل وشروعهما معا بمفاوضات التأليف (تولي صهر آل ميقاتي مصطفى سلام إنتاج التفاهمات مع باسيل). فما تمنّع عنه سعد الحريري أباحه لميقاتي، والتزم كل من فؤاد السنيورة وتمام سلام الصمت المطبق عن 13 شهرا من خراب لبنان.

رقصة التانغو لا تستقيم من دون الفريقين معا، وللفريقين “كومبارس” يعزف على وترهما وينشد موالهما ويتصرف على إيقاعهما. حيث إن جبران باسيل هدد عدة مرات باستقالة نواب كتلته النيابية إن لم يتم تنفيذ ما يرغب به، وبأنه لم يؤيد تسمية نجيب ميقاتي، لكن بعد مشاركته “بالطبخة” أعلن استعداده للتصويت على منح الحكومة الثقة. بذلك، يبقى ما أعلنه باسيل من ضمن الكلامولوجيا اللبنانية الهادفة للابتزاز أكثر من إثارة أنصاره لعلمه المسبق أن جمهوره سيستدير معه بظل غياب المحاسبة ضمن التيار الحزبي الذي يقوده.

تفاخر نجيب ميقاتي بـ”اللاءات” (مجموع لا)، وبين اللقاء والآخر مع الرئيس عون سرّب نيته بالاعتذار محاولا اللعب على وتر بيئته الانتخابية. فخلال 47 يوما من التكليف وكلما اصطدم بشروط عون لجأ إلى الاعتكاف جاعلا سوق صرف العملات الأجنبية تستعر فيقفز الدولار ملحقا باللبنانيين المصائب، ليتبين أنه كما سلفه المكلف يتنازل يوما بعد يوم عن سقف لاءاته.

امتعض رئيس البرلمان نبيه بري من نيل عون “الثلث المعطل” وهو من حذر ميقاتي من مغبة تنازله عن هذا السقف، غير أنه توجه إلى بعبدا وأبقى على تمثيله في الحكومة الجديدة. رجال الدين بدورهم لم يبتعدوا عن مجاراة السياسيين في الكلامولوجيا، ففي الخطب العلنية يعلن ما هو معاكس لمواقف الخفاء.

وإلى كل ذلك، دخل الوزراء الجدد الهابطون على مواقعهم الوزارية بمظلة أحزاب الطبقة الحاكمة نادي “الكلامولوجيا”. فيتبجح كل منهم برغبته إجراء الإصلاح والتغيير وهو لم ير كرسيّه إلا بفضل أحزاب تمتنع بشدة عن الإصلاح والتغيير. يعلن كل من هؤلاء الوزراء سعيهم للنهوض من أزمات لبنان وهم أبعد ما يكون عن الاختصاصات المطلوبة لإتمام عملية الإنقاذ. فأربعة وزراء قضاة على وزارة واحدة للعدل، وثلاثة إعلاميين على وزارة واحدة للإعلام، وصيدلي على وزارة المهجرين، وتاجر مواد “دهان” على وزارة الاتصالات، وطبيب أسنان للشؤون الاجتماعية، ومطرود من شركة “بوز ألن” العريقة في قضايا فساد تسلم وزارة الطاقة. وزراء في حكومة ميقاتي يغالون بشعاراتهم ويوهمون الناس بقدراتهم في حين يفتتح رئيس حكومتهم أعمالها بالبكاء.

يبدو أن لوث “الكلامولوجيا” شق طريقه إلى داخل الإليزيه، فدعا ماكرون أولا لحكومة مصغرة فارتفع العدد إلى 24 وزيرا. كما طالب بوزراء اختصاص فلم تتشكل الحكومة إلا بتمثيل الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية. أصر الزائر الفرنسي على المداورة فعادت وزارة المال إلى حركة أمل، والطاقة إلى جبران باسيل، ووزارة الدفاع إلى ميشال عون، والداخلية إلى سعد الحريري. أشار ماكرون إلى ضرورة الإصلاح الملح فاستثنى بناء لطلب من حزب الله الانتخابات المبكرة وتقصير ولايات الرؤساء وتجنب طرح موضوع سلاح حزب الله حامي الفساد وناظمه ومدوزن أبوابه ورمز التهريب على المعابر الشرعية وغير الشرعية. ولم يفلح ماكرون بمساعيه لتأليف حكومة لولا تقديمه تنازلات لإيران ستظهر في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفاوضات فيينا وفي المساعي مع الولايات المتحدة وبالموقف حول العراق والاستثمارات الفرنسية، فتحول برميل النفط لتوتال أغلى من الدم اللبناني، فتمت مقايضة لبنان بشركة بيجو وسيتروين وايرباص وتوتال.

طالما “الكلامولوجيا” في لبنان مكرّسة بمظلّة شعبية، فـ”لا خروج من جهنّم”.

السابق
بعد تشكيل الحكومة.. الإنتخابات النيابية و«التغيير من الداخل»!
التالي
خاص «جنوبية»: ٣ موقوفين بتفجير المرفأ «إزدادت ثروتهم».. هذا ما كشفته مصادر قضائية!