المزارات العاملية ومدلولاتها الحضارية والدينية

مقام يوشع بن نون

جاء في معجم “لسان العرب” للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي أن “الشهادة والمشهد: المجمع من الناس، والمشهد محضر الناس، ومشاهد مكة: المواطن التي يجتمعون بها من هذا، وقوله تعالى: “وشاهد ومشهود” الشاهد: النبي(ص) والمشهود: يوم القيامة”.

وقال يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي أبو زكريا المعروف بالفراء إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، أن “الشاهد” يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، لأن الناس يشهدونه ويحضرونه ويجتمعون فيه” وقال الفراء أيضاً: “الشاهد: يوم القيامة”.

وفي الاصطلاح والتقاليد الشعبية، فإن “المشهد” من الكلمات الاصطلاحية التي تحمل مدلولاً  دينياً معيناً، وهو المسجد المدفني أي الذي بني، في الأساس، ليكون مدفناً للشخص، أو الأشخاص الذين يتمتعون بمكانة روحية خاصة لدى الناس، وهذا المدفن غالباً ما يكون مخصصاً للمتوفين من آل البيت النبوي الطاهر، عليهم السلام، ذكوراً كانوا أم إناثاً. وأحياناً يُدفن فيه غيرهم من الأفراد العاديين الذين عرفوا بين أهل زمانهم بالتقوى والصلاح والعبادة.

اقرأ أيضاً: المزارات العاملية ومدلولاتها الحضارية والدينية

والمشهد أيضاً هو “المزار”. فقد جاء في معجم “لسان العرب” لابن منظور قوله: “المزار: الزيارة، والمزار موضع الزيارة”، أي المكان الذي قبر فيه أحد الأنبياء، أو غيره من الأشخاص الذين لهم منزلة دينية عند الناس، فهم يقصدونه في مواسم معينة ويصلون فيه اعتقاداً منهم بأن صلاتهم بالقرب من ضريح هذه الشخصية المقدسة أكثر قبولاً عند الله وأجزل للأجر والثواب.

“المشهد” من الكلمات الإصلاحية التي تحمل مدلولاً دينياً معيناً، وهو المسجد المدفني أي الذي بني، في الأساس، ليكون مدفناً للشخص، أو الأشخاص الذين يتمتعون بمكانة روحية خاصة لدى الناس

وقد لا يكون المزار قبراً، بل بناء تذكارياً يشير إلى عمل أو حادثة بما يمت إلى بعض الشخصيات الدينية بصلة من قريب أو بعيد، فهو أشبه ما يكون في زماننا بالنصب التذكارية التي تشاد على أسماء بعض العظماء في مختلف المدن تنويهاً بهم وتخليداً لمآثرهم بعد الوفاة.

بيد أن الغالب هو استعمال كلمة المشهد من قبل أبناء الجنوب اللبناني من الطائفة الشيعية، ويطلق على البناء الذي يكون في داخله ضريح ينتسب صاحبه إلى الحسن أو الحسين ولدي الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام. وربما كان استعمال كلمة “المشهد” لهذا الغرض بالذات، لأن أضرحة السلف من المنسوبين إلى آل البيت الطاهر، أو غيرهم من الزهاد والصلحاء تكون في العادة مقصداً لعامة الناس الذين يزورونها من أجل الحصول على البركة الروحية، أو لمظنة الزلفى والتقرب إلى الله، وذلك من خلال التمسح بأطرافها والتوجه بطلب الشفاعة من أصحابها بين يدي الله عز وجل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فتكون فرصة ومناسبة لالتقاء الناس بعضهم ببعض وتتحقق المشاهدة فيما بينهم بالمواجهة المباشرة، وهذا هو المعنى الذي أشار إليه أهل اللغة في معرض تفسيرهم لكلمة “المشهد” في حال الإفراد، “والمشاهد” في حال الجمع.

نذور.. وحلق رأس المولود

جرت العادة قبل فترة قصيرة من الزمن، لدى سكان الجنوب اللبناني، أخذاً بما كان عليه بعض أسلافنا تخصيص المزارات والمشاهد بالنذور كأن يلزم الواحد نفسه إذا حقق الله له أمنية عزيزة عليه بأن يهب لهذه الأمكنة زيتاً أو شمعاً لإضاءتها، أو أن يذبح عند عتبة أحدها ضحية من شاة أو غنم، أو بقر، ويقدم لحومها صدقة على إسم صاحب المزار أو المشهد تقرباً منه وزلفى إليه.

وجاء في كتاب “خطط جبل عامل” لعلامة عصيره الإمام المجتهد محسن الأمين، مرجع الشيعة وحجتهم، المتوفى في بيروت العام 1952 م (1371 هـ) لون من النذور التي يقوم بها سكان الجنوب من الشيعة في مشاهدهم ومزاراتهم من ذلك قوله: “نذر حلق رأس المولود في مزار من المزارات، فيقول الناذر: نذر على نذر يستحق وفاه، إن عاش إبني أن أخذ ذبيحة  وأحلق له في المزار الفلاني، فإذا عاش الولد، خرج الرجل بزوجته وولده، والولد مزيّن بالثياب الجديدة والحُلى، وخرج معه أهل القرية بثيابهم الجديدة والحُلى، وخرج معه أهل القرية بثيابهم وشاياتهم متزينين، يهزجون ويفرجون والذبيحة معهم وربما جرّها الولد بيده إن كان كبيراً، فيذبحونها ويطبخونها مع ما استصحبوه معهم من برغل أو أرز ويأكلون ويفرحون ويحلقون رأس الصبي ويدفعون وزن شعره فضة لخدّام المزار ثم يعودون..”.

وقد عقّب العلامة محسن الأمين على هذه الأفعال بقوله: وحلق رأس المولود والتصدق بوزن شعره ذهباً أو فضة وارد في الشرع…”. وهو كلام ورد في المراجع الدينية فيما يتصل بالمولود والاحتفال به.

مشاهد ومزارات

هذه المشاهد والمزارات في الجنوب اللبناني، حظيت كما غيرها في فلسطين وسوريا ومصر.. باهتمام المعنيين بالدراسات التاريخية الإسلامية، ولا سيما ما يتصل من هذه الدراسات بالمؤسسات الدينية من المساجد، وما في حكمها من المعابد الأخرى، وإن جميع المؤرخين المسلمين الذين استعرضو المراحل الزمنية أو تحدثوا عن الدول التي تركزت سلطتها في هذا الجزء من المنطقة العربية خصصوا في كتبهم صفحات كثيرة من المشاهد والمزارات التي أقامها المسلمون لآل البيت النبوي الطاهر عليهم السلام، أو لغيرهم من الصلحاء وأهل العبادة والتقوى، ولا سيما تلك التي أقامها الشيعة سواء حكاماً كانوا أو أعياناً أو من عامة الناس.

وكما فعل المؤرخون كذلك فعل الرحّالون الذين جاسوا الجنوب اللبناني من خلال مرورهم إلى مصر من سوريا، أو بالعكس، بحيث إن جميع الرحّالين الذين ألقوا عصا التسيار واستقر بهم النوى في هذه البلاد أفردوا لما رأوه فيها من المشاهد فصولاً مطوّلة في مذكراتهم التي سجلوا فيها انطباعاتهم عما سمعوه أو شاهدوه أثناء تجوالهم من بلد إلى آخر.

ومن أهم الكتب الحديثة التي عنيت بإحصاء المشاهد الموجودة في الجنوب اللبناني كتاب “خطط جبل عامل” للسيد العلامة محسن الأمين، بحيث جاء تعدادها وتوزعها كما يلي:

  • مشهد يوشع بن نون، وصي موسى بن عمران، فوق الحولة، عليه قبة شاهقة.
  • مشهد محبيب، قريب من المشهد السابق، يقال أن فيه قبر بنيامين بن يعقوب، عليه قبة.
  • مشهد النبي منذر، وهو خربة في ميس الجبل، محاط بحائط قصير من جوانبه الأربعة، ويحتمل أن يكون هناك قبر لعالم أو عبد صالح.
  • مشهد منذر، في مركبا، عليه قبة.
  • مشهد العويذي، فوق كفركلا، على جبل عال، فيه قبر الشيخ العويذي تلميذ الشهيد الثاني (الشيخ زين الدين الجبعي العاملي ابن الشيخ علي بن أحمد بن محمد المتوفى سنة 1559 م (966 هـ)).
  • مشهد حزقيل، قرب قرية دبين في مرجعيون، يزوره أبناء الطائفة الدرزية ويعظمونه.
  • مشهد بنات يعقوب في شقرا، إلى الجهة الجنوبية، وسط مقبرة قديمة، له محراب، وهو خراب، ولا يُعلم ما هو.
  • مشهد شيت، في برعشيت، وهو خراب لا يُعلم ما هو.
  • مشهد جمال الحُسْن، في حداثا، والظاهر أنه قبر عالم، أو عبد صالح، أو حاكم، عليه قبّة.
  • مشهد الصياح في جويا، له أوقاف وعليه قبة. قال السيد محسن الأمين، كان الناس لا يعظمون هذا المشهد، فاتفق في أيام العصابات بعد الاحتلال الفرنسي جاء صادق حمزة بعصاباته إلى جويا يوم السوق، فنظر أحد رفاقه القبة وتكلم بكلام فيه إهانة لصاحبها وأراد إطلاق الناس من بندقيته عليها فقتلته البندقية عندما علقت بثوبه وأراد جذبها فثارت به نارها. فاعتقد أهل القرية أن ذلك كان كرامة لصاحب المشهد فبالغوا من يومها بتعظيمه.
  • مشهد محمد نوف في البازورية بساحل مدينة صور.
  • مشهد المعشوق، قرب مدينة صور، عليه قبّة، وبجانبه قبر عباس المحمد حاكم صور من آل علي الصغير زعماء جبل عامل، وعلى القبر قبة كذلك.
  • مشهد شمع، بساحل صور، يقال أنه قبة قبر شمعون الصفا.
  • مشهد ساري، في ساحل مدينة صيدا، قرب عدلون، لا يُعلم ما هو، عليه قبة.
  • مشهد النبي قاسم، هكذا يسميه العامة، وربما كان فيه قبر أحد أجداد آل الصغير، وربما كان من العلماء، ولا يعرف نبي بهذا الإسم، وهو قرب صور، عليه قبة، ويبعد عن نهر القاسمية نحو 3 كلم جنوباً.
  • مشهد صافي، وهو على جبل مرتفع قرب بلدة جباع، عليه قبة.
  • مشهد سجد، وهو على جبل عال من قمم جبل الريحان، عليه قبة، وكان يزوره اليهود من أقاصي البلاد في فصل الربيع لما يقال من أنه سجد المذكور من أبناء النبي يعقوب.
  • مشهد علي الطاهر، في منطقة الشقيف، عليه قبة.
  • مشهد “أبو الركاب” أو الركب، بالقرب من عرمتى، عليه قبة.
  • مشهد هارون، على ساحل صيدا، وهو منسوب إلى هارون أخي النبي موسى، كان يقصده اليهود للزيارة.
  • مشهد أبو الروح، بالقرب من صيدا، وهو صحابي.
  • مشهد الخضر، في ساحل صيدا، على شاطئ البحر، مقابل الصرفند.
  • مشهد مار الياس، قرب صيدا، فوق الحارة.
  • مشهد فارس البطاح، في الدوير، منطقة الشقيف.
  • مشهد النبي جليل، في الشرقية،، منطقة الشقيف.
  • مشهد نون، في مشغرة كان عليه قبة، فلما جدده أحد المغتربين الشيعة أزالها وسقفه بالقرميد الأحمر.
  • مشهد مري، في مشغرة.
  • مشهد يحيى في حناويه.
  • مشهد صاليم، في عربصاليم.
  • مشهد محمد الباقر، في عين قانا، وهو من علماء جبل عامل.
  • مشهد إدريس، في الغازية قرب صيدا.
  • مشهد النبي عازر، قرب عازور في منطقة جزين.
  • مشهد شحور.
  • مشهد روبيل أو روبين، قرب قرية طيربيخا، في مزرعة تسمى مزرعة النبي.
  • مشهد ناصر بو نصير، في الخيام.

مشاهد وأضرحة مقدسة ذهبت النذور… وبقيت الشواهد على الماضي

واستكمالاً لهذه المشاهد التي سهتم بها أبناء الطائفة الشيعة في الجنوب اللبناني ويجلونها، فإن للطائفة السنية في بلدة شبعا في منطقة العرقوب مسجداً يعرف بإسم “مشهد الطير الإيراهيمي” وتزعم التقاليد المحلية أن هذا المشجد اشتهر بهذا الإسلام لأنه المكان الذي تحققت فيه المعجزة الإلهية،، حيث طلب النبي إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى. فقد جاء في القرآن الكريم: “وإذ قال إبراهيم، رب أرني كيف تُحيي الموتى قال أو لم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال فخذ أربعة من الطير فنصرهن إليك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلم أن الله عزيز حكيم” هكذا جاء في الآية الكريمة 260 في سورة البقرة. ولهذا المشهد حرج موقوف عليه.

اقرأ أيضاً: بادية فحص عن حبها للنبطية..هبة السماء تضيء باقي الطريق!

وقد جدد المشهد سنة 1947م (1367 هـ) في عهد مفتي لبنان السابق الشيخ محمد توفيق خالد الذي جمع له التبرعات من قبل أهل بيروت للإنفاق على تجديده، بيد أن هذا المشهد وكذلك الحرج الموقوف عليه، سطا عليهما الاحتلال الصهيوني في حرب حزيران 1967، وضمهما إلى جملة الأراضي العربية التي اغتصبت آنذاك.

(مجلة شؤون جنوبية – العدد الحادي عشر – كانون الأول 2002)

السابق
عبد اللهيان… إيران المنسجمة مع نفسها
التالي
وفد وزاري لبناني الى سوريا غدا؟!