وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: أفغانستان.. إحيائية براغماتية جديدة

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

ما يقلق في أفغانستان، ليس فشل الأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين، في تأسيس دولة ذات أسس حديثة، أو فشلهم في تعميم السلوك الديمقراطي، في النشاط والتحالف السياسيين. لأن هذا كله كان أمراً متوقعاً، ومسألة التصريح به أو الاعتراف به، كانت مسألة وقت فقط. بل ما يقلق هو سقوط الديمقراطية وحجب مقدماتها، وإرجاء لا محدود لأمد تحققها وفعليتها.  

الديمقراطية لا تستورد من الخارج أو تفرض بفرمان من سلطة عليا بقدر ما هي اختبار فردي وجماعي ونمط سلوك لا ينحصر بالفعل السياسي

فالديمقراطية لا تستورد من الخارج، أو تفرض بفرمان من سلطة عليا، بقدر ما هي اختبار فردي وجماعي، ونمط سلوك لا ينحصر بالفعل السياسي، بل نمط حياة يمتد إلى أكثر مظاهر الحياة اليومية.  كما أن الدولة الحديثة، ليست مجرد تركيب مصطنع بين مكونات متنافرة، أو مجرد قوالب جاهزة تؤطر النشاط العام، بقدر ما هي نتاج ذهنية راسخة ومنتشرة بين الناس، تقوم على عقلانية التفكير، أي التفكير الذي يتقصى أسباب الظاهرة (الطبيعية والسياسية) وقوانينها، بدل إحالتها إلى قدر غيبي غامض، وثمرة فضاء عام، تتقلص فيه التطلعات الفردية والانتماءات الجزئية، وتنمحي بداخله شخصانية السلوك الإداري والسياسي، لتجعل من فعل السلطة والحكم فعلاً ذي طبيعة كلية، أي فعل يشمل برعايته ومنافعه، جميع افراد المجتمع بالتساوي. وهو ما جعل هيغل يرى في الدولة، أعلى تجليات العقل الحر في التاريخ.     

هي أمور ما كان بالإمكان تحققها بفعل وصاية خارجية، أو مجرد بناء صروح إدارية حديثة وأجهزة أمنية متطورة. إذ يتطلب تحقيق ذلك (الديمقراطية والدولة الحديثة) تحولاً في مرجعية المجتمع القيمية، وتولد قواعد مشروعية مختلفة للحكم والفعل السياسيين، ينحسر فيها الإحالة إلى الغيب، وتبدلاً في أطر المجتمع التضامنية، التي تنقله من مجرد جماعات مغلقة ومتجاورة، ذات خصوصيات متضخمة مولدة، لكل صور العدوانية والنزاع، إلى هوية عابرة وجامعة.  هي شروط لا تنبثق فجأة، بل ينتجها تاريخ مجتمعي طويل من الجدل والمعاناة، وإرادة اقتحام المجهول، وجرأة تجاوز الثوابت المتصنمة، بل جرأة تحطيمها، ليتولد من كل ذلك: عراقة حكم سياسي، قوامه الإرادة الحرة والعاقلة، وعقل فردي وجمعي ناقد واستكشافي.

قرار البقاء الأميركي والرحيل في افغانستان كان محكوماً لاعتبارات الأمن والمصلحة القومية

مع غياب هذه الشروط، كان فشل الأمريكيين في أفغانستان طبيعياً وبالتالي متوقعاً. فقرار البقاء والرحيل فيها، كان محكوما لاعتبارات الأمن والمصلحة القومية، ما جعل التأسيسات السياسية والأمنية للوجود الأمريكي، عبارة عن بؤر معزولة وغريبة عن النسيج الافغاني، وأنتج نخباً سياسية وأمنية، وشبكة منتفعين منفصلة عن سياق أفغانستان الثقافي والتاريخي والقيمي. أي أنتج الوجود الأمريكي، واقعاً هشاً فاقداً للجذور الاجتماعية، وقوة النفاذ إلى مجريات حياة المجتمع اليومية، وطاقة الانتشار والتمدد فوق كامل رقعة أفغانستان الجغرافية. 

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: حزب الله.. الغلبة كخيار بديل عن الشرعية

هذا الأمر وفر لطالبان، مساحة واسعة للانتقال والتحرك وإطلاق عملياتها داخل أفغانستان، وحولها من حركة إحيائية وُسمت بالظلامية والإرهاب، إلى حركة وطنية تحارب المحتل، و تدافع عن قيم شعبها وبلدها، وفي مقدمها قيم الإسلام وشريعته.  وهي وضعية أكسبها جاذبية جديدة لتعبئة مناطق الأطراف، وتجنيد الشباب المتحمسين والمهمشين، بالتالي كانت أقرب إلى النسيج الأفغاني، وأكثر قدرة على الإقناع وكسب الولاءات السياسية والعقائدية في الداخل الأفغاني.

تجربة طالبان الطويلة سياسيا وجهادياً، أنتجت قيادات جديدة صقلت قيادتها وخبرتها داخل غمار القتال والسياسة ما جعلها أكثر براغماتية وأكثر واقعية

تجربة طالبان الطويلة، سياسيا وجهادياً، أنتجت قيادات جديدة، صقلت قيادتها وخبرتها داخل غمار القتال والسياسة، ما جعلها أكثر براغماتية وأكثر واقعية. بخلاف قيادات طالبان القديمة، التي أنتجتها المدارس الدينية، ونشأت على نظريات حكم افتراضية، ويحكم قراراتها اعتبارات العقيدة الخالصة، وحرفية النص الديني.  هي براغماتية جديدة تقلل من أعداء طالبان الخارجيين والمحليين، وتجعلها تدير معاركها، وفق حسابات الربح والخسارة، لا وفق معايير الهداية والغواية.  وهو أمر يحول دون عزلتها الدولية، ويؤمن لها استمرارية حكم أكثر استقراراً.

بيد أن براغماتية طالبان، لا تغير من تكوينها العقائدي، ولن يعدل من بناءاتها الإحيائية، في مسائل الحكم وأصول الشرعية السياسية، أو في مسألة الحقوق الجوهرية للإنسان، التي سيكون أكبر ضحاياها المرأة الأفغانية.  براغماتية طالبان، ستكون أقرب إلى تقية منتجة لخطابين: أولهما خطاب عقائدي خالص، وتقيد حرفي بالنص، هو خطاب الدائرة المقفلة والمناضلين، الذين ما تزال فرضية إقامة حكم الله في الأرض، محور انتماءها وباعث نشاطها، هو خطاب تحتاج إليه طالبان للاحتفاظ بصلابة تكوينها، وتماسك قاعدتها وشدة مواجهاتها. ثانيهما خطاب إقناعي ذو منطق تسويغي، يتلبس العناوين الوطنية والحجج العقلية الشكلية، واللغة السياسية ذات الوجوه الدلالية المتعددة.  هو خطاب يُسهِّل على طالبان، اختراق الواقع وتطويعه، والتحكم به سلمياً، ويؤمن لها شبكة موالين، إما منتفعين منه أو مقتنعين بدورها ومحبذين له. 

مع عودة طالبان لحكم أفغانستان باتت مقومات الدولة فيها منتفية، وشروط الديمقراطية ممتنعة

مهما يكن من أمر، تتعلم الحركات الإحيائية من تجارب إخفاقها، مثل باقي الحركات الإحيائية الأخرى، في مصر وليبيا وسوريا ولبنان، لكن تعلمها لن يصل إلى مستوى مراجعة جذرية لأفكارها، ومنظومة معتقداتها وغاياتها الإحيائية، بقدر ما هو تعلم ابتكار آليات ولغة وخطاب أكثر فعالية في الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها. أي تتعلم  الحركات الإحيائية كيف تتمكن، لا كيف تتطور وتعقل. 

مع عودة طالبان لحكم أفغانستان، باتت مقومات الدولة فيها منتفية، وشروط الديمقراطية ممتنعة، ومظاهر الحرية محرمة، والنشاط العقلي معطلاً. هي انتكاسة تمثل حالة انحطاط حضاري، وارتكاس تاريخي طويل الأمد، لا لأفغانستان فحسب، بل لمحيطها العربي والإسلامي. 

السابق
بالصور: زفاف «ملطّخ بالدم» لإبنة فينيانوس ينكأ جراح اهالي شُهداء المرفأ.. والقوى الأمنية تستنفر لحمايته!
التالي
« ايام ساخنة».. إسرائيل لن تسمح بمرور السفينة الايرانية إلى لبنان مهما كلف الثمن!!