وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: 4 أب.. مناسبة إسقاط الآلهة المتخمة بالتفاهة

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

مرارة ذكرى 4 آب، ليس في تذكر الألم والفاجعة والخسارة فحسب، بل في التغييب الممنهج والخبيث لحقيقة ما جرى، والحؤول دون التعرف إلى المسؤولين وملاحقتهم ومحاسبتهم.  بالتالي تأخذ الجريمة قوة مضاعفة: قوة القتل الجماعي، وقوة تحويل يوم الجريمة، يوما اعتيادياً لم يغير أو يعدل شيئاً في مجرى الحياة العامة. 

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: ميقاتي.. حكومة الغطاء على الجريمة

إذا كان أساس شرعية كل من في السلطة هو توفير الأمن، فإن إخفاق أهل السلطة في منع حصول جريمة 4 آب، هذا مع حسن الظن بعدم تورطهم فيها، هو علامة على سقوط شرعية كل من يحكم بإسم الشعب، أو يُشَرِّع ويتخذ القرارات بإسمه، ويحولهم جميعاً إلى منتحلي صفة.  هذا يسري ليس على الرئاسات الثلاث فحسب، بل يسري على المجلس المنتخب، الذي خان أمانة تمثيل الأمة، ولعب دور الحامي والمدافع، عن المشتبه بهم والمتهمين في جريمة المرفأ.  ما يجعله ليس فقط منتحل صفة، بل متأمر على الشعب، وشريك في الجريمة، لا تكفي فيه إقالته السياسية، بل لا بد أن يحال إلى المحاكمة، فرداً فرداً، كتلة كتلة. 

إخفاق أهل السلطة في منع حصول جريمة 4 آب هذا مع حسن الظن بعدم تورطهم فيها هو علامة على سقوط شرعية كل من يحكم بإسم الشعب

   لقد أعطيت هذه السلطة فرصة سنة، وهي كافية لكشف كل ملابسات الحدث بالتفصيل، لكنها بدلاً من أن تسهل مجريات التحقيق، أخذت تبتكر حصانات لتضع نفسها فوق القانون،  وتقوض آخر حصون الأمن والأمان في الوطن، وتتموضع في خندق المتآمرين على الشعب، لا حماته أو ممثليه.

كنا نتوقع من الجيش أثناء هذه السنة أن ينتزع زمام المبادرة، أن يعلن الأحكام العرفية ويحجر على جميع من في السلطة، لأنه بحسب الترتيب، هو الجهة الأخيرة في مؤسسات الدولة لحماية الوطن والشعب، ليس من المعتدين الخارجيين، بل من اللصوص والقتلة الداخليين المتحكمين بأركان الهيكل. لكن وبدلا من ذلك، كانت توكل إلى الجيش مهام كشفية في إخماد الحرائق، وكانت توزع عناصره على محطات الوقود لضبط تدفق السيارات، وعلى مفارق الطرق لتفريق المتظاهرين، واستجداء الدول الممولة لتأمين إعاشات غذائية لعناصره. 

أعطيت هذه السلطة فرصة سنة لكنها بدلاً من أن تسهل مجريات التحقيق أخذت تبتكر حصانات لتضع نفسها فوق القانون

مع عجز التحقيق خلال سنة كاملة في الكشف عن الحقيقة، فإن الجهاز القضائي يفقد أيضاً آهليته وصدقيته، لأنه قصَّر أو ساوم أو تواطأ مع أهل السلطة، للحؤول دون كشف الحقائق وإظهارها، ما جعل الجهاز القضائي نفسه، محل شك وتساؤل حول استقلاليته وعدم تبعيته لقوى السلطة، وتحرره من إملاءاتها، وحول جدية أدائه وشفافية عمله. 

 هل هذه دعوة إلى التمرد، بالطبع لا، لكنها دعوة إلى أن يأخذ المجتمع المبادرة، لا في المطالبة فحسب بل المحاسبة والملاحقة، ويتعامل مع حدث 4 آب، لا بصفته مجرد خطيئة أو خطأ يحاسب عليها القانون، بل جريمة بوزن الخيانة العظمى بحق الوطن والشعب. عندها لا يعود للحصانات أية قيمة، لأن جريمة المرفأ  أسقطت عن هؤلاء ليس فقط الحصانات، بل صفة التمثيل السياسي والقانوني، وجعلتهم متهمين ومذنبين توجه إليهم تهمة الخيانة العظمى، إلى أن تثبت براءتهم.  

الملاذ الاخير للخروج من النفق المظلم هو المجتمع بقواه ومكوناته المتعددة

 مقولة أن الشعب مصدر السلطات، تعني في هذه المناسبة، أن الملاذ الاخير للخروج من النفق المظلم هو المجتمع بقواه ومكوناته المتعددة، الذي تقع عليه مسؤولية المبادرة لإعادة هيكلة الحياة العامة، ويكون بالإمكان بناء نظام أو سلطة، توفر شروط الأمان اللازمة. إنها لحظة الذهاب في طريق اللاعودة، أو التنازل عن الحقوق الطبيعية والمكتسبة، وإطلاق رموز العبث والحماقة لتتحكم بمجريات حياتنا.  

4 آب ليست ذكرى استحضار الألم بل مناسبة تضع لبنان أمام اختبار وجودي غير مسبوق

مناسبة 4 آب ليست ذكرى استحضار الألم، بل مناسبة تضع لبنان كمجتمع متنوع ومتعدد، وكشعب صاحب القول الأخير في تقرير مصيره وحسم خياراته،  أمام اختبار وجودي غير مسبوق، في أن يثبت أنه يملك، لا إرادة البقاء فحسب، بل إرادة الإرتقاء بالحياة وتوفير الشرط الإنساني، الذي يطلق طاقة وحرية الإنسان إلى أقصاها، أمام أن يتحرر من ثقافة القبيلة التي أفرزها الواقع الطائفي، أمام أن ينعتق من عبودية مقنعةتتستر بإسم الهوية المقنعة، والقائد الملهم والزعيم الأب. أمام تحد لا أن ينزل إلى الشارع، ويطلق احتجاجاته واستنكاراته، بل أن يعيد هندسة الشارع وإضاءته، بروح الإصرار العنيد والإندفاع المقتحم ، لتحطيم الأصنام المجوفة وإسقاط الآلهة المتضخمة والمتخمة بالتفاهة، تمهيداً لخلق واقع آخر أكثر نبلاً وأشد إنسانية.     

السابق
بالصورة: بعد رفضه رفع العلم.. مناصرو القوات يعتدون على أحد أهالي ضحايا المرفأ!
التالي
تصعيد فرنسي.. عقوبات ستطال مقربين من عون وبري والحريري؟!