وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: سعد الحريري.. سيرة فشل لا يتوقف

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

عُمُر سعد الحريري السياسي لا يزيد على ستة عشر عاماً. لم يدخل طوعاً أو اختياراً حقل السياسة، بل فرض دخولَه مقتل والده المأساوي، الذي ولد زخماً شعبياً وحالة استنفار مجتمعي عام وتعاطفاً دولياً، وشكل فرصة استثمار ثمينة لإنهاء الوصاية السورية على لبنان، والدفع باتجاه ميزان قوى جديد، أكثر ميلاً لسياسات الغرب، وأقرب وداً إلى دول الخليج، وأقل تأثراً بالسياسة الإيرانية.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: معركة أن يكون القانون أو لا يكون

مقتل رفيق الحريري، والانسحاب السوري الذي تلاه، أحدثا تحولاً في منطق الاصطفافات وطبيعة الولاءات، من تنافس محاصصي لموارد الدولة تحت خيمة تحكم (وصاية) واحدة، إلى تجديد الجدل حول  حقيقة لبنان، وشبكة علاقاته وتموضعاته الدولية، وحول مفهوم الدولة والسيادة والاستقلال ومعضلة السلاح غير الشرعي. هي لحظة تاريخية، وفرت فرصة حقيقية لإحياء مشروع الدولة، وإنعاش الهوية الوطنية، بعدما أطفأ جذوتها التقاتل الداخلي وتفرخ العقائد الرديئة. هي معطيات كان بالإمكان دفعها باتجاه أعادة بناء الدولة على أسس معقلنة، واستعادة الوظائف المستلبة منها، وبناء مجال سياسي متحرر من سطوة الطائفة. 

معطيات كان بالإمكان دفعها باتجاه أعادة بناء الدولة على أسس معقلنة،واستعادة الوظائف المستلبة منها

هذه المهمة أسندت إلى سعد الحريري، أو كان رمزها ورأس حربتها، ليكون بالإمكان الاستفادة من إرث والده السياسي، وتوظيف مأساة القتل المروع لوالده، الذي فجر غضباً شعبياً لم يعد بإمكان الوصاية السورية استيعابه أو السيطرة عليه، واستدر اهتماماً دولياً أنتج محكمة دولية.

لكنها مهمة لم يكن سعد الحريري مستعداً لها، ولم يحمل قدرات ذاتية للقيام بها.  إذ بقدر ما كان الرهان على قيادة سعد الحريري لتلك المرحلة قوياً، بقدر ما كانت إدارة معركة “السيادة والإستقلال” ضعيفة وهشة، وتمنى بخسائر وهزائم وتنازلات متتالية ومتعاقبة. فسعد الذي بدأ رمزاً لمشروع، صار مشروعاً لرمز، أي مشروعاً يتركز في شخصه وشبكة الموالين حوله، بعدما مارس إقصاءات وتصفيات سياسية وتهميش تنظيمي، لكثير من الشخصيات والرموز ذات الكفاءة العالية، تحول معه تيار المستقبل من تيار شعبي منفتح، إلى شبكة موالين وتابعين لشخص، يحرص على اصطناع الكثير من الخصائص والصفات الكاريزمية، للتعويض عن نقص الخبرة وضعف الكفاءة، وخلل التقدير في الكثير من الحالات الصعبة والحرجة.

لكنها مهمة لم يكن سعد الحريري مستعداً لها، ولم يحمل قدرات ذاتية للقيام بها

هذا السلوك، جعل تيار المستقبل يحاكي التيارات والأحزاب الأخرى، في 8 أو 14 آذار، سواء أكان في بنيتها التنظيمية التي تتركز حول شخص أو قطب، أم في اعتبار الوصول إلى السلطة، واحتلال مواقع متقدمة في عملية صناعة القرار، غاية قصوى وهدفاً أخيراً، مقابل المساومة والتنازل عن فكرة الدولة.   

هي وضعية وسعت الهوة بين  مشروع الدولة المُدعى من جهة وبين تيار المستقبل والقوى الحليفة له، التي سميت بقوى 14 آذار من جهة أخرى. هي مسافة بين المعلن والممارس، بين الشعار والواقع.  بالتالي كانت معركة تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري، لا المضي قدماً بما يقتضيه مشروع الدولة، أي ترسيخ السلوك السياسي المؤسساتي والمعقلن، بل تعميم واقع سياسي لا عقلاني، تكون العصبية الطائفية ركيزته وقوامه، والمحاصصة أساس حساباته، والتسويات والتنازلات المتبادلة ذهنيته وخُلقيته. 

ما فعله الحريري برفعه شعار “مشروع الدولة” أنه أساء إساءة بالغة لهذا المشروع، وخيب آمال الداعين إليه والمخلصين له

ما فعله الحريري برفعه شعار “مشروع الدولة”، أنه أساء إساءة بالغة لهذا المشروع، وخيب آمال الداعين إليه والمخلصين له، بحكم أن سلوكه في السلطة والسياسية كان مختلفاً عن أصحاب مشروع اللادولة، بالدرجة لا بالنوع، أي هو من سنخ واحد وغرض مشابه. فالحريري الذي أكسبه قتل والده المأساوي زخما شعبياً كاسحاً، لم يتردد في إجراء تسويات وتنازلات مع قوى اللادولة، وأصحاب السلاح خارج الشرعية، حين أخذ تأييده الشعبي يتضائل ويضعف، ما جعله فاقد المبادرة، ضعيف الحضور، مشكوك في صدقيته، ليتحول آخر المطاف، من خصم إلى حليف ضمني لهم، وينتهي لاحقاً في حضنهم وتحت مظلتهم ومنفذا لأجندتهم، ليؤمن لنفسه حيز وجود سياسي ومساحة سلطة واهنة، مسهلاً عليهم بذلك، بسط سلطتهم وهيمنتهم على كامل الحياة السياسية في لبنان. آثر الحريري أن يبقى شخصه مقابل ترحيل مشروع الدولة.

كان مشهد التكليف ثم الإعتذار الأخير لسعد الحريري أخر فصول الخيبة ومشاهد الفشل المستمر

كان مشهد التكليف ثم الإعتذار الأخير لسعد الحريري، أخر فصول الخيبة، ومشاهد الفشل المستمر، في حصد نقاط قوة محلية وغطاء دولي، وفي إدارة ملف التشكيل، وفي جرأة المواجهة وتسمية الاسماء بأسمائها، وتصويب المعركة باتجاه منتهكي سيادة الدولة، ومنفذي مشروع وصاية جديد ومحكم على لبنان. 

الفرق بين منطق الدولة ومنطق السلطة: أن السلطة تستبيح وتسخر كل شيء  للممسكين بزمامها، أما الدولة فتبقى دائماً والأشخاص يرحلون باستمرار، أي إن الدولة فوق الأشخاص ولا يرتهن وجودها بوجودهم.  إنها فرصة الآن للحريري في أن يعتزل السياسة لينهي مسار الفشل الدائم، ويوقف سيرة الأذى والتدمير الذي يلحقه بمشروع الدولة، ويفسح الطريق لقيادات بديلة أكثر حكمة وشجاعة، ويثبت للناس بأن اعتزاله دليل جدي، على أن إيمانه بمشروع الدولة حقيقي وصادق.

السابق
التسريبات الحكومية تخفّض دولار السوق السوداء.. كم بلغ؟
التالي
أزمة المحروقات عود على بدء.. ودياب يتحرك