وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: معركة أن يكون القانون أو لا يكون

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

الاستدعاءات الأخيرة التي أصدرها قاضي التحقيق بانفجار المرفأ القاضي البيطار، ليست مجرد إجراءات لاستكمال ملف التحقيق أو الكشف عن جوانب غامضة أو حلّ عقد مخفية في ملف القضية، بل هي في عمقها معركة القانون نفسه بصفته مرجعية نهائية وسلطة عليا، في فضّ النزاع وإقرار الحقوق وتحقيق العدل من جهة، وبصفته تجسيداً لمبدأ قيام الدولة على قواعد كلية، يتساوى فيها جميع المواطنين لا في الحقوق فحسب، بل في واجبات الخضوع للقانون والإمتثال لأمره ونواهيه من جهة أخرى.إنها معركة التأكيد على أن القانون صاحب الكلمة الأخيرة، وأن السلطة القضائية هي صاحبة القول الفصل في تفسير قواعده وتطبيق أحكامها.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الثورة..إستنقاذ الدولة من أسر السلطة

فسلطة القضاء ليست سلطة موازية للسلطة التشريعية والتنفيذية، وفق منطق فصل السلطات أو التوازن بينها، بل هي الملاذ الأخير حين تخفق السلطة التنفيذية في مهامها أو تسيء استعمال صلاحيتها، وهي المرجع النهائي في توضيح قانونية أو دستورية تشريع معين. ما يجعل سلطة القضاء صمّام الأمان الأساسي لسيادة القانون، والتجسيد الفعلي للمساواة التي تجعل الجميع سواء أمام القانون. بتعبير موجز، سلطة القانون التي يجسدها القضاء، هي الفيصل بين منطق الغاب وشريعة الحقوق، بين منطق الغلبة ومنطق العدل، بين خُلُق البداوة وخُلُق الدولة.

الجهة الوحيدة التي تملك حق نقض حكم القضاء هو القضاء نفسه ومؤسسة القضاء تعلو القول السياسي

أبسط فهم لسيادة القانون في الحياة العامة، أن لا أحد مستثنى من القانون أو خارجه، ولا أحد فوقه مهما تضخمت شعبيته ومهما كان رصيده السياسي. هذا يجعل القضاء بصفته المؤسسة الموكل إليها حصرا، تفسير القانون وشرحه وإصدار الأحكام المطابقة له، صاحب القرار الأخير في مؤسسات الدولة، سواء في أحكامه أم في إجراءاته. ما يعني أن الجهة الوحيدة التي تملك حق نقض حكم القضاء هو القضاء نفسه، وأن مؤسسة القضاء تعلو القول السياسي ولها قوة تعطيل قرارات السلطة التنفيذية، وملاحقة رموزها في حال أهملوا أو قصّروا أو انتهكوا أخلاقيات موقعهم، وحق ملاحقة أعضاء المجلس التشريعي، في حال صدور جناية أو جنحة أو سوء استعمال للموقع.لذلك حين ترفض أجهزة السلطة التنفيذية الانصياع لقرار القضاء أو تسهيل عمله، مثلما فعل وزير الداخلية محمد فهمي، هي بهذا تجعل نفسها فوق سلطة القضاء، وتجعل نفسها خارج القانون ومناقضة له. فالسلطة التنفيذية منحصرة في إصدار قرارات تنفيذية ذات طابع تدبيري في إدارة الشأن العام، أما أن تبادر إلى إصدار أحكام تنزيه وتبرئة للشخصيات التي تم استدعاؤها، أو التغطية على شخصيات مطلوبة أو صدر بحقّها اتهام أو استدعاء، فهذا تجاوز لحدود سلطتها وتَعدٍ على سلطة القضاء، بحكم أن صلاحية التبرئة والإدانة هي من صلاحيات القضاء حصراً.

ترسيخ منطق بديل لمنطق القانون القائم تكون ركيزته لا قاعدتي المساواة وحفظ الحقوق بل موازين القوى القائمة

وعندما تُصرِّح قوة نافذة ومهيمنة بسلاحها، بأن الاستدعاء القضائي مسيّس، مثلما صرح أمين عام حزب الله، في مسعى منه لنقض هذا الاستدعاء وإبطال مفعوله، والتصرف كأنه لم يكن، فإن هذا ليس تجاوزاً لصلاحية هذه القوة، بحكم أنها لا تملك أية صلاحية رسمية، وإنما بمثابة إعلان تمرد على سلطة القضاء، والحلول مكان القضاء في تحديد ما هو قانوني وما هو غير قانوني، ما هو مُسيَّس وما هو غير مسيّس. بالتالي ترسيخ منطق بديل لمنطق القانون القائم، تكون ركيزته لا قاعدتي المساواة وحفظ الحقوق، بل موازين القوى القائمة، التي تمنح صاحب القوة الاقوى والأكثر فتكاً، أي قوة الغلبة، القول الأخير والنهائي، لا في التدبير فحسب بل في تحديد قانونية الأشياء وعدم قانونيتها.

عدم قانونية استدعاء قضائي لا يكون برفضه والتمرد عليه بل يكون بنقده أو نقضه عبر سلطة القضاء نفسها

نزاهة الافراد وإنجازاتهم لا تعفيهم من المساءلة، وعدم قانونية استدعاء قضائي لا يكون برفضه والتمرد عليه بل يكون بنقده أو نقضه عبر سلطة القضاء نفسها. المسألة هنا ليست في صحة الاستدعاء القضائي أو عدم صحته، بل في مرجعية القضاء وحقّه الحصري في فض النزاعات وإصدار الأحكام القانونية. وأي نقد أو نقض من خارج جهاز القضاء وأصول إجراءته هو الحلول مكان الدولة والقضاء في تقدير صحة الحكم وعدمه.

إنها مسألة الاستعداد الصريح والثابت، للتقيُّد بمؤسسات الدولة ومرجعياتها في تدبير الشأن العام، إنها مسألة تعميم ثقافة القانون والالتزام به، حتى لو كان يعاني من ثغرات في بعض بنوده أو في تطبيقه، إنها مسألة الاحتكام إلى القانون ذي القاعدة الكليّة، التي تتعدى الاعتبار الذاتي والشخصي لا أخذ الحق باليد، إنها مسألة الإنتماء لوطن لا لحزب أو طائفة، إنها مسألة أن يكون هنالك دولة أو لا دولة، أن يكون هنالك قانون أو لا يكون.

السابق
بعد اعتذار الحريري.. الدولار يُحلق بجنون في السوق السوداء!
التالي
بالفيديو: صدمة على وجوه المراسلين بعد تلقيهم نبأ اعتذار الحريري!