حارث سليمان يكتب لـ«جنوببة»: المسلمون والمسيحيون.. ما تجمعه الجينات لا تفرقه العصبيات!

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

هل هوية الانسان تختصر بالانتماء الديني؟ والجواب بديهي طبعا لا.  الانسان ليس كائنا دينيا بحتا، وهوية الانسان هي هوية مركبة الابعاد فيها بعد ديني، يظهر في ظروف الاضطهاد الديني، ويضعف في اطار مجتمع متسامح وحر، لكنه ليس في كل حال، البعد الاساس الدائم والمُقَرِر، بل واحد من  ابعاد قد تبلغ بضع عشرات او اكثر… 

فهل يتطابق الانسان المسيحي اللبناني مع الانسان المسيحي الاوروبي، وهل خيارات المسيحي اللبناني مطابقة لخيارات المسيحي الايطالي او الاسباني او الفرنسي!؟ 

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: صراحة واجبة الإعلان

اذا كان الدين يختصر الهوية، فيجب ان يكون التطابق بين مسيحيي المشرق كاملا، وبين هؤلاء ومسيحيي الغرب كاملا، فماذا نستنتج عندما نتحقق من ذلك! ؛ المسيحي الاوروبي أخرج الكنيسة من السلطة، واعتمد الزواج المدني حتى في ايطاليا، وشرع الاجهاض في دول الغرب خلافا لرأي الكنيسة، وعرَّفَ نفسه كمواطن في دولة ترعى الامة.            (Nation-Éat-citoyen) 

هل يرضى المسيحي اللبناني في لبنان بما رضي به المسيحي الفرنسي لفرنسا!؟ طبعا لا يرضى!وعلى الرغم من ذلك فان ثمة وهماً في مخيال شريحة واسعة من مسيحيي لبنان، انهم جزء من اوروبا والغرب، ولا ينقشع ويسقط هذا الوهم، الا لحظة انتقال المسيحي المشرقي الى دول اوروبا، حيث يُعاملُ كمشرقي اجنبي، لا كأخٍ في الدين،  وهو امر حصل ويحصل مع كل مسلم لبناني، شاءت ظروفه ان يعيش في تركيا او ايران او غيرها. واذا كان هناك من خلاف في الخيارات بين مسيحي هنا، ومسيحي هناك، فايهما الخيار المسيحي الحقيقي اذن!؟

هل الهوية المبنية، بشكل حصري، على الانتماء الى المسيحية او الى اي دين آخر، هي جوهر لا يتغير عبر الزمن

ما ينطبق على المسيحي ينطبق على المسلم، خاصة اولئك المسلمون الذين يرفعون الشعار الزائف؛ ” الاسلام هو الحل” حسنا اي إسلام هو الحل!؟ ففي العقائد، ثمة ٧٢ اسلاما على الاقل، وفي تجارب السلطة والحكم ثمة خمسة او ستة نماذج حكم اسلامية، في باكستان والسعودية وايران وطالبان والدولة الاسلامية، وحكم الاخوان في مصر وتجربة اردوغان في تركيا، وما زال قائما البحث عن  الحل وتائها؟! 
الجانب الآخر من الاشكالية هي علاقة الهوية المزعومة المبنية على المذهب الديني بالتاريخ وتطور الزمن؟! فهل الهوية المبنية، بشكل حصري، على الانتماء الى المسيحية، او الى اي دين آخر، هي جوهر لا يتغير عبر الزمن، فتبقى أبدية سرمدية ثابتة، منذ المسيحية الاولى وحتى اكتشاف الجينوم البشري واسراره الشاملة!؟ 

وهل الهوية المسيحية في عصر قياصرة روما، هي هي، نفس الهوية في عصر حروب الفرنجة وغزوات الغرب لشرق المتوسط وساحله، و هل هي ذاتها بعد قيام الدول الحديثة نتيجة الثورة الصناعية الكبرى؟ وهل ستبقى جامدة في عصر العولمة وثورة الاتصالات والهندسة الجينية والنانوتقنية!؟ 

هل الهوية، حتى في بعدها الديني، معطى متشكل غير منجز، يتبلور  ويتغير ككل معطى ثقافي حضاري، ويتفاعل حسب عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وتربوية، ويتأثر بأحداث وحروب وثورات، كما  تُكَيِّفُها وتُعيدُ صياغتَها فلسفاتٌ ونظرياتٌ فكرية، يحيث يتزاوج في داخلها، المعطى الجوهري الاولي، بالمعطى الزمني المكتسب والمتحول في الزمان والمكان.

بعض النخب التي تذهب بعيدا، في البحث عن جوهر ثابت للهوية المسيحية منذ عصورها الاولى، يشبهون علماء الاحاثة الذين وجدوا في صمغ نباتي DNA الديناصورات، علماء الاحاثة هؤلاء نجحوا في اكتشاف اصل الانواع وتطورها، وادركوا انهم اكتشفوا جينات مخلوقات انقرضت الى الابد، في حين ان اصحابنا من الفدراليين، حسبوا ما وجدوه كصبغة جينية، مخلوقا خالدا  ثابتا في كل زمان ومكان.

الخلط بين الانتماء الاثني والانتماء المذهبي  في لبنان نفاق وتزوير.. فحسب دراسة علمية للصبغيات الجينية في لبنان لا فارق بين صبغيات الشيعة والسنة والموارنة والمسيحيين فكلهم من اصل جيني واحد والتطابق يصل الى ٩٥%

التجارب الفدرالية في العالم ليست قائمةٌ على اساس الانتماء الديني  ؛ كندا، اميركا، الهند، المانيا، والامارات وغيرها فيدراليات،  كل قسم منها متعدد وغني بتنوعه، وليس فيها مقاطعة بروتستانية واخرى كاثوليكية وثالثة اسلامية. الفدرالية في اكثر البلدان كانت نظاما جديدا، أتى ليوحد مقاطعات منفصلة وليس لتفكيك انظمة موحدة. الخلط بين الانتماء الاثني والانتماء المذهبي  في لبنان، نفاق وتزوير، فحسب دراسة علمية للصبغيات الجينية في لبنان، لا فارق بين صبغيات الشيعة والسنة والموارنة والمسيحيين، فكلهم من اصل جيني واحد والتطابق يصل الى ٩٥% .

وتاريخ لبنان الحديث يظهر كيف غيرت الكثير من العائلات الكبرى ديانتها ومذهبها حسب ظروف السياسة والسلطة. اذن في لبنان ليس هناك تعدد اثنيات، بل اثنية واحدة، هي نتيجة تفاعل وتزاوج كل شعوب المشرق، من الفينيقيين الى الكنعانيين الى الساميين الى القحطانيين والعدنانيين، مرورا بالسريان والكلدان، وفي الاصل السومريين ثم الاراميين، و ما تعاقب على العيش في بلاد ما بين النهرين واليمن القديمة، والشعوب الهندواوروبية. 

لا يشكل المسلمون في لبنان اي خطر على المسيحيين، ولا يسعون الى تهجيرهم

ليس هناك الا النموذج السويسري الذي خلق فدرالية على اساس (ديني_ اثني_لغوي) وليس على اساس ديني فقط. نقيض النظام المركزي اللبناني ليس بالضرورة نظام فيدرالي، بل قد يكون “لا مركزية ادارية انمائية موسعة”، ومرسوم ترتيب الاراضي الذي اقرته الحكومة اللبنانية سنة ٢٠٠٩، يرسم الهيكلية الادارية والعمرانية والاقتصادية  لنظام غير مركزي، يستجيب لمندرجات اتفاق الطائف الذي يلحظ قيام اللامركزية الانمائية الموسعة.

لا يشكل المسلمون في لبنان اي خطر على المسيحيين، ولا يسعون الى تهجيرهم، او منعهم من التعبير عن تطلعاتهم او ممارسة شعائرهم الدينية، او تغيير نمط حياتهم الذي لا يختلف عن نمط حياة اكثرية المسلمين، في المأكل والمشرب والافراح والاتراح والمناسبات الاجتماعية، وهم يتفاعلون ويتعاونون دون تردد، في الشركات والمصارف والاسواق التجارية والمصانع، والجامعات والمؤسسات الصحية و المستشفيات  ومؤسسات التعليم الخاصة، وفي الملاهي والمطاعم ومنتجعات السياحة والتسلية والترفيه.

الخطر الاساسي على المسيحيين هو في جنوح شريحة من زعمائهم، الى أخذهم الى حروب عبثية

الرسالة البابوية الدائمة لمسيحيي لبنان، هي الحفاظ على العيش الاسلامي المسيحي المشترك، لبقاء لبنان الرسالة. الخطر الاساسي على المسيحيين هو في جنوح شريحة من زعمائهم، الى أخذهم الى حروب عبثية نتيجة رهانات خاطئة، عند كل منقلب في موازين القوى الاقليمية،  وفي ميل الكثير من نخبهم الدينية والثقافية، الى نشر وتحميل وجدانهم، ثقافة كراهية الاخر والخوف منه.

وثقافة الكراهية هذه، ليست من اصل المسيحية ولاهوتها، بل هي  نزعة سياسية فكرية، يقوم بها ويروج لها، كل زعماء اليمين المتطرف في اوروبا من لوبين فرنسا الى هايدر النمسا الخ …  وهذه النزعات معزولة في اوروبا ولا تشكل في احسن احوالها، اكثر من ١٥% من الراي العام المسيحي الاوروبي.الحقيقة انه في كل لبناني مسلم، شيء من المسيحية، كما في كل لبناني مسيحي، شيء من الاسلام، هذا تراكم تم خلال مئة سنة من عمر لبنان وهو مجال يتوسع ويتقدم. 

وعلى ارض الحقيقة والواقع ، فان هذا الحيز الحي من مقومات العيش المشترك في لبنان، قد ساهمت به نخب علمية تربى قسم منها، في مؤسسات التعليم الكاثوليكية وفي الجامعات اللبنانية المنبثقة من الارساليات الاجنبية، وتاتي دعوات الفدرالية الدينية اليوم، من بعض رموز هذه النخب، لتنكر فضلا ساهمت به، ومعروفا نالت شرف العمل به. هذا الحيز الحي من  العيش المشترك، هو مستقبل لبنان ومفتاح الرجاء له، وهو أمانة لا يصح التخلي عنها.

السابق
الأحواز العطشى تُلهب الاحتجاجات في إيران.. وفيديو يوثّق اطلاق الأمن النار على المحتجين!
التالي
«ميقاتي يا ميقاتي غيرتلي حياتي».. وهّاب يُغرّد عن الحكومة ويتوقّع انخفاضاً حاداً للدولار!