حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: في تفاهة المنظومة وإرتهانها.. فعل إجرامي فاضح

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

 السياسةُ أصلاً، وبمعناها النبيل  هي إدارةُ الشأنِ العامِ ومصالحِ الناس، بالعملِ على تأمينِ حُقوقِ عموم المواطنين الأساسيةِ، في الأمن والحرية والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وتنمية مهاراتهم وقدراتهم وادارة مواردهم بغية رفع مستوى معيشتهم، وتأمين استشفائهم وتعليم ابنائهم وتحسين نوعية استهلاكهم.

وهي جَهْدٌ منسقٌ، لتسييرِ المرافقِ والخدماتِ العامة وتطويرِ مواردِ البلاد الإقتصادية وثرواتها الوطنية، وحمايةِ حدودِها وسيادَتِها ومصالحِها الأساسية، وصونِ وحدة الوطنِ وسلامة أراضيه، والقيادةُ السياسيةُ حين تُنجزُ هذه المهماتِ وتَلتزِمُ هذه الواجباتِ، تَنالُ ثِقَةَ القاعدةِ ورضا المحكومين وقبولَهم.

ولذلك فان تبوأ المناصب السياسية أكانت نيابة، أو وزارة، أو رئاسات سلطات دستورية كرئاسة الجمهورية أو الحكومة أو المجلس النيابي، هو تكليف مؤقت ومشروط؛ مؤقت يخضع لمهلة محددة ومنقطعة، تحدد بداية الولاية ونهايتها، ومشروطة بنجاح من يتولى المسؤولية في إنجاز العمل، الذي أُنتُدِبَ له.

ولذلك فإن إشغالَ المنصبِ العامِ، هو أشبه بوديعةٍ أو أمانةٍ، يُسَلِّمُها الشعبُ أو يُودِعَها لِمَنْ يَنْتَخِبُهُ أو يَخْتارُه لحَمْلِ المسؤولية، ويَستطيعُ أن يَسترِدَّ الوديعةَ متى شاءَ، خاصةً عندما يَفشلُ المسؤولُ في تَوَلِّي مُهِمَته وإِنجازها، فيتقدمُ باستقالتِه ويُعْفَى من مهامِه،  فليس هناك أيُ حقٍ مُكرّسٍ، لأي جهة أو شخص بأي سلطة، حين لا يتحقق الصالح العام، والولاية الدستورية لأية سلطة يقطع الفشل حبلها، وينهي أمَدَها خُروجُ أَداءِ السُلطةِ عن الصالح العام.

انفجار مرفأ بيروت كان يعني من ضمن معانيه الكثيرة فشل المنظومة الأمنية اللبنانية بأجهزتها كافة في حماية العاصمة ومرفئها وسكانها

لا ينهي عدم توفر الصالح العام، والوقوع في دائرة العجز والفشل في ممارسة المسؤولية، ولاية او انتداب او تكليف السلطات المنتخبة فقط، بل ينهي ايضا، وللضرورة تولي المناصب التنفيذية والمهمات الادارية والامنية، ومن بداهة الامور أن انفجار مرفأ بيروت كان يعني من ضمن معانيه الكثيرة، فشل المنظومة الأمنية اللبنانية بأجهزتها كافة، في حماية العاصمة ومرفئها وسكانها، وكان طبيعيا وبديهيا أن يلجأ رؤساء الأجهزة كافة، الى تقديم استقالات فورية وطوعية، تحملاً منهم، لفشل في أداء واجباتهم الوظيفية، وامتثالاً لمبدأ الخضوع لميزان المساءلة الادارية والاخلاقية على الاقل!!

أما اللجوء الى التلطّي برفض اعطاء اذونات الملاحقة، او التمترس خلف الحصانات النيابية، فليس إلّا محاولةٌ لجعل اصحاب السلطة والنفوذ فوقَ القانون، وخارج ميزان العدالة والمساءلة. أما التفويض الشعبي، لإنتاج سلطة سياسية، فترعاه وتحدُدُه القوانين والدساتير وتقاليدُ الأنظمة السياسية، وآلياتُ تَكَوُّنِ السُلطَةِ وتداوِلِها وإعادةُ تكوينها، والالتزامُ بذلك، يُنْتِجُ قانونيةَ السُلطَةِ ويُضْفي على القِيادة المُنْتخَبَة صِفَة الشرعية.

التلطّي برفض اعطاء اذونات الملاحقة او التمترس خلف الحصانات النيابية فليس إلّا محاولةٌ لجعل اصحاب السلطة والنفوذ فوقَ القانون

والشرعية التي يتمتع بها الحاكم، مشروطه بسلوكه الإلتزام بأحكام الدستور وإختياره الطوعي تطبيق القانون، وفي حالة رئيس الجمهورية، يضاف الى ما تقدم وظيفة السهر على تطبيق الدستور واحترامه، واذا كانت مضبطة الاتهام التي صدرت عن جهابذة العلم الدستوري في لبنان، قد ثبتت في متنها؛ ان الجنرال عون قد خرق الدستور في اربعة عشر ممارسة سياسية، فأن شرعية رئيس الجمهورية اصبحت معلقة وواهنة، بانتظار نتائج محكمة ينشؤها مجلس النواب، ويبت فيها ادانة رئيس الجمهورية وعزله لخرقه الدستور،  او اسقاط الاتهامات عنه وتثبيت شرعيته. فهل يدعو مجلس النواب الى جلسة تخصص لهذا الامر، ويتم التوصل فيها الى قرار!؟

بين رضا المحكومين من جهة أولى، وولاية السلطة من جهة ثانية، كتكليف مؤقت بمدة محددة، ومشروط بالصالح العام، والشرعية الدستورية من جهة ثالثة، المستندة لالتزام بآليات شفافة وقانونية لتكوين السلطة، تكتمل أهلية السلطة لاحتكارها، إستعمال العنف طبقا للقانون وليس خروجا عليه، وتتولى الإمرة على القوات المسلحة وادارة المرافق العامة والثروات الوطنية.

يتضح مما تقدم ان انعقاد المجلس الاعلى للدفاع برئاسه عون وحضور اعضائه، هو فاقد للاهلية السياسية والقانونية، حتى لو التزم حدود صلاحياته التي يوردها قانون انشائه، وهو هرطقة مضحكة مبكية، حين يستعمل بديلا عن مجلس وزراء لحكومة مستقيلة لا تجتمع!!؟ 

اجتماع المجلس الاعلى للدفاع هو هرطقة مضحكة مبكية حين يستعمل بديلا عن مجلس وزراء لحكومة مستقيلة لا تجتمع!!؟ 

من البديهي أنَّ مسألةَ القيادة السياسية تكتسبُ خطورةً، لا حدود لها، في تقرير مصائر الشعوب ومستقبل أجيالها، ولذلك ففي المجتمعات الحديثة، فإن القاعدة العامة هي؛ أن لا إرثَ في السياسة، لأن المنصبَ ليس ملكيةً خاصة يتصرف بها صاحبها في حياته، ويوصي بها لأقرب احبائه من بعد وفاته.

وغنيٌّ عن القول أنَّ ممارسة التوريث السياسي عبر الاحزاب والانتخابات، هي ممارسة متخلفة تنتمي مفاعيلها الى انظمة القبيلة الابوية، أمَّا إستعمالُ مقاليدَ الدولةِ وصلاحياتِ سلطاتِ المؤسسات الجمهورية، من أجل تمكينِ الوريثِ من استلام السلطة كتركة أو إرث من صاحبها، فهو أمرٌ يستدعي الإدانة كجريمة سياسية في الحياة العامة، والرفض، كفساد موصوف بمحاباة الأقرباء، وانتهاك صارخ لمبدأ تداول السلطة واعادة تكوينها.

إقرأ ايضاً: صاروخا الجنوب..«حزب الله» وإسرائيل و«ضرب موزون» على التهدئة!

وغني عن القول ان استعمال صلاحيات الرئيس، وحقه بتوقيع مراسيم تشكيل الحكومة، كورقة ابتزاز  وضمان لتوريث صهره منصبا او نفوذا في السلطة، هو أمر غير مسبوق في تاريخ الدول، ويرقى الى جريمة تمارسها منظومات مافوية اجرامية.

ويُظهر جليا ان مهمة القيادة السياسية في اي بلد، هي مهمة لا يصح ان يتولاها إلّا هاماتٌ وطنيةٌ، تتصفُ بالقيَّم العُليّا والخِبْرة والمعرفة، وتلتزمُ القوانينَ والدستورَ وتضبطُ خطواتِها وممارساتِها، طِبْقاً لنصوصِها ومعاني حيثياتها.فهل تَنطبقُ السياسةُ وابعادُها على واقعنا اللبناني، بحيث أنَّ سُلطتَنا الحاكمةَ تَنتَظِمُ في منطق المفاهيم السياسية الواردة أعلاه، و هل يلتزم رجالُ السياسة، بالضوابطِ التي تفرضُها آلياتُ الدولةِ الحديثة!؟

قبل انتفاضة ١٧ تشرين وافتضاح نتائج الأزمة الاقتصادية والمالية اللبنانية، وتعرية المنهبة التي مورست في حق شعب لبنان واجياله كافة، لم تكن  السلطة في لبنان تمارس الانتظام السياسي والدستوري، فمؤسسات النظام  السياسي كانت عاطلة عن أي عمل، وكانت الدولة تسيَّر من خارج هيكلياتها، وتؤخذ القرارات خلافا للدستور وانتهاكا للقوانين كل القوانين، من قانون السير … الى قانون التنظيم المديني والبناء… الى قوانين الملكية الخاصة والعامة وصولا الى قانون المحاسبة العمومية… وقانون النقد والتسليف.

وكانت تُسَيَّر القرارات والالتزامات والمناقصات، لمصلحة مجموعة ضيقة من رجال الاعمال والمال من ” الهبيشة”، وهم شركاء وغطاء،  لنادي مقفل  للسلطة الحقيقية، ناد عدده لا يتعدى سبعة اشخاص فقط، هم، بدورهم أيضا، مندوبون حصريون لقوى اقليمية متعددة، قوة كل واحد منهم من قوة حامله الاقليمي،  وضعفه من ضعف راعيه، وقرارهم جميعا من قرارات اسيادهم. لذلك يَخْتلِطُ في لبنانَ، مَعنَى السياسةِ في أذهان العامة، مع معان أُخرى غريبة عن معناها المحدد أعلاه، وتتلخص بالنسبة لقسم كبير من الشعب، بكونِها سعيٌ لحيازة السلطة والتحكمِ في قراراتها، وممارسةُ النفوذِ وَصَرْفِهِ، والقدرةُ على توزيع مغانم الحكم وتجييرُ خدمات المرافق العامة، أما لمنفعة خاصة واثراءٍ من السلطة واما لتوزيعها على شبكة زبائنية من الانصار والمحاسيب.

لذلك سادَ ويسودُ في أوساط لبنانية عديدة، خطابٌ يزدري  السياسةَ ويتنصَّلُ من ممارستِها، ويتبدى ذلك في بيئات عديدة تتبرأ من العمل في السياسة وتتعفف عن ممارسته، ويظهر ذلك اولا في خطابات رجال الاعمال والفاعليات الاقتصادية، فينبري العديد من هؤلاء الى المطالبة بفصل الاقتصاد عن السياسة، وهم يقصدون ان لا يؤثر الخلاف بين الاحزاب السياسية، حول النفوذ والحصص في السلطة على قطاعات الاقتصاد ونشاطاته، وتَظْهَرُ هذه الدعوةُ ساذجةً خادعةً، بسبب حقائق بسيطة، أولها أن الدعوة لتحييد الاقتصاد عن السياسة،  اي أن تفسح شبكة مصالح زعماء الاحزاب السياسية الطائفية والمرتهنة لرعاتها في الاقليم، ان تفسح هذه الشبكة على مسطح معاركها، لحيز يتيح لرجال الاعمال والاقتصاد، ان يمارسوا نشاطاتهم ويحققوا ارباحا وانجازات اقتصادية.

المقولة هذه تفترض، ان هذه الطبقة السياسية محكومة بنزق ايديولوجي وعقائدي، يجعلها لا تبالي بالأرباح وحركة الرساميل، وفات هؤلاء ان هذه الطبقة تتمسح بالايديولوجية والعقائد وحتى المقدسات، لا لشيء الا لتحقيق الارباح وجني الاموال والثروات، ولذلك فهي في الوقت الذي تملأ فيه الدنيا ضجيجا من أجل العقائد والمقدسات، تلعب تحت الطاولة لعبة الصفقات والبازارات… فالداعون الى فصل الاقتصاد عن السياسة، ليسوا اكثر من سذج بسطاء في احيان قليلة، او في أكثر الاحيان، اصحاب مصالح يحاولون غواية اصحاب القرار بحصص من التنفيعات.

ومن المعروف والمسلم به ان  مهمات وواجبات، اي سلطة طبيعية، هي إعادة توزيع الثروة من خلال النظام الضرائبي، وخدمات التعليم والاستشفاء وتقديمات الرعاية الاجتماعية. لذلك فان الخيارات الاقتصادية هي مسألة سياسية بامتياز، وممارسة السياسة تعني تنفيذ قرارات وبرامج إقتصادية، تختلف إتجاهاتها ونتائجها باختلاف أجندات الأحزاب السياسية وتوجهاتها.

الخيارات الاقتصادية هي مسألة سياسية بامتياز وممارسة السياسة تعني تنفيذ قرارات وبرامج إقتصادية

وأما الحيز الذي كان هؤلاء يطالبون به قبل الازمة وتداعياتها، لممارسة النشاطات الاقتصادية من خارج السياسة، فإنه الحيز ذاته الذي تركه حزب الله متاحا لغيره، بعد ان امسك بمفاصل القرار الاستراتيجي والسياسي والأمني على مساحة لبنان، وتحَكَّم بحدود لبنان ومعابره وعلاقاته العربية والدولية، وقيمته لا تتعدى قيمة جائزة ترضية تعطى لبقية اطراف السلطة، بعد ان استولى حزب الله على كل الجوائز الكبرى في السحب الوطني الكامل، وهذا الحيز هو ورقة تين ضرورية،  لستر عورة هيمنة ايران على لبنان ولتخفيف اكلاف هذه الهيمنة.

أما اليوم فان حزب الله المأزوم اقتصاديا، في ظل العقوبات الاميركية على ايران وتشكيلات فيلق قدسها في لبنان والاقليم، وفي ظل قانون قيصر على نظام الاسد، لم يعد قادرا على ترك الحيز الذي اعتاد تركه كجوائز ترضية، من عائدات الفساد والصفقات التي كان يتكرم بها على اطراف المنظومة المشاركة في سلطته في لبنان، بهذا المعنى فان انفراط عقد التسوية الرئاسية، وتفكك وحدة المنظومة الفاسدة الحاكمة، في لبنان، لم يكونا الا مظهرا ونتيجة لنضوب عائدات الفساد في لبنان، والا ثمرة لاضطرار حزب الله، لاستبدال مصادر تمويله ودعمه، التي شحت ونضبت من ايران، الى استبدالها بمصادر أموال لبنانية، منها ما فرضه على مصرف لبنان امداده بها، تحت عناوين المواد الاستهلاكية المدعومة كالوقود والادوية، ومنها ما جناه من عمليات التهرب من الرسوم الجمركية، والضريبة على القيمة المضافة، واخيرا عوائد  تجارة المخدرات والسلع الممنوعة. 

في الطور الذي وصلت اليه أزمة لبنان، أصبح واضحا أنَّ أحزاب السلطة السياسية، لم تكتف بان تنتهك كل مقاييس السياسة بكل أبعادها؛ من ثنائية رضا المحكوم وشرعية الحاكم، الى احترام مهل الولاية، ومشروطية انقطاعها بسبب الفشل، الى خرق الدستور والقانون وعدم مراعاة الصالح العام،  بل انتقلت الى طور ادارة اقتصاد أسود مواز، وصولاً الى تهريب المخدرات وتبييض الاموال، وانتهاك القانون  المحلي والدولي.

و بناءً لكل ما تقدم، تنفرد منظومة الأحزاب  اللبنانية بأسبقيتها عالميا، لتحويل الحياة السياسة وأجهزة السلطة، من ادارة للصالح العام، الى هيكل يغطي افعالا جرمية ويسهل ارتكابها.تلك الممارسةُ السياسيةُ، صنعت الكارثةَ وبددَّت مُدَّخَرات شعب بكامله، ودفعت لبنان  الى هاوية الإنهيار والمستقبل المجهول.

أدى الى تجويف الداخل اللبناني ليصبح خاويا انتاجا واعلاما وثقافة ومالا وارتهان قوى الداخل للخارج الاقليمي

لم يكن ذلك قدرا محتوما، ولم يكن صعبا ان يتيسر للبنان ساسة اكفياء و نخب شرفاء، يعيدون تأسيسه وتعريف دوره ووظائفه، طبقا لشروط العصر والحداثة  وتحديد ميزاته التفاضلية، لتأسيس اقتصاد المعرفة والبحث العلمي وتطوير قطاعاته المنتجة وزيادة تنافسيتها، واستغلال كفاءاته العلمية الشبابية، ورفع الانتاجية الاقتصادية فيه، ولاصلاح ادارة الدولة وبيئة الاعمال، وضمان عدالة قضائية منصفة وسريعة.

وقد بينت تجارب كثيرة في الحياة السياسية اللبنانية، وجود هامات وطنية قادرة على تنكب هذه المهمة وانجازها، لكن تفاهة البنى الطائفية وانقياد قواعدها الى صراع الهويات الزائف والقاتل، اسقط هذه الهامات جميعا، وأدى الى تجويف الداخل اللبناني، ليصبح خاويا انتاجا واعلاما وثقافة ومالا، و أدى ارتهان قوى الداخل للخارج الاقليمي، و أدت سياسات اسرائيل وسورية الاسد، وصولا الى الخراب الزاحف من ايران عقائد وحروب ودسائس وجيوش وفيالق، الى جعل وطن الارز رهينة هيمنة ايرانية بطبعة واحدة، تقاوم أي تعديل!!.ولعله من نقطة النهاية هذه، يمكن ان تبدأ اول بدايات اعادة تأسيس الوطن.

السابق
صاروخا الجنوب..«حزب الله» وإسرائيل و«ضرب موزون» على التهدئة!
التالي
«كورونا» يُحلّق..632 إصابة جديدة!