حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الفيدرالية بين «الوطن المسيحي» و«الإستعصاء الشيعي»!

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

ما زال لبنان يهوي في لجة الانهيار، في وقت تتفكك وتتلاشى يوما بعد آخر، قطاعاته المختلفة، سواء كانت طبية أو تعليمية أو انتاجية، وتنقطع الخدمات والحاجات الاساسية اليومية، وتستمر المنظومة السياسية الحاكمة، في الاصرار على البقاء في السلطة، وعلى استغلال الازمة للتربح منها واستعمالها سلاحا في وجه الناس وعذاباتهم، وتتقصد اذلالهم وكسر ارادتهم، وهي بعد ان لجأت للتهديد بالحرب الاهلية خلال مظاهرات الاعوام الماضية، تسعى اليوم الى استعادة سجالات الحرب الاهلية نفسها، حول صيغة الحكم في لبنان وطبيعة نظامه السياسي، فمن حروب الصلاحيات الرائجة الى حقوق الطوائفيات، الى طروحات تفسير الدستور وضرورات تعديل اتفاق الطائف، الى اعادة الاعتبار والدعوة الى نظام فيدرالي او وطن قومي مسيحي، تبتغي المنظومة الحاكمة ضرب قيم ثورة ١٧ تشرين وثقافتها الحديثة العابرة للطوائف، وكي وعي الاجيال الشبابية التي فجرت الثورة وتبنت شعار الدولة المدنية، متجاوزة الاحزاب الطائفية وزعمائها.

اقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الفيدرالية.. من «لبنان الكبير» الى «حزب الله»!


وتشكل اعادة طرح “الوطن القومي المسيحي” الوجه الآخر للعملة ذاتها، من مقلب آخر، العملة التي أطلقت في وجه المظاهرات الشعبية هتافات ” شيعة شيعة،…فالدعوة لثورة مضادة، يتطلب حتما اعادة رسم الخطاب الاعلامي والسجال السياسي، بما يزيف حقيقة الازمة الراهنة، ويصورها على انها انقسام جماعات مذهبية ودينية، وصراع هويات ماضوية، بدل انتفاضة شعب في وجه منظومة سياسية فاسدة، قادت لبنان الى الافلاس والخراب، وهي منظومة مرتهنة وخاضعة لمحور اقليمي، يقوم على “تحالف اقليات” مشرقية، تقوده ايران وتستعمل الاقليات الدينية، كحاضنة اجتماعية لسيطرتها على دول المشرق العربي، والامساك بقراراتها السياسية الاستراتيجية، ومن اجل زعزعة استقرار دول الخليج العربي واخضاعها، والخراب الذي يطبع وجه لبنان يطبع وجه الشرق ايضا، فحيث قويت شوكة تحالف الاقليات بقيادة ايران، حل خراب الدولة الوطنية وتفككت مجتمعاتها وانهار اقتصادها.

تستمر المنظومة السياسية الحاكمة في الاصرار على البقاء في السلطة وعلى استغلال الازمة


لذلك فان محاولة تسويق الطرح الفيدرالي في لبنان، او الوطن القومي المسيحي، كانه شأن داخلي بحت، او انه رد بنيوي يطور النظام السياسي الذي فشل بسبب مركزيته، او لأن المسلمين قد طمعوا بحقوق المسيحيين، والحل بإعادة ترسيم حدود الطوائف وتمتين حصانتها، أو أَنَّ الشيعة التي اختطفتهم ايران، من خلال حزب الله، هم سبب الأزمة وأنِّ مجرد الانفصال عنهم، يعيد الى لبنان ازدهاره وتقدمه، هو طرح تبسيطي يجانب الحقيقة، ويخدع الناس عبر ترويج أوهام وفخاخ قاتلة.

محاولة تسويق الطرح الفيدرالي هو طرح تبسيطي يجانب الحقيقة ويخدع الناس عبر ترويج أوهام وفخاخ قاتلة


والمسيحيون اليوم ومعهم كل شعب لبنان، ليسوا بحاجة الى خدع بصرية وبهلوانيات جديدة، توَّصِفُ أزمتنا على انها ازمة في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين ،فالمسيحيون قد خبروا عنتريات تجار السياسة وبائعي الشعارات الزائفة؛ كمثل شعار استعادة الجنسية اللبنانية للمغتربين، لتصحيح غياب التوازن الديموغرافي الطائفي، فبعد عشرات المؤتمرات الاغترابية، التي طافت عواصم العالم وشغلت فنادق بيروت، ليتقدم صاحب العهد ببيان عدد المسيحيين الذين طلبوا استعادة الجنسية اللبنانية!؟ وهل اسهم هذا الشعار بتعديل التوازن الديموغرافي أو تحسينه!؟

المسيحيون اليوم ومعهم كل شعب لبنان، ليسوا بحاجة الى خدع بصرية وبهلوانيات جديدة


اما الوهم الثاني فهو السعي لزيادة نسبة اقتراع المسيحيين، عبر تمكين لبنانيي الانتشار من الاقتراع في السفارات : فليفصح لنا بائعو الاوهام عن نسبة المسيحيين، الذين اقترعوا في انتخابات ٢٠١٨من عدد المقترعين في الخارج !؟ وحقيقة الامر ان اعداد من تسجلوا للاقتراع لم يتعد ٩٠ الف ناخب، في حين ان عدد من أنتخب منهم كان اقل من ٧٠ الف، و نسبة المسيحيين منهم لم تتجاوز ٣٠%.
من ناحية أخرى، لا بد من الاعتراف ان الاستعصاء الشيعي، الذي تمثل بقيام حزب الله بإعادة فك وتركيب الاجتماع السياسي الشيعي، في ظل الوصاية السورية والدعم الايراني المستمر منذ اربعين سنة، قد انتج عسكرة للطائفة الشيعية، وسيطرة سياسية وأمنية ودينية على مقدراتها ومؤسساتها وبلدياتها ومنتدياتها ومنابرها، وبما جعل من حركة امل والمؤسسات الدينية الشيعية، تابعة لخيارات حزب الله وسياساته.

اعداد من تسجلوا للاقتراع لم يتعد ٩٠ الف ناخب في حين ان عدد من أنتخب منهم اقل من ٧٠ الف ونسبة المسيحيين منهم لم تتجاوز ٣٠%


لكن هذا الاستعصاء الشيعي الذي استند الى تشيع ولاية الفقيه على المستوى الثقافي، لم يكن ليتحول الى استعصاء وطني لبناني، والى سيطرة وهيمنة كاملة على مقاليد السلطة في لبنان، لولا اتفاق مار مخايل لبنانيا وتحالف الاقليات على مستوى المشرق إقليميا، وكما استطاعت الثنائية الشيعية ان تنال تأييد اكثر من ٨٠% من اصوات الشيعة، استطاع التيار العوني نيل ٧٠% من أصوات المسيحيين في دورتي انتخابات ٢٠٠٥ و٢٠٠٩، ولذلك فان ايران اختطفت الطائفة الشيعية، ترغيبا وترهيبا، تحت الرعاية السورية رافعة عنوان ولاية الفقيه، فيما اختطفت لبنان برضى اغلبية مسيحية وازنة، تحت عنوان تحالف الاقليات، وخروج لبنان اليوم من ازمته، مشروط بالخروج معا من ولاية الفقيه، ومن منطق تحالف الاقليات على السواء، ومنطق الفيدرالية منطق يستظل بفيء اشكالية الاقليات ونزوعها للاستفادة من حماية خارجية.

هذا الاستعصاء الشيعي لم يكن ليتحول الى استعصاء وطني والى سيطرة وهيمنة كاملة لولا اتفاق مار مخايل لبنانيا


فهل قيام نظام فيدرالي في لبنان، يفسد خريطة النفوذ الايراني وموقعها في قيادة حلف الاقليات، ام يعزز هذا الحلف ويسهل لايران ادارته والتحكم بسياساته!؟ والجواب واضح وصريح من خلال تجربة الفيدرالية العراقية، التي مكنت ايران ليس من التحكم بكل اقاليم العراق وثرواته وموارده الطبيعية، بل ايضا بممارسة نفوذها في مناطق الطائفة السنية والاثنية الكردية.


واذا كانت الفيدرالية تعني ابقاء السياسة الدفاعية، والسياسة الخارجية، والسلطة النقدية، والموارد الطبيعية، في عهدة الحكومة المركزية الموحدة، فاي حل ستقدمه الفيدرالية على مستوى حل مشكلة سلاح حزب الله، او الامساك من قبل الدولة اللبنانية بقرار السلم والحرب، وباي منطق سنقنع حزب الله بان الحق الحصري باستعمال العنف تطبيقا للقانون، هو حق حصري للجيش اللبناني والاجهزة الامنية اللبنانية، في حين يقدم النموذج الفبدرالي السويسري، وهو النموذج الذي يعتبره الفيدراليون القدامى والجدد، نموذحهم المثالي والمرتجى، فالاتحاد الفيدرالي السويسري لا يمتلك جيشا فيدراليا بتاتا، بل يوكل امر الدفاع عن سويسرا لحيادها ولميليشيات شعبية في كل كانتون، فهل غاب عن فطنة الفيدراليين انهم يهدون حزب الله هدية قيمة، بحل الجيش اللبناني المركزي، لصالح سيادة تنظيمه المسلح، وميليشيات رديفة من سرايا المقاومة، في الكانتونات الاخرى، وسيكون ذلك تطبيقا حرفيا للفيدرالية السويسرية. واذا كان تكوين الاقاليم الفيدرالية على اساس الهوية الدينية، فكيف يمكن قيام حياد فعلي للكانتون الشيعي بعلاقته بمرجعيته الدينية في ايران، وكيف يبقى لبنان الفدرالي محايدا!؟

كيف يمكن قيام حياد فعلي للكانتون الشيعي بعلاقته بمرجعيته الدينية في ايران وكيف يبقى لبنان الفدرالي محايدا!؟


أما بالنسبة للسياسة الخارجية فاي حل ستقدمه الفيدرالية، واي خيارات ستعتمدها اذا كانت هذه السياسة، تتطلب اجماع رؤساء الكانتونات الاربعة، السلام والتطبيع مع اسرائيل، أم متابعة تحرير القدس والصلاة في المسجد الاقصى، تحسين العلاقات مع دول الجامعة العربية، ام الاكتفاء بالتحالف مع سورية الاسد، والهتاف بالموت لآل سعود. الاتجاه شرقا وتوسيع دائرة الاتفاقية الصينية الايرانية لتشمل لبنان، ام الحفاظ على علاقات لبنان مع الغرب واوروبا ودول العالم الاخرى !؟

لا تستطيع الفيدرالية حل اي ازمة من هذه الازمات ولا مواجهة تحديات قادمة

لا تستطيع الفيدرالية حل اي ازمة من هذه الازمات، ولا مواجهة تحديات قادمة، كاكتشاف موارد نفطية او غازية في مناطق الجنوب اللبناني، بعد تعذر وجود في البحر مقابل مدينة البترون، فاي صراعات تنتظر، واي خلافات ستنشب في نظام فيدرالي يتنازع الموارد والاستثمار فيها!؟
لا تستطيع الفيدرالية حل معضلات النزاع، على الخيارات الوطنية المركزية التي تواجه لبنان اليوم فحسب، بل تخلق مشكلات جديدة على مستويات اخرى، تلحظها صلاحيات سلطة الكانتون، في مجالات معايير رسم حدوده وممارسة الامن الداخلي، والتعليم الخاص والانتخابات البلدية، و النظام المصرفي والتجارة الخارجية وغيرها، وهو ما سنعالجه في مقالات لاحقة.

السابق
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الثلثاء في 22 حزيران 2021
التالي
بالصورة: فاجعة هزّت الجنوب.. وفاة الأم وبناتها الأربعة بحادث سير في السعديات!